يعلمنا الراحل مهدي عامل درسا مهما في كتابه «في الدولة الطائفية»؛ وهو أنه لا يمكن للطائفة ان تكون قائمة بذاتها ولذاتها، وفق التمييز الماركسي الشهير، خارج أطار الدولة ومؤسساتها، وأن الدولة الطائفية هي التي تنتج الطوائف وتمنحها وجودها الحقيقي.
لا يمكن للطائفية أن تتحقق إلا عبر الدولة نفسها، فالشعور أو السلوك الطائفي الفردي، أو حتى الجماعي، مهما كان متطرفا، يبقى هامشيا غير ذي قيمة خارج السياق الاجتماعي، وهو قابل للتقييد عبر وسائط الضبط الاجتماعي أولا، والقانوني ثانيا. ولكن الطائفية تتجسد وتتحول من وجود بالقوة على المستوى النظري، إلى وجود بالفعل على المستوى العملي عبر الدولة ومؤسساتها حصرا، عندها فقط يمكن الحديث عن «الطائفية»!
يوم امس كان هناك حوار في إحدى مجموعات الواتساب حول موضوع الفريق التحقيق الدولي بمناسبة تعيين مستشار خاص جديد لهذا الفريق الذي تشكل بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2379 لسنة 2017 بهدف «دعم الجهود المحلية الرامية إلى مساءلة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عن طريق حفظ وتخزين الأدلة في العراق على الأعمال التي قد ترقى إلى مستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية التي ترتكها… في العراق». وكان تعليقي على هذا الخبر أنه كان يفترض بالأمم المتحدة أن تعطي لهذا الفريق الولاية للتحقيق في جميع الجرائم التي ترقى لأن تكون جرائم حرب او جرائم ضد الإنسانية ارتكبت في العراق وليس جرائم داعش حصرا! وأنه ليس من العدالة أن يتم توثيق الجرائم على أساس «هوية فاعلها» بل يجب أن يتم توثيق الجرائم وفقا لطبيعة الجرائم نفسها أيا كان مرتكبها، خاصة وأنه يتم في العراق «انتقاء» جرائم محددة لإدانتها وتخليدها، لأسباب طائفية بحتة، وفي الوقت نفسه ثمة محاولات منهجية لإخفاء جرائم موثقة أخرى لا تقل بشاعة، عبر إنكارها، أو محاولة التغطية عليها، وسلطات الدولة ومؤسساتها كافة شريك أصيل في ذلك! وأن الأمم المتحدة/ مجلس الأمن نفسه قد تورط في تكريس هذه «التغطية» وهذه «الانتقائية» عبر قراره هذا من دون الالتفات إلى أن الاستخدام السياسي اللاأخلاقي لمآسي المواطنين لا يمكن له إلا أن يُضيع حقوقهم، ويجعل الجاني الحقيقي يفلت من العقاب، وأنه لا يمكن إنصاف ضحايا بإنتاج آخرين في سياق الانقسام المجتمعي والسياسي الحاد القائم في العراق اليوم.
وكانت المفارقة أن أحد أعضاء المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق، وهي هيئة مستقلة بموجب الدستور، ولكنها ليست كذلك في الحقيقة وتحولت إلى ممثلية للأحزاب! علق على ما قلته بالقول أنه «لا توجد أي مقارنة بين جرائم داعش وجرائم أخرى أرتكبت، ولو كان هناك توثيق للأمم المتحدة لما غضت النظر» لتنتهي إلى أن ما قلته «فيه تقليل لبشاعة وجرائم داعش»! من دون أن أعرف كيف يمكن للمطالبة بالتحقيق في جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية الأخرى التي ارتكبت في العراق أن تكون تؤول بهذه الطريقة المفرطة!
للرد على «مفوضة حقوق الإنسان» نشرت خمس وثائق تتعلق بجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية ارتكبت في العراق في سياق الحرب على داعش؛ الأول فيديو لجريمة إعدام خارج نطاق القانون لطفل في مدينة الإسحاقي في محافظة صلاح الدين، ويظهر الفيديو تحقيقا سريعا يقوم به أحد الضباط مع الطفل الصغير (بحدود 12 سنة) ثم لتقوم قوات عسكرية وأمنية مختلفة (اعتمادا على شكل ولون الملابس العسكرية) بإعدامه ميدانيا! والفيديو الثاني لعملية إعدام طفل آخر خارج نطاق القانون في الموصل عبر اجباره على التمدد على الأرض لتقوم دبابة عسكرية بسحقه تحت سرفتها!
لن تكون الطائفية سوى شراكة الدولة نفسها في التغطية على الجرائم لأسباب طائفية بحتة
والفيديو الثالث لعملية إعدام خارج نطاق القانون لشخص مقيد اليدين، تقوم بها قوات عسكرية عراقية! والوثيقة الرابعة رابط لتقرير نشرته صحيفة أكسبريسن السويدية بتاريخ 28 حزيران/ يونيو 2017 بعنوان «مقاطع فديو تكشف جرائم بشعة في الحرب ضد داعش» ويعرض التقرير أربعة فيديوهات توثق عمليات تعذيب جماعية، وعمليات قتل/ ذبح خارج إطار القانون (أحدها عملية ذبح لشخص يقوم بها عسكري يذكر اسمه في التقرير بشكل صريح!) والوثيقة الأخيرة كانت نص من أحد تقارير بعثة الأمم المتحدة في العراق توثق فيه عملية إخفاء قسري لمدنيين نازحين في محافظة الأنبار، يقول التقرير: «في يومي 4 و5 تقريبا من شهر حزيران/يونيو [2016]، فر آلاف المدنيين من قريتهم من الصقلاوية بالقرب من الفلوجة … فاعترضتهم جماعة مسلحة مساندة للقوات الأمنية العراقية، حددها الشهود بانها من كتائب حزب الله. وقامت الميليشيا على الفور بفصل نحو 1500 من الرجال والصبيان المراهقين عن النساء والأطفال …
وفي يوم 5 حزيران تم فصلهم إلى مجموعتين؛ تتكون أحداهما من 605 رجال وصبي، والثانية من حوالي 900 شخص. بعد أن تم تسليم المجموعة الأصغر إلى السلطات الحكومية، بما في ذلك جثث أربعة رجال، تبين الصور التي التقطت لهم لحظة تسليمهم أن أيديهم كانت مقيدة، وبدا عليهم انهم تعرضوا للضرب حتى الموت…
وتم إعداد قائمة تضم 643 رجلا وصبيا مفقودين، فضلا عن 49 آخرين يعتقد أنهم إما أن يكونوا أعدموا تعسفيا أو عذبوا حتى الموت».
لتجيب «مفوضة حقوق الإنسان» بكل ثقة بأن هذه الوثائق المصورة «مفبركة» من دون ان تشاهدها! لتقول: «لا يشرفني أن أشاهدها وهي تسيء لبلدي وأعلم خسة وفبركة داعش فحكمت من دون ان أراها»! أما عن الوثيقة الخامسة فتقول: «الواقعة حقيقة… لكن هل لدى الأمم المتحدة شكوى واحدة موثقة موقعة باسم الجهة التي أخذتهم… انا أجيب لا… ألا يمكن أن يرتدي الدواعش زي القوات الأمنية ويقوم بذلك»!
هكذا بكل سلاسة، وبساطة، وثقة، ترفض «مفوضة حقوق الإنسان» في الدولة العراقية أن تشاهد فيديوهات توثق جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية لأنها «تسيء لبلدها»! وتحكم بكل ثقة بأنها «مفبركة» من دون مشاهدتها أصلا! ولتطالب «الضحايا» المهددين من المليشيات في كل لحظة بأن يقدموا شكاوى لدى الأمم المتحدة «موثقة وموقعة باسم الجهة التي أخذتهم»! مع الحرص الشديد على التغطية على المجرمين من خلال التشكيك المسبق بان «داعش» هي الفاعل!
هنا لن تكون الطائفية متعلقة بشخص السيدة «مفوضة حقوق الإنسان» بل بوظيفتها في إطار الدولة (مهمة المفوضية بموجب قانونها هو: ضمان حماية وتعزيز احترام حقوق الإنسان في العراق)! ولن تكون الطائفية سوى شراكة الدولة نفسها في التغطية على الجرائم لأسباب طائفية بحتة، بدليل أن جميع من شارك في هذا الحوار في مجموعة الواتساب، ومعظمهم يمتلكون صفات رسمية في الدولة، لم يكونوا أقل حرصا من «مفوضة حقوق الإنسان» على التغطية على الجرائم!
ألم نقل دائما أن الدولة الطائفية، والداعين لها، وحماتها، والمتواطئين معها، والساكتين عنها، والمدلسين عليها، لا يمكنهم في النهاية إلا أن يقودونا إلى الخراب.
يحيى الكبيسي
القدس العربي