في 5 فبراير/ شباط، أكد مسؤولون أردنيون الإفراج عن العراب الفكري لتنظيم القاعدة، أبو محمد المقدسي، من السجن. وعلى الرغم من أنه غير معروف كثيرًا في الغرب؛ إلا أنه لا مثيل لأهمية المقدسي في الفكر الإسلامي (المتطرف) لدى أي شخص على قيد الحياة.
وقد ارتفع هذا الرجل الفلسطيني -الذي يبلغ من العمر 56 عامًا- إلى الصدارة في الثمانينيات، عندما أصبح أول عالم إسلامي راديكالي كبير يعلن أن العائلة المالكة السعودية “مرتدة”؛ وبالتالي هدف مشروع للجهاد. وفي ذلك الوقت، كانت كتابات المقدسي متطرفة لدرجة أن أسامة بن لادن نفسه كان يعتقد بأنها متشددة جدًا.
واليوم، يَعْتَبِرُ المقدسيُ زعيمَ تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري، صديقًا شخصيًا؛ وهو يحظى بأعلى تقدير من قبل بقية القادة الإقليميين لتنظيم القاعدة، من شمال إفريقيا إلى اليمن. وتعد قراءة كتب ونشرات المقدسي أمرًا يجب على المتشددين الإسلاميين في جميع أنحاء العالم فعله. ويتابع هؤلاء بشغف أحدث الإعلانات على موقع المقدسي على شبكة الإنترنت، ويدعى “منبر التوحيد والجهاد”.
ولكن المقدسي اشتهر بتوجيهه شخصيًا لأبي مصعب الزرقاوي، الذي أسس المنظمة التي أصبحت فيما بعد “داعش”، حين تم سجن الرجلين معًا بتهم تتعلق بالإرهاب في الأردن في منتصف التسعينيات. وقد أطلق سراح الزرقاوي عام 1999، وبعد أن أدين بالولاء لتنظيم القاعدة، ذهب ليصبح واحدًا من الرجال الأكثر شهرة في عراق ما بعد الحرب، وأطلق العنان لحملة وحشية من الإرهاب الطائفي؛ وهو ما قاد المقدسي إلى لوم تلميذه علنًا في سلسلة من الانتقادات العامة المدمرة.
والآن، حوَّلَ الرجل الذي يصفه المحللون الأمريكيون بأنه “المنظر الجهادي الأكثر نفوذًا على قيد الحياة” غضبه في اتجاه داعش. وظهر المقدسي في العام الماضي، باعتباره واحدًا من أقوى منتقدي الحركة. وبعد فترة وجيزة من إعلان زعيم داعش، أبو بكر البغدادي، إقامة الخلافة في يونيو الماضي، أصدر المقدسي بيانًا طويلًا ينتقد فيه تنظيم داعش على أنه جاهل وضال، ويتهمه فيه بتخريب “المشروع الإسلامي” الذي قام برعايته منذ وقت طويل.
وتعد حرب المقدسي الكلامية ضد داعش رمزًا للانقسام الجديد بين الأشقاء داخل حركة التطرف الإسلامي العنيفة. ولكنها أيضًا علامة على أن تنظيم القاعدة، والذي كان ذات مرة الشبكة الإرهابية الأكثر إثارة للرعب في العالم، تعرف أنه قد تم التفوق عليها.
ولم تحجب داعش ببساطة تنظيم القاعدة من على ساحات القتال في سوريا والعراق، والمنافسة للحصول على التمويل والمجندين الجدد. بل وفقًا لسلسلة من المقابلات الحصرية مع كبار منظري الجهادية، أطلقت داعش بنجاح “انقلابًا” ضد القاعدة لتدميرها من الداخل. ونتيجة لذلك؛ يقر هؤلاء الآن بأن القاعدة، كفكرة وكمنظمة، أصبحت على وشك الانهيار.
** ** **
في ظهيرة يوم ربيعي مشمس، وبعد ثلاثة أسابيع على خروجه من السجن، جلس المقدسي على أريكة في منزل صديقه “أبو قتادة”، متحدثًا عن داعش. وقال المقدسي إن الجماعة كذبت عليه وخانته، وإنه لا يليق بأعضائها أن يطلقوا على أنفسهم اسم مجاهدين. ورد أبو قتادة: “إنهم مثل مجموعة المافيا”، فأومأ المقدسي برأسه موافقًا.
وقد انضم أبو قتادة، الذي حاول أمناء الداخلية البريطانية المتعاقبون ترحيله إلى الأردن بتهم تتعلق بالإرهاب، إلى المقدسي؛ كأحد أبرز رجال الدين المتشددين المهاجمين لداعش علنًا.
وفي البداية، بدت استراتيجيتهما وكأنها تهدف لجلب داعش مرة أخرى تحت سلطة تنظيم القاعدة، باستخدام ما يشبه لعبة الشرطي الصالح مقابل الشرطي الفاسد. حيث لعب المقدسي دور الأب المصاب بخيبة أمل، ووجه اللوم وأعطى التوجيهات على قدم المساواة؛ في حين ضخ أبو قتادة كميات متزايدة من الازدراء في وجه داعش.
وكانت قائمة جرائم داعش التي أثارت استياء المقدسي وأبي قتادة طويلة، وتشمل خلق الانقسام داخل الحركة الجهادية الأوسع نطاقًا، وإزاحة الظواهري علنًا، وإقامة الخلافة التي تطالب فيها داعش كل الحركات الجهادية الأخرى بأن تقسم لها الولاء أو أن تواجه الموت. ولأكثر من سنة، يقول المقدسي وأبو قتادة على حد سواء إنهما عملا من وراء الكواليس على التفاوض مع داعش، بما في ذلك مع البغدادي نفسه، لجعل المجموعة تعود مرة أخرى إلى تنظيم القاعدة، ولكن بدون جدوى. وقال أبو قتادة: “داعش لا تحترم أحدًا. إنهم يدمرون الحركة الجهادية الأوسع نطاقًا، وهم ضد الأمة كلها (الأمة الإسلامية)“.
ولقلقها من انتقادات المقدسي وأبي قتادة اللاذعة على نحو متزايد، شرعت داعش في شن حملة على وسائل الإعلام الاجتماعي ضدهما، ويقال إن من يشرف على هذه الحملة هو رئيس دعاية داعش، أبو محمد العدناني. ووبخت حسابات داعش على وسائل الإعلام الاجتماعي رجلي الدين التابعين لتنظيم القاعدة واصفة إياهما بأنهما “أضحوكة” للغرب، وبأنهما جزء من مؤامرة متنامية ضد الخلافة. وفي العدد السادس من مجلة داعش باللغة الإنجليزية، دابق، ظهرت صورة لكل من المقدسي وأبي قتادة على صفحة كاملة، ووصف الرجلان بأنهما من “العلماء المضللين” الذين ينبغي تجنبهما أكثر من الشيطان نفسه. وقال المقدسي: “لقد تسببنا لهم بالإحراج. إنهم يكرهون هذا.
وقد قضى المقدسي معظم العقدين الماضيين داخلًا إلى، وخارجًا من السجن. ويدعي الرجل بأنه تعرض للتعذيب، وهو أمرٌ شائعٌ في السجون الأردنية. وقال إن سحب الشعر من لحية (المتطرف) هو أحد الأساليب المفضلة لدى السجانين الأردنيين لإلحاق الألم بالشخص. ويعتقد على نطاق واسع بأن الأردنيين أطلقوا سراحه مرة أخرى في فبراير؛ لأنهم أدركوا أن مكانته قد تجعل منه حليفًا مهمًا في الكفاح ضد جماعة داعش المتشددة.
ويحب أبو قتادة التحدث من خلال استخدام الاستعارات. وقال إن مجموعة داعش “مثل الرائحة السيئة” التي لوثت البيئة الإسلامية الراديكالية، أو من الأفضل وصفها بأنها “ورم سرطاني” داخل الحركة الجهادية، أو هي مثل الفرع المريض من شجرة التين الذي يجب تقليمه قبل أن يقتل الشجرة بأكملها. ولجأ أبو قتادة إلى استعارة أخرى من أجل وصف الكيفية التي تجذب من خلالها داعش جيل الشباب المسلمين، قائلًا: “تذهب إلى مطعم ويقدمون لك تلك الوجبة الجميلة. تبدو الوجبة لذيذة جدًا ومغرية. ولكن، بعد ذلك، تذهب إلى المطبخ في الخلف، وترى الأوساخ والقذارة، فتشعر بالاشمئزاز“.
ويقول الرجلان إنهما يشعران بالفزع من الطريقة التي استخدمت بها داعش دراساتهما كعباءة لتوحشها، ولكسب المجندين، ولتبرير معركتها ضد القاعدة وفروعها. وقال المقدسي: “أخذت داعش جميع أعمالنا الدينية. لقد أخذوها منا، إنها كتاباتنا، إنها جميعها كتبنا، وأفكارنا”. وقال أبو قتادة: “الآن، هم لا يحترمون أي شخص“.
ويتفق المقدسي وأبو قتادة على أن مثل هذا السلوك “الوقح” لم يكن ليحدث في أيام بن لادن. وعبر المقدسي عن أسفه، قائلًا: “لا أحد كان يتحدث ضده. كان بن لادن نجمًا. كانت لديه كاريزما خاصة“.
وعلى الرغم من المودة الشخصية لخليفة بن لادن، الظواهري، والذي يدعوانه “الدكتور أيمن”؛ يعترف كلا الرجلين بأنه لا يملك السلطة والسيطرة لصد تهديد داعش. وقال أبو قتادة إن الظواهري افتقد “للسيطرة العملياتية” منذ بداية ولايته. وأضاف: “لقد أصبح معتادًا على العمل بهذه الطريقة اللامركزية. إنه معزول“.
ووفقًا للمقدسي، “انهار” الهيكل التنظيمي لتنظيم القاعدة. والظواهري، كما قال المقدسي، “يعمل مستندًا على الولاء فقط. وليس هناك هيكل تنظيمي؛ بل هناك قنوات اتصال وولاء فقط
وبدوره، رسم الدكتور منيف سمارة، وهو محارب قديم شارك في الجهاد بأفغانستان وأحد المقربين من المقدسي وأبي قتادة، صورة أكثر قتامة لموقف تنظيم القاعدة. وكطبيب يدير عيادة مجانية لعلاج المقاتلين والمدنيين السوريين الجرحى، لدى سمارة خبرة أكثر من المقدسي أو أبي قتادة فيما يتعلق بالعمليات اليومية للتنظيم الجهادي. وقال الطبيب إن التبرعات التي كانت تأتي من قبل في موجات من “مئات الآلاف” قد جفت؛ بسبب توجيه الجهات المانحة لأموالها إلى داعش، أو لرفضها تمويل المزيد من إراقة الدماء بين المجموعتين. وقال عضو آخر سابق في تنظيم القاعدة، هو أيمن ديان، الذي انشق ليصبح جاسوسًا للمخابرات البريطانية، إن أحد مصادره في المناطق القبلية الباكستانية يقول إن الوضع المالي لتنظيم القاعدة في وزيرستان سيئ للغاية؛ لدرجة اضطرار التنظيم في العام الماضي لبيع أجهزة حاسوباته المحمولة وسياراته لشراء الطعام ودفع الإيجار.
ووصف سمارة معركة داعش ضد تنظيم القاعدة بأنها محاولة لإسقاط الفئة الأكبر سنًا من الداخل. وقال: “في هذه اللحظة، نحن نعتقد بأن هناك انقلابًا يجري في داخل تنظيم القاعدة نفسه”.
** ** **
وفي العقد التالي لهجمات 11/ 9، جذب تنظيم القاعدة المال، والمجندين، والهيبة، بطريقة لم تفعلها أي جماعة جهادية أخرى عبر التاريخ. ونما التنظيم ليحصل على ولاء شبكة واسعة من المجموعات الإرهابية التي امتدت من أوروبا إلى إفريقيا وجنوب آسيا. ولم يحدث أن توحد هذا العدد من الجماعات المتباينة جغرافيًا تحت راية واحدة من قبل كما حدث للقاعدة.
وقد حقق بن لادن هذا العمل الفذ، جزئيًا على الأقل، من خلال كونه مرنًا أيديولوجيًا. ورفض بن لادن أن يكون تحريميًا بشأن المسائل الصغيرة من الإيمان، وتجنب هذا النوع من المنازعات التي مزقت التحالفات الجهادية الأخرى في الماضي. وتماشيًا مع اسمها الرسمي، وهو تنظيم قاعدة الجهاد، عملت المنظمة كمركز للمتشددين لإجراء الاتصالات، وتلقي الدعم المالي والتنظيمي. في حين استمر تمتع القادة الإقليميون بقدر كبير من الحرية التشغيلية.
وفي المقابل، طالبت قيادة تنظيم القاعدة بشيء واحد قبل أي شيء آخر، وهو الولاء. وقد تم فحص قادتها بدقة قبل تعيينهم، ولم يرتق إلى مراتبها العليا إلا أولئك المعروفون من ساحات القتال في أفغانستان والبوسنة والشيشان، والذين لديهم المعرفة اللازمة بالعلوم الإسلامية. وعند تعيينهم، أقسم كبار القادة “يمين الدم” لبن لادن نفسه.
وعندما تولى الظواهري القيادة بعد مقتل بن لادن في عام 2011، وجد الدكتور أيمن نفسه معزولًا من الناحية الجغرافية. ووفقًا لمصادر عديدة، بينما كان الظواهري يختبئ في الجبال على طول الحدود بين أفغانستان وباكستان، كان مركز النشاط الجهادي قد انتقل إلى سوريا والعراق على بعد آلاف الأميال. ومع تصعيد هجمات قوات الجيش والطائرات بدون طيار الأمريكية في باكستان، أصبح من الأصعب بالنسبة للظواهري أن يبقى على اتصال مع قادته في الميدان. وتساءل سمارة: “ما هي القيادة؟ إذا كان زعيمك في أفغانستان وجنودك في العراق؟”.
وفي الواقع، كان الفرع الرئيس لتنظيم القاعدة في منطقة الشرق الأوسط، وهو دولة العراق الإسلامية (ISI)، مصدرًا للمصاعب منذ فترة طويلة. ومنذ إنشائها في عام 2003 تحت قيادة أبي مصعب الزرقاوي، كانت ISI سعيدة باستخدام اسم تنظيم القاعدة وأموالها، ولكنها غالبًا ما تجاهلت توسلات التنظيم لجعل الاتصالات أفضل مع القيادة المركزية، حتى عندما جاءت هذه التوسلات من بن لادن نفسه.
وفي عام 2010، عبرت ISI الخط الأحمر حين عينت زعيمًا جديدًا لها، هو أبو بكر البغدادي، من دون الحصول على موافقة مسبقة من تنظيم القاعدة، الذي لم يكن يعرف شيئًا تقريبًا عن هذا الرجل؛ لا من أين أتى، ولا مدى خبرته العسكرية، ولا حتى ما إذا كان من الممكن الوثوق به أم لا.
وفي وثيقة عثر عليها خلال الغارة على مخبأ بن لادن في أبوت آباد، أعرب آدم غدن، وهو عضو أمريكي في القاعدة، عن اشمئزازه من عدم الاحترام الذي تظهره الدولة الإسلامية في العراق. وتساءل غدن في رسالته إلى بن لادن، في يناير/ كانون الثاني عام 2011، عن لماذا ينبغي السماح لهذه المجموعة بتلطيخ اسم تنظيم القاعدة من خلال قيامها بالذبح العشوائي، في حين أنها لا تكلف نفسها حتى عناء البقاء على اتصال مع قيادة الجماعة. وبعد أقل من ستة أشهر من وصول تلك الرسالة، كان بن لادن قد مات، وجاء الظواهري، وهو رجل من مكانة أقل، للتعامل مع هذه المشكلة.
وبحلول ذلك الوقت، كانت ISI قد دفعت إلى حافة الانهيار من قبل القوات الأمريكية والعراقية. ولكن الأزمة السورية أعطت المجموعة فرصة لإعادة بناء نفسها. وحين بدأ الصراع يتكثف في أواخر عام 2011، أرسل البغدادي بهدوء واحدًا من صغار ضباطه، وهو أبو محمد الجولاني، عبر الحدود للاستفادة من الفوضى. ومجهزة بالأموال والأسلحة وبعض من أفضل جنود ISI، أصبحت جماعة الجولاني، التي تعرف اليوم باسم “جبهة النصرة”، بسرعة القوة القتالية الأكثر شراسة في سوريا. وبحلول عام 2013، كان الجولاني قد أصبح قائدًا قويًا لدرجة أن البغدادي خشي من أنه كان على وشك الحصول على دعم الظواهري، وتعيين نفسه كزعيم لفرع مستقل لتنظيم القاعدة في سوريا.
وفي 8 نيسان 2013، قام البغدادي بضربة وقائية كان من شأنها تمزيق راية الوحدة التي رفعتها الحركة الجهادية لفترة طويلة. وفي تسجيل صوتي أذيع على الإنترنت، أعلن البغدادي أن جبهة النصرة وISI ستصبحان رسميًا منظمة واحدة، وستتم تسمية المنظمة الناتجة بالدولة الإسلامية في العراق وسوريا، أو ببساطة أكثر، داعش. وبعد يومين، أجاب الجولاني برسالة صوتية أيضًا، رفض فيها “دعوة” البغدادي للاندماج، وتعهد بيمين الولاء مباشرة إلى الظواهري، مناشدًا “شيخ الجهاد” لحل النزاع.
وفي غضون 24 ساعة، أرسل الظواهري رسالة خاصة يحث فيها على التهدئة. وقال إنه يريد من القادة أن يرسلوا ممثلين عنهم إليه قبل أن يحكم بشأن هذا الخلاف، الذي كان قد أصبح بفضل الإنترنت معروفًا لدى الجمهور ومحرجًا للتنظيم. وجعل البغدادي من الواضح أنه لم يكن على استعداد لتقديم تنازلات. وفي رسالة شخصية، حذر البغدادي الظواهري من أن أي تلميح لدعم “خائن” لن يكون له “علاج سوى إراقة المزيد من الدماء”.
وفي يوم 23 مايو، ألقى الظواهري حكمه، قائلًا إن داعش، التي نشأت بدون موافقة مسبقة، لا بد أن “تنحل”؛ وأُمر البغدادي بأن يبقي على عملياته في العراق فقط؛ وفي الوقت نفسه، سيصبح الجولاني زعيمًا للفرع الرسمي لتنظيم القاعدة في سوريا.
وأضاف الظواهري أنه لدى الرجلين مدة عام لإثبات أنفسهما، وبعد ذلك، سيقوم تنظيم القاعدة باتخاذ قرار بشأن التدابير اللاحقة. ومثل أي حكم مع وقف التنفيذ، كان العرض يحمل نوعًا من الترغيب والتهديد في الوقت نفسه، ويقول ضمنًا إن البغدادي يستطيع أن يزدهر من خلال اللعب بشكل جيد ضمن القواعد الجديدة أو إنه سيفقد منصبه في تنظيم القاعدة تمامًا. وأخيرًا، ولضمان الالتزام بهذه القواعد بشكل سلمي؛ أوفد الظواهري “أبو خالد السوري” مانحًا إياه صلاحية حل أي نزاعات أخرى.
وصرح عضو بارز سابق في المخابرات الباكستانية -رفض الكشف عن اسمه لصحيفة الغارديان- أن البغدادي كان غاضبًا من رسالة الظواهري؛ حيث صدمته فكرة التعامل معه على قدم المساواة مع الجولاني، وإعطائه أمرًا بالبقاء بعيدًا عن الصراع السوري الذي كان قد استثمر فيه الكثير من الجهد. ووفقًا للمقدسي، رفض البغدادي بازدراء مبعوث الظواهري، رغم أن السوري وعده بأن الأمر سيبقى سرًا لو أنه استجاب إليه. وقال المقدسي: “بعد ذلك، بدأ البغدادي يهاجم الظواهري، قائلًا إن تنظيم القاعدة قد انتهى، واحترق”.
وفي ذلك الصيف، بدأت تنظيم داعش يستعد للحرب، ويجهز نفسه لأخذ الأراضي السورية التي سيطرت عليها النصرة، والتي كان يعتقد أنها من حقه. وفي سلسلة مذهلة من عمليات الهجوم على السجون، أطلق التنظيم سراح المئات من السجناء الأكثر خطورة في العراق من خلال إطلاق قذائف هاون على جدران السجون، واستخدام سيارات مفخخة لتفجير مداخلها.
ووفقًا لوثائق سرية حصلت عليها مجلة “دير شبيغل” مؤخرًا، بدأت داعش أيضًا بتنفيذ خطط للاستفادة من آلاف الرجال الذين كانوا يتدفقون على سوريا من تونس، والمملكة العربية السعودية، وتركيا، ومصر، وأوروبا. ومن دون وجود علاقات مع السوريين الأصليين، كان من المرجح أن يبقى هؤلاء المقاتلون الأجانب موالين لداعش، وهو أمر مهم؛ لأنهم بدلًا من محاربة الأسد الذي جاؤوا إلى سوريا لمحاربته، سوف يُستخدمون لطعن الجماعات الثائرة المحلية المناهضة للأسد في الظهر.
** ** **
وفي مقابلة مع أحد المساعدين المقربين للمقدسي في الأردن، وهو رجل سنسميه “رحيم”، كان مساعدًا شخصيًا لأبي مصعب الزرقاوي؛ فقد وصف الرجال الذين يديرون داعش بأنهم سلالة مختلفة عن جهاديي تنظيم القاعدة. وقال رحيم إن المجموعة كانت تدار لعدة سنوات من قبل الرجال الذين خدموا ذات مرة في نظام صدام حسين البعثي.
ووفقًا لرحيم، كانت هناك سياسة غير رسمية عندما كان الزرقاوي مسؤولًا عن التنظيم تقول بمنع دخول أي شخص من حزب البعث القومي العلماني. وكان الزرقاوي يعتقد اعتقادًا راسخًا بأن العراقيين عمومًا، والبعثيين على وجه الخصوص، يفتقرون للتقوى. وأضاف رحيم: “كان هناك عدد قليل جدًا من العراقيين الذين تعرضوا لأفكار أخرى. لقد كانوا قوميين، وتأثروا جدًا بحزب البعث”.
وبعد مقتل الزرقاوي في عام 2006، تم تدمير ISI تقريبًا من قبل القوات الأمريكية والعشائر السنية التي ثارت ضد عنفها الوحشي. وقال رحيم إنه، ولإنقاذ نفسها، قررت الدائرة الداخلية لـ ISI حينها أن المجموعة بحاجة لتوسيع صفوفها. وبالتالي، أصبح حتى من يستطيع أن يقرأ بضعة أسطر من القرآن فقط ويطلق لحيته قادرًا على التسجيل في التنظيم.
وكان البعثيون السابقون الذين أداروا العراق لعقود من الزمن المجندين الجدد الأكثر قيمة. حيث كان ضباط جيش صدام حسين السابقون يعرفون مواطن الضعف في الجيش العراقي، وكان مسؤولو الاستخبارات السابقون يعرفون سماسرة السلطة في كل مدينة وقرية.
وقال رحيم إن هؤلاء البعثيين السابقين كانوا هم تقريبًا من رشح البغدادي ليصبح زعيمًا جديدًا للمنظمة في عام 2010. وحتى تعيينه، اعتبر البغدادي شخصية ثانوية، وهادئة، وغير جذابة. لم تكن لديه خبرة عسكرية، وكان تعليمه لا يذكر إلا قليلًا، على الرغم من أنه حاصل على درجة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية. ولكنه شكل الرجل المناسب ليكون واجهة التنظيم، وفقًا لرحيم؛ لأنه كان على الورق على الأقل يعد عالمًا دينيًا، وقد ادعت أسرته أنها من نسل النبي محمد، والأهم من ذلك كله، لم يكن هو نفسه بعثيًا.
وبعد تعيين البغدادي، توقفت جميع الاتصالات مع تنظيم القاعدة المركزي تقريبًا، وتم ببطء تحييد العدد القليل المتبقي من كبار الشخصيات التي تعد موالية للظواهري أو قتلها في ساحة المعركة عمدًا. وبحلول الوقت الذي وصلت فيه رسالة الظواهري في مايو 2013، لم يكن هناك شخص واحد في القيادة العليا لداعش من الذين كانوا ينتمون من قبل لتنظيم القاعدة، وفقًا لرحيم.
وفي وقت لاحق من ذلك العام، وبينما تركز اهتمام بقية العالم على أسلحة الأسد الكيميائية، خططت داعش للسيطرة على الحدود الممتدة على مسافة 500 ميل بين تركيا وسوريا، وبالتالي السيطرة على المعابر الحدودية التي وفرت للجماعات الثائرة الرئيسة المواد الغذائية والطبية، والأسلحة، والمجندين الجدد. وبحلول ديسمبر، بدأت المدن الحدودية المهمة استراتيجيًا في السقوط واحدة تلو الأخرى بيد مقاتلي داعش.
وفي ديسمبر 2013 أيضًا، أرسل حسين سليمان، وهو طبيب شاب وسيم كان أحد كبار الضباط في جماعة الجبهة الإسلامية، لصنع السلام مع وحدة من وحدات داعش بعد اندلاع المتاعب عند نقطة تفتيش بالقرب من بحيرة الأسد في شرق سوريا. وعندما لم يعد سليمان، اتصل مسؤولو الجبهة الإسلامية بداعش، التي أكدت لهم أنها تحتجز سليمان كجاسوس.
وهنا، طالبت الجبهة الإسلامية بالإفراج عنه لأنه كان مجرد وسيط سلام. وعلى أقل تقدير، طالبت الجبهة بمحاكمته في محكمة شرعية مستقلة. ولكن داعش رفضت ذلك.
وعندما أفرجت داعش عن سليمان كجزء من عملية تبادل للأسرى في 31 ديسمبر، تلقت الجبهة الإسلامية جثة مشوهة للشاب، تظهر قطع أذنه اليمنى، وتحطيم أسنانه، وكسر إحدى ساقيه. وفي اليوم التالي، نشرت الجبهة الإسلامية صورًا لجسده المهترئ على الإنترنت، وهو ما أثار احتجاجات في المدن في أنحاء سوريا ضد وحشية داعش. وأما في المدن التي تسيطر عليها داعش، فقد أطلق مقاتلوها النار على المتظاهرين؛ مما أثار مزيدًا من الغضب.
وفي غضون أيام، اجتمعت المجموعات السورية الثائرة الكبرى، بما في ذلك النصرة، معًا لإعلان الحرب على داعش. وبالفعل، قتل آلاف من المسلحين خلال الأشهر القليلة الأولى من عام 2014 فقط؛ حيث دارت معارك شرسة بين داعش والفصائل الثائرة الأخرى، شهدت أيضًا خطفًا وتعذيبًا وقتل بعض من كبار القادة من كلا الجانبين.
وهنا، اضطرت داعش للتراجع عن غرب سوريا، وبدأت بتوطيد سيطرتها على الشرق، وتحديدًا المنطقة الأقرب إلى العراق؛ حيث تتواجد العديد من حقول النفط في سوريا. وهناك، قاتلت النصرة داعش بشراسة داخل وحول مدينة الرقة، وعلى طول ضفاف نهر الفرات.
وفي 16 كانون الثاني عام 2014، نشر مبعوث الظواهري، أبو خالد السوري، رسالة على الإنترنت، قائلًا إن داعش كانت تسعى لإفساد الجهاد في سوريا كما فعلت في العراق، وإن على مسلحيها توجيه قنابلهم إلى الكفار، وليس في اتجاه زملائهم الجهاديين. وبعد ذلك بسبعة عشر يومًا، لعب الظواهري بطاقته النهائية، معلنًا طرد داعش من تنظيم القاعدة.
وبالنسبة لداعش، لم يعد هناك طريق للعودة إلى الوراء. وفي 21 شباط، شق خمسة من رجالها طريقهم إلى المجمع الذي كان يقيم فيه “السوري” بحلب. وعندما ظهر هدفهم، قام أحد المهاجمين بتفجير حزامه الناسف؛ فأصبح خادم الظواهري المخلص، والذي كان قد أرسل من أفغانستان لتحقيق السلام، جثة هامدة.
** ** **
ومن زنزانتيهما في سجون بالأردن، شاهد أبو قتادة والمقدسي المعركة الضارية بين داعش والقاعدة بقلق متزايد. وشعر أبو قتادة وكأن التاريخ يعيد نفسه. وفي وقت مبكر من التسعينيات، كان أبو قتادة من المؤيدين المتحمسين للجماعة الإسلامية في الجزائر، وأصدر الفتاوى التي أعطت إرهابيي الجماعة رخصة للقتل من دون الكثير من التمييز. ولكن، عندما بدأت الجماعة الإسلامية بقتل المسلحين المنافسين، جمع أبو قتادة مجموعة من العلماء المتشددين للتنديد بالمنظمة؛ وهو ما ساعد على تجريدها من المصداقية الفكرية بين زملائها الجهاديين. والآن، بعد مرور أكثر من 20 عامًا، أراد أبو قتادة من المقدسي الانضمام إليه في حملة مماثلة ضد داعش.
ولكن المقدسي طلب من أبي قتادة تأجيل ذلك؛ حيث إنه كان يأمل في أن تعود داعش إلى (الحظيرة). وكان بعض من كبار أعضاء داعش قد كتبوا له بالفعل وهو في السجن مشيرين إلى ندمهم. وقالت إحدى تلك الرسائل: “نحن نعلم أننا ارتكبنا أخطاء … نحن نعلم أن من بين جنودنا ورجال ديننا هناك بعض المتطرفين … ولكنهم الأقلية”.
وقد حاولت داعش شراء تأييد المقدسي. وفي صيف وخريف عام 2014، تم إرسال رسائل إلى المقدسي، وأبي قتادة، وحوالي عشرة آخرين من رجال الدين، تدعوهم للانتقال إلى الخلافة؛ حيث يمكنهم العمل دون خوف من السجن وفي مرتبة أعلى. وحتى إن البغدادي كتب رسالة شخصية إلى المقدسي لإقناعه بالانضمام إليه. ولتجميل الصفقة، وعده بدفع ما يصل إلى مليون دولار.
وبعث التنظيم رسالة لفرع تنظيم القاعدة في اليمن تقول إن داعش ستقدم لزعيم التنظيم ورجاله 10 ملايين دولار مقابل التعهد علنًا بالولاء للبغدادي. وقد تم تقديم عرض مماثل، ولكن بمبلغ 5 ملايين دولار، لفرع القاعدة في ليبيا.
وكان لهذه العروض نتائج مختلطة. وفي حين رفضَ المقدسي، وأبو قتادة، والعلماء البارزون الآخرون، وقائد تنظيم القاعدة في اليمن، هذا العرض جملة وتفصيلًا؛ استحوذ العرض -على ما يبدو- على اهتمام العديد من الفصائل الجهادية في جميع أنحاء العالم. وفي نوفمبر، حصلت داعش على أيمان الولاء من المقاتلين الجهاديين في مصر، وليبيا، وباكستان، وحتى اليمن، أقوى معقل لتنظيم القاعدة. وفجأة، امتد تأثير الجماعة من سوريا والعراق إلى بقية العالم الإسلامي.
وحاول المقدسي التدخل لدى داعش في وقت لاحق من ذلك العام، في محاولة فاشلة لتأمين الإفراج عن الرهينة بيتر كاسيج. وفي يوم 24 ديسمبر عام 2014، تم إطلاق النار على طائرة عسكرية أردنية فوق أراضي داعش قرب مدينة الرقة شمال سوريا، وأخذ التنظيم قائدها كرهينة. وبعد فترة وجيزة، أبلغ المقدسي المسؤولين الأردنيين بفكرة كان قد اقترحها في الأصل صديقه الدكتور منيف سمارة، لتأمين عودة الطيار.
ومن خلال التواصل عن طريق تطبيق Telegram، وهو تطبيق يسمح بإجراء الاتصالات المشفرة، أرسل المقدسي لداعش في يناير/ كانون الثاني من هذا العام، قائلًا إن الأردنيين سيكونون على استعداد لإجراء عملية تبادل للأسرى، وإنه في مقابل عودة الطيار، سيتم الإفراج عن امرأة تدعى “ساجدة ريشاوي”، كانت قد أرسلت في عام 2005 من قبل أبي مصعب الزرقاوي لتفجير أحزمة ناسفة في فندق راديسون ساس؛ كجزء من سلسلة منسقة من التفجيرات الانتحارية في الأردن.
وكانت الاستجابة الأولية إيجابية. ويقول المقدسي إن داعش أبلغته بأنها كانت “حريصة” على تحقيق الصفقة. وعلى وسائل الإعلام الاجتماعي، بدأ أنصار داعش فجأة يدعون إلى الإفراج عن ريشاوي.
وقبل أن تتم الصفقة، طلب الأردنيون من المقدسي الحصول على دليل بأن الطيار كان لا يزال على قيد الحياة. وردًا على ذلك، أرسل مفاوضو داعش للمقدسي ملفًا إلكترونيًا زعموا أنه يقدم دليلًا على أن الطيار حي يرزق. ولكن، لم يتمكن المقدسي من فتح الملف؛ لأنه كان محميًا بكلمة مرور.
وفي 3 شباط، أي بعد أيام قليلة من الحوار المتوتر، أرسل مفاوضو داعش أخيرًا كلمة السر لفتح الملف للمقدسي. وعندما حصل عليها، أدرك المقدسي أنه كان قد تعرض للخيانة. حيث إن كلمة السر كانت تقول باللغة العربية: “المقدسي القواد، فردة حذاء الطاغية، ابن العاهرة الإنجليزية“.
** ** **
لا يزال لدى المقدسي وأبي قتادة أمل بأن الوحدة التي سادت ذات مرة في ظل بن لادن ستعود. ولكنهما اعترفا صراحة أيضًا بأن داعش مستمرة في الانتصار في الحرب على الأرض وفي وسائل الدعاية، على حد سواء.
وقال أبو قتادة إن داعش “في هذه اللحظة، في حالة سكر بسبب القوة“، ولكنها في مرحلة ما، سوف تحتاج إلى التفاوض مع تنظيم القاعدة مرة أخرى. وأشار المفكر الإسلامي إلى أن فرع تنظيم القاعدة في سوريا حقق بعض النجاحات مؤخرًا ضد قوات الأسد، في حين لاحظ المقدسي أن ولاء العديد من الفروع الأخرى، بما في ذلك فرع التنظيم في اليمن، لا يزال مؤكدًا. وقال المقدسي: “ولاؤهم قوي وواضح. عندما يرسل الظواهري رسالة إلى اليمن، يكون على علم بأن أمره سيكون مطاعًا”.
وفي الوقت نفسه، يعتقد الرجلان أن أحداث العقد الماضي، وخاصة الحرب مع داعش، هي علامة على أن تنظيم القاعدة يحتاج لإعادة تقييم لتكتيكاته. ويرى المقدسي أن على تنظيم القاعدة ألا يهدف إلى تجنيد الأتباع بأعداد كبيرة؛ بل أن يركز على “أهل الجودة”، الذين يفهمون الثقافة الإسلامية جيدًا، ولا يقومون بنشرها لمجرد تعزيز الغايات الشخصية الخاصة بهم.
وفي السنوات الأخيرة أيضًا، أصبح المقدسي يعتقد بأن فهم تنظيم القاعدة للجهاد قد لا يكون فهمًا صحيحًا، وهو جهاد “إرغام” بدلًا من أن يكون جهاد “تمكين للمؤمنين”. ويقول المقدسي إن هجمات 11/ 9 كانت جزءًا من استراتيجية خاطئة أيضًا. ويضيف: “إن الأعمال في نيويورك وواشنطن، ومهما بدت عظيمة، كانت في النهاية أعمالًا حاقدة“.
ويطلب المقدسي من تنظيم القاعدة الآن البدء في تقديم الخدمات الاجتماعية، كما فعلت حماس في غزة. وقال: “هذا النوع من تمكين الجهاد هو ما سيؤسس دولتنا الإسلامية“.
وأضاف أنه سيمكن هذه الدولة من أن تصبح ملجأ للضعفاء، وأن فروع تنظيم القاعدة في تونس وأماكن أخرى بدؤوا بوضع هذا الاقتراح موضع التنفيذ، من خلال حراسة الجهاديين للمستشفيات، وبنائهم للبنية التحتية، وحتى قيامهم بالتقاط القمامة.
وأما منيف سمارة، فهو يشعر بالقلق من أن تنظيم القاعدة قد تعثر بسبب الصعوبة التي واجهها في جذب مجندين جدد. وقال إن الجنود الشباب “يريدون العمل، يريدون الدم، يريدون الانفجارات. إنهم ينتظرون تنظيم القاعدة (كي يفعل شيئًا)، والقاعدة لا تفعل شيئًا“.
التقرير