هل يحدث في العراق أن يمنح العربُ الشيعة والسنة أصواتهم، طواعية وبحرية وقناعة، لمواطن كردي أو مسيحي أو تركماني أو صابئي فيمكنوه من أن يكتسح في الانتخابات، ويحصد أكبر عدد من مقاعد البرلمان، ويهزم الأحزاب الدينية الكبيرة التي اتخذت الدين الإسلامي جسرا عبرت عليه إلى الحكم، فأفقرت ناخبيها، وأحيت فيهم الأحقاد الطائفية والعنصرية، وزرعت في نفوسهم الرعب، ونهبت أموال دولتهم فأفلست خزينتها، وقتلت واغتالت وغيبت وهجرت الآلاف، وما زالت تفوز في الانتخابات تلو الانتخابات دون عقاب؟
إن الخلل في العراق ليس في الناخب العراقي، إنما هو في العملية السياسية الملغومة التي زرعها الحاكم الأميركي بول بريمر ومستشاروه بمشاركة المرجعية، ومعاونة الانتهازيين الجوعى للمال والسلطة والسلاح.
فالصوتُ الشيعي للشيعي، والسني للسني، والكردي للكردي، ولا شيء غير ذلك. أما برنامج المرشح فليس مُهما ولا ضروريا للفوز بأصوات الناخبين، ناهيك عن تاريخه ومواهبه وكفاءته ونزاهته.
مناسبة هذه المقالة هي الزَلزَلة الانتخابية التي شهدتها المملكة المغربية أخيراً لتُثبت أن الشعب إذا أفاق وكشف وغضب يستطيع أن يفعل المعجزات.
فالشعب المغربي صبر على الإخوان المسلمين المغاربة (حزب العدالة والتنمية) عشر سنوات، ثم قرر أخيرا أن يبطش بهم، ويطردهم من دواوين الحكومة والبرلمان، ومن مجالس الولايات (المحافظات)، وإدارات البلديات في الأقضية والنواحي، وبما يشبه الفضيحة المجلجلة.
فقد أعلن وزير الداخلية المغربي (الإخواني) عن هزيمة حزبه وفوز خصمه حزب التجمع الوطني للأحرار برئاسة رجل الأعمال المغربي (الأمازيغي) عزيز أخنوش بحصوله على 97 مقعدا من مقاعد البرلمان مقابل 13 مقعدا فقط لحزب العدالة والتنمية الحاكم، بعد أن كانت له 120، وحلول حزب الأصالة والمعاصرة (الليبرالي) في المرتبة الثانية بـ82 مقعداً.
وليس هذا وحسب، بل فشل رئيس حكومة المغرب سعدالدين العثماني في الفوز بمقعد في البرلمان لتثور عليه قواعد الحزب وعلى أعضاء الأمانة العامة، وتضطرهم جميعا إلى الاستقالة، فوراً، ودون جدال.
وهذا يعني أن الحكومة القادمة، ولمدة خمس سنوات، ستكون بالكامل للعلمانيين والليبراليين، وسيقودُها رجال أعمالٍ كانوا ناجحين في مشاريعهم التجارية الخاصة فأراد الشعب المغربي منهم أن ينقلوا نجاحاتهم إلى الحكومة.
وهنا نتساءل ما هو سر الهزيمة التي مُني بها إخوان المغرب (العدالة والتنمية)، وقبلهم إخوانُ تونس (النهضة)، وقبلهم (جماعةُ الإخوان المسلمين) و(حزبُ الحرية والعدالة) في مصر، وقبلهما (القومي الإسلامي) في السودان، و(الإخوانُ المسلمون) في الأردن؟ طبعا، وعلى امتداد ربع القرن الأخير، تبيَّن أن المبدأ المشترك الثابت لجميع الإسلاميين في الدول التي تهيّأ لهم أن يحكموها هي استماتتهم في احتكار السلطة، ثم في أخوَنتِها بسرعة وشبق وعنف وعناد وغباء، مع فقرٍ شديد تتشارك فيه جميعُ أحزابهم في الخبرة والكفاءة والأمانة والنزاهة.
رغم أن حكومة الإسلاميين المغربية لم تكن هي الأسوأ بين الجماعات الإسلامية التي تعرضت لعقاب شعوبها.
فالمغرب، والحق يقال، وطن مستقر وآمن، حتى في ظل حكم الإسلاميين، والمواطن فيه مالكٌ لحريته شبه الكاملة، حيث أن تظاهرات الفئات الشعبية المختلفة لا تتوقف، وتتعمد أن تحاصر البرلمان ودار الحكومة وتحرسها قوى الأمن ولا تعتدي على أحد متظاهريها بالهراوات والكواتم والرصاص الحي.
مع أن الخدمات والاحتياجات الأساسية من الماء والكهرباء والغذاء والدواء والسكن متوفرة ولا غبار عليها. والشوارع والساحات مزهَّرة مشجَّرة منظَّفة ومنوَّرة أربعا وعشرين ساعة.
ولو حدث في المغرب واحدةٌ فقط من الموبقات التي ارتكبها ويرتكبها الحكام الذين يضعون عمائمهم على رؤوسهم أو يخفونها في قلوبهم لقلب الشعب المغربي الدنيا على رؤوسهم منذ زمن بعيد.
فالذي فعله الإخوان المسلمون (الشيعة) و(السنة) في العراق (حزب الدعوة ورفاقه في البيت الشيعي)، والمشاركون معه من الأحزاب السنية والكردية المستظلّة بخيمة الولي الفقيه أو العم سام أو الخليفة أردوغان على مدى سبعة عشر عاما من 2005 وحتى موعد الانتخابات القادمة التي يتهيأون للفوز فيها في أكتوبر القادم، لم يفعله قبلهم الإخوان المسلمون في مصر، ولا النهضة في تونس، ولا الجهاديون في ليبيا، ولا حسن نصرالله في لبنان، ولا الحوثيون في اليمن، ولا رفاقهم في الصومال وأفغانستان.
أطفالٌ عراقيون بالملايين دون مدارس هائمون في الشوارع مع الكلاب السائبة. والملايين من المواطنين دون مياه شرب، ولا صحة، ولا دواء ولا هواء ولا كهرباء. والعاطلون عن العمل تغص بهم مقاهي الوطن الحزينة وأرصفة شوارعه المحطمة. وقصص القتل العمد، والاغتيال والاعتقال الكيفي، والسجون السرية، والمقابر الجماعية، والاختلاسات المليارية، والتهجير والتزوير والتجهيل والتضليل يومية ولا تنقطع.
ورغم كل ذلك الإسلاميون العراقيون فازوا في الانتخابات السابقة، وسوف يفوزون في الانتخابات القادمة، مهما فعل المتظاهرون التشرينيون، ومهما زيفت وزورت مندوبة الأمم المتحدة المنافقة في العراق.
ولا بد من الاعتراف هنا بأن الذي زاد من فرقة الشعب العراقي واحترابه، وجعلَ كل طائفة من طوائفه عدوة الأخرى تتفرج على مصائبها، وتفرح لحزنها، وتحزن لفرحها، هو وقوع الوطن العراقي الصغير بين جيران أشداء وأقوياء وحاسدين وطامعين وجدوا فيه مداخل هيّنةً تسللوا منها إلى عمق نسيجه الاجتماعي، فمزقوه شرَّ ممزق، وساعدهم على ذلك سياسيون انتهازيون جاهزون للعمالة والخيانة، ومستعدون لبيع أهلهم وأوطانهم لمن يدفع، حتى صار العراقيون مجاميع متناحرة متقاتلة، طائفة في وجه طائفة، وقومية ضد قومية، ودينا ضد دين.
فهل يفعلها الشعب العراقي هذه المرة فيثأر لكرامته وينقذ سمعته ويثبت للعالم أنه شعب أبيٌّ وعزيزُ نفسٍ وشجاع مثل المغاربة والتوانسة والمصريين؟ أم سيبقى الحمام هو الحمام، والطاس هو الطاس، أو قد يحدث الأسوأ، فيتوّج الناخبون المجهلون المضللون المباعون والمشترون رئيساً للوزراء وقائدا عاما لقواته المسلحة واحداً من أكثر المطلوبين للعدالة، نوري المالكي مثلا أو هادي العامري أو حيدر العبادي أو مصطفى الكاظمي أو واحدا من عبيد عمار الحكيم، أو من خدم مقتدى، ليبدأ تاريخٌ عراقي جديد بمآسٍ جديدة ومن نوع جديد؟ الله يستر.
العرب