كما لو كان ناطقا بلسان حال كل زعماء العالم الغربي، قال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون “إن الإرهاب فشل في أن يهز إيماننا بالحرية والديمقراطية”.
“الحرب ضد الإرهاب” فشلت أيضا في أن تهز إيمان الإرهابيين بأنهم يحاربون عدوا تستوجب محاربته.
الرؤيتان معا تسجلان انحرافا مشهودا عن الحقيقة وتضعان قيم العدالة والمساواة الإنسانية في محنة مؤلمة ومخجلة. ويكاد يصعب القول إن طرفي هذه الحرب سوف يتوقفان عنها، لأنها بالنسبة إليهما مسألة إيمان مطلق.
الإرهابيون الذين شنوا هجمات الحادي عشر من سبتمبر لم يرتكبوا جريمتهم ضد الحرية والديمقراطية. هذا تصور تافه، لا يستحق حتى التعليق عليه. ولكن هذا التصور كان هو السلعة التي يبيعها الزعماء الغربيون، لكي يبرروا ما ارتكبوه هم من سياسات عنف وجريمة.
لقد كان كل واحد منهم إرهابيا أسوأ من أسوأ داعشي، من حيث الأفعال. ولا أستطيع مقارنة أي زعيم غربي حمل طائراته وصواريخه ليدمر أمة بأسرها، بأسامة بن لادن.
بن لادن إرهابي متواضع، في الواقع.
داعش إيمان آخر لا يأبه بالعاقبة، يوازي الإيمان الذي يرتكب بتفوقه العسكري كل ما يرتكب، ولا يأبه بالعاقبة
أحد أوجه القسوة الغربية في الرد على جريمة الحادي عشر من سبتمبر، كان ينطلق بالذات من مشاعر التفوق العنصري. وبما أنه تفوق عسكري وتكنولوجي وعلمي ومادي، من دون أن يكون تفوقا أخلاقيا أو إنسانيا يحترم أي قيم، فقد كان من الطبيعي أن يتحول الرد إلى عمل من أبشع أعمال الانتقام وأكثرها همجية. تحول إلى غزو وحرب دمار شامل. ليس لبلد واحد وإنما لبلدين، بل وحوّل منطقة الشرق الأوسط كلها إلى رهينة لسياسات الانتقام.
الإرهاب غبي. ليس لأنه وسيلة العاجز والفاشل، وليس لأنه يعالج أزمة بأسوأ منها، بل لأنه لا يحترم القيم التي يدّعيها.
الإرهاب الآخر ظل يفعل الشيء نفسه. ومثلما ازداد الإرهاب تطرفا، حتى بات قتلا أعمى، فقد زاد إرهابيو الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها إرهابهم وحشية أيضا.
الحرب ضد الإرهاب لم تكن على الإطلاق حرب خير ضد شر. لقد كانت، وما تزال حتى الآن، وستبقى، حرب شر ضد شر. كل طرف فيها يدعي قيما كاذبة، ويمارس أفعالا وحشية ويوجد لها تبريرات.
“القاعدة” تراجعت لتخلي مكانها لداعش. لقد كان هذا المنعطف طبيعيا تماما. تنظيم داعش ولد من رحم الجريمة التي تم ارتكابها في العراق. لا شيء أكثر. جاءت الولايات المتحدة إلى هذا البلد لكي تدمره. وكانت تعرف تماما ماذا تفعل. ولم تكن مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة لتغفل عن معنى أن يتم تفكيك الكيان الاجتماعي في هذا البلد ليتحول إلى طوائف متحاربة. لم يتم تفكيك الدولة وحدها. ولا تم نهب ذاكرتها التاريخية كأمة عندما تم تدمير المتحف الوطني العراقي، ولا تم هدم مؤسسته العسكرية، بل تم فوق كل ذلك تسليم قيادة البلد إلى رعاع ولصوص وأنصاف أميين ومزوري شهادات وبياعي محابس و”هتلية” من قاع المستنقع.
وماذا فعل هؤلاء غير أنهم أتموا رسالة “الحرب ضد الإرهاب” الغربية؟ ماذا فعلوا غير أن أرسوا، بما ارتكبوه من جرائم وأعمال وحشية، المبرر الواقعي لنشأة داعش؟
الولايات المتحدة ما تزال تدعم كل جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين. وتتغاضى عن فشل عملية السلام، وتترك للإسرائيليين أن يستولوا على المزيد من الأراضي الفلسطينية، حتى بمقاييس الخرائط المأساوية والظالمة التي انتهت إليها اتفاقات أوسلو.
لا يحسن بأي أحد أن ينسى أعمال القصف الوحشي ضد مدن الفلوجة والرمادي وتكريت وسامراء والموصل، تلك التي لم تتورع الولايات المتحدة عن استخدام أسلحة مما يقع على ضفاف ما يعتبره العالم مُحرّما، حتى قُتل نحو مليون إنسان، وتهجر نحو 5 ملايين غيرهم.
وهل كانت أعمال التعذيب الوحشية في “سجن أبوغريب” إلا شيئا وثيق الصلة بإيمان القادة الغربيين بـ”الحرية والديمقراطية”؟ وعندما افتضح أمر هذا الإيمان، فقد أوكلوا المهمة لرعاعهم الذين افتتحوا سجونا دخل إليها أكثر من 400 ألف إنسان، ولم يخرج منها شخص واحد بمشاعر إنسانية على الإطلاق. فكان من الطبيعي لتنظيم داعش أن يكون هو النتيجة.
داعش إيمان آخر لا يأبه بالعاقبة، يوازي الإيمان الذي يرتكب بتفوقه العسكري كل ما يرتكب، ولا يأبه بالعاقبة.
وبينما سمح المؤمنون بالحرية والديمقراطية أن يغتصبوا النساء والرجال (في السجون وخارجها) في العراق، فقد سمحوا لأنفسهم أن يمارسوا كل تفوقهم التكنولوجي في أعمال القتل الجماعي ضد الأفغان، ومن ثم سلطوا عليهم مَنْ عجزوا حتى عن أن يقيموا نظاما قادرا على الدفاع عن نفسه.
ذهب بن لادن، وبقيت عندنا البنلادنية. لم تكسب الولايات المتحدة معركة القلوب والعقول. فلسطين ما تزال علة العلل. والدعم الغربي لإسرائيل وتغاضيه عن جرائمها يوفر للإرهاب الفرصة لكي يغذي بها إيمانه
قليل على هذا الواقع أن يكون هناك داعش واحد. وهذا ما يحصل الآن. الداعشية التي انتصرت في سوريا، على طرفي جبهات القتال، وصلت إلى ليبيا والنيجر وموزمبيق وغيرها في أفريقيا. وستظل تتسع كنموذج للانحطاط، يناظر تماما نموذج “الحرية والديمقراطية” الزائف.
ثقافة الانتقام الوحشي التي حملت هذا النموذج إلى أفغانستان والعراق انتهت إلى أنها انهزمت بما فعلت. فعادت طالبان لتحكم، وانقلب الرعاع على راعيهم في العراق.
الداعشية الغربية هي التي أنتجت داعش. دع عنك كل الكلام التافه عن الحرية والديمقراطية. هذه الداعشية أصلٌ من أصول النظرة العنصرية؛ أصلٌ تمده القوة العسكرية والتكنولوجية والعلمية والغنى المادي بكل يحتاجه من مشاعر تفوق واستعلاء.
ذهب بن لادن، وبقيت عندنا البنلادنية. لم تكسب الولايات المتحدة معركة القلوب والعقول. فلسطين ما تزال علة العلل. والدعم الغربي لإسرائيل وتغاضيه عن جرائمها يوفر للإرهاب الفرصة لكي يغذي بها إيمانه.
في الحرب بين الشر والشر لا يوجد منتصر. الإرهابيون خسروا بضعة أنفار بينما خسرت الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق نحو 8 آلاف قتيل وأكثر من 100 ألف جريح وثلاثة تريليونات دولار. وخسرنا نحن، بأعمال الانتقام الغربية، الملايين من الضحايا، وخرابا غير مسبوق.
يحتاج المرء إلى مخيلة عظيمة لكي يعرف مَنْ يمكنه أن يكون الفائز في هذه المحنة.
الطرف الذي سيغلب في النهاية هو الطرف الذي يستدرك إيمانا حقيقيا بقيم العدالة والمساواة والأخلاقيات الإنسانية.
الغرب، أبعد من أن يستطيع ذلك. نحن نستطيع.
العرب الللندنية