خيار واضح أمام إدارة بايدن

خيار واضح أمام إدارة بايدن

مرّت قبل أيام الذكرى الـ20 على “غزوتي نيويورك وواشنطن” اللتين نفذهما تنظيم “القاعدة” بزعامة أسامة بن لادن. استهدف إرهابيّو “القاعدة”، الذين آوتهم أفغانستان وحمتهم حركة “طالبان”، مركز التجارة العالمي بنيويورك ومواقع أخرى بينها مبنى وزارة الدفاع (البنتاغون) في العاصمة الأميركيّة.

ردّت الولايات المتحدة على مقتل نحو ثلاثة آلاف من مواطنيها الأبرياء في 11 أيلول – سبتمبر 2001 باجتياح أفغانستان مباشرة بعد وقوع هذا العمل الإرهابي الذي لا سابق له في التاريخ الحديث. من المفيد التذكير بأنّ السبب المباشر الذي جعل الإدارة الأميركيّة تتخذ قرار اجتياح أفغانستان رفض زعيم حركة “طالبان” الملّا عمر (توفّى في 2013) تسليم أسامة بن لادن. حكمت “طالبان” أفغانستان منذ 1996 وأخرجتها الولايات المتحدة من كابل ومن مناطق أخرى في 2001. لكنّ أميركا لم تستطع قتل أسامة بن لادن إلّا في 2011 في أبوت أباد داخل باكستان التي لعبت الدور الأساسي في نشوء “طالبان” بغطاء أميركي في البداية.

بعد عامين من اجتياح أفغانستان، ذهبت أميركا في العام 2003 إلى العراق لإسقاط نظام صدّام حسين من دون أن يكون هناك رابط بين هذا النظام و”القاعدة”. خاضت حربا ثانية قبل أن تنتهي من الحرب الأولى. فشلت في أفغانستان وفشلت في العراق. لم تستطع بناء نظام سياسي قابل للحياة في أفغانستان. إذا بها بعد عشرين عاما تستسلم أمام حركة “طالبان” التي ليس ما يشير أنّها يمكن أن تتغيّر نظرا إلى أنّ ليس لديها أي مشروع حضاري من أيّ نوع. لا سياسيا ولا اقتصاديّا ولا تجاه المرأة. يظلّ السؤال الذي سيطرح نفسه في المرحلة المقبلة هل يمكن لـ”طالبان” أن تتغيّر، أي هل يمكن أن تكون أفغانستان بلدا آمنا لا علاقة له بالتنظيمات الإرهابيّة من بعيد أو قريب؟

ستكون أفغانستان بعد الانسحاب العسكري الأميركي منطقة خطيرة. لن تكون خطيرة على الولايات المتحدة وحدها، بل ستكون خطيرة على دول مثل روسيا والصين وإيران وجمهوريات إسلاميّة كانت في الماضي جزءا من الاتحاد السوفياتي مثل طاجيكستان وأوزباكستان وتركمانستان. يمكن أن تتأثّر الهند أيضا، على الرغم من أنّ لا وجود لحدود مشتركة بينها وبين أفغانستان. ليس مستبعدا أن تستغلّ باكستان “الساحة الأفغانيّة” في حربها الصامتة مع الهند. إضافة إلى ذلك، هناك اهتمام تركي بما يدور في أفغانستان نفسها نظرا إلى الارتباط المباشر لتركيا بعدد لا بأس به من المجتمعات ذات الأصول التركمانيّة في الجمهوريات الإسلاميّة التي على تماس مع أفغانستان.

ما مستقبل أفغانستان في ضوء الانسحاب العسكري الأميركي؟ أي نوع من العلاقات ستقيمه “طالبان” مع روسيا أو مع إيران، علما أنّ العداء التاريخي مع إيران تحوّل منذ بضع سنوات إلى نوع من الوفاق بفضل وجود الروابط القائمة بين كلّ من الجانبين من جهة و”القاعدة” من جهة أخرى؟

في كلّ الأحوال، كانت المغامرة الأميركية في أفغانستان فاشلة. لم تفشل الولايات المتحدة في إقامة نظام قابل للحياة في كابل فحسب، بل إن طريقة الانسحاب كانت أيضا في حدّ ذاتها كارثة كبيرة.

بعد عشرين عاما من ذهاب إدارة بوش الابن إلى أفغانستان وبعد مضي ثمانية عشر عاما على حرب العراق، يصحّ التساؤل هل العالم في وضع أفضل أم لا؟ الجواب لا كبيرة، خصوصا أنّ أفغانستان تعود إلى حضن “طالبان”. إضافة إلى ذلك، ليس ما يشير إلى أن النظام في إيران تعلّم من التجارب التي مرّ فيها ومن حال البؤس التي أوصل إليها البلد الذي كان يفترض أن يكون بلدا غنّيا بكل ما يمتلكه من ثروات طبيعية ومهارات بشريّة…

يخشى انطواء أميركا على نفسها وتكرار فشلها الأفغاني، وبالتالي العراقي، في غير مكان في العالم. يخشى حصول ذلك في ظلّ إصرار إيران على استمرار مشروعها التوسّعي. ثمّة خوف على مستقبل العراق الذي عليه أن يختار، خصوصا بعد الانسحاب العسكري الأميركي القريب هل عليه الاستسلام لميليشيات “الحشد الشعبي” التابعة لإيران أم لا؟

ثمّة خوف أكيد على مستقبل سوريا، هذا إذا كان الحديث عن مستقبل سوريا، حيث أحدثت ايران عبر ميليشياتها المذهبيّة تغييرا ديموغرفيا على الأرض. بين آخر فصول هذا التغيير ما يحدث في جنوب سوريا حيث بات مطلوبا، بتواطؤ روسي، تهجير أهل السنّة ووضع الدروز تحت رحمة “داعش” كي يكونوا موضع ابتزاز مستمرّ من النظام الأقلّوي المقيم في دمشق.

ثمّة خوف على لبنان الذي صار عمليّا تحت السيطرة الكاملة لـ”حزب الله” في ظلّ رئيس للجمهوريّة اسمه ميشال عون يعتقد أن إيران ستوصل صهره جبران باسيل إلى رئاسة الجمهورية، تماما كما فعلت معه.

أخيرا، ثمّة خوف على اليمن حيث يثبت الحوثيون (جماعة أنصار الله) الذين ليسوا سوى أداة إيرانيّة أنّ الكيان الذي أقاموه في شمال البلد وعاصمته صنعاء باق إلى ما لا
نهاية. أكثر من ذلك، إنّ هذا الكيان تحوّل إلى قاعدة صواريخ إيرانيّة تهدّد أمن كلّ دولة من دول الخليج العربي.

سيتبيّن في الأسابيع القليلة المقبلة إلى أيّ حد ستتأثّر السياسة الخارجيّة الأميركيّة بالفشل الأفغاني. سيتبيّن خصوصا هل لا يزال في استطاعة حلفاء الولايات المتحدة الاتكال عليها أم عليهم إعادة النظر في حساباتهم؟

الخوف كلّ الخوف أن تكون إدارة جو بايدن تتمة لإدارة باراك أوباما الذي تغاضى عن عملية الاحتيال التي مارسها الإخوان المسلمون والتي سمحت لهم بوضع اليد على مصر في مرحلة معيّنة. الأكيد أن حلفاء أميركا في المنطقة، خصوصا في الخليج فهموا الرسالة وسارعوا إلى دعم التحرّك الشعبي المصري في حزيران – يونيو 2013 والذي أدّى إلى التخلّص من نظام الإخوان. كان هذا النظام كفيلا بالقضاء على مصر وعلى دورها في المنطقة.

يبدو الخيار واضحا أمام إدارة بايدن. إنّه خيار بين أن تخلق عقدة جديدة لنفسها اسمها أفغانستان وأن ترفض السقوط في الفخ الذي نصبته لنفسها. نقطة البداية من أجل التخلّص باكرا من هذه العقدة هي في امتلاك سياسة خارجيّة أكثر وضوحا، سياسة خارجيّة لا تقوم على لافتات كبيرة من نوع مواجهة التحدي الصيني بمقدار ما تقوم على فهم ما يجري على أرض الواقع، خصوصا في ما يخص إيران والدور الإقليمي الذي تطمح إلى ممارسته على حساب دول المنطقة العربيّة كلّها!

العرب