قبل أكثر من أسبوعين، مرّت علينا الذكرى المئوية لتأسيس الدولة العراقية، مرّت من دون احتفاء شعبي يُذكر في الـ23 من أغسطس (آب) الماضي، ولعلها المرة الأولى في تاريخ العراق المعاصر، لا يكترث الشعب كثيراً بهذه المناسبة التاريخية، لأنه لا يزال ينتظر مربكاً مبادرة سياسية حقيقية لتغيير الأوضاع السائدة.
100 عام من الفوضى
مئةُ عام على تأسيس العراق الحديث، دولٌ وشخصيات تعاقبت طوال تلك العقود، بدءاً من رجالات العهد الملكي الذين أمضو 37 عاماً في مجمل الحكم من (1921 – 1958)، مروراً برجالات العهد الجمهوري الذي حصد 45 عاماً في الحكم العسكري (1958 – 2003) والذي يُعدّ عهداً من الانقلابات الدموية بقتل الملوك والرؤساء معاً، وانطبع عهد الدم بثورته التي هي مزيج من عقلية اليسار الثوري واليمين الدموي، وصولاً إلى عام 2003 وحتى اليوم، وهي حقبة “الاحتلال والفساد والمعتركات الخطيرة التي فرضت واقعاً جديداً على العراق”، يُلخص بسيادة حجم التناقضات واقتسام البلاد محاصصة، وتتويج أخطر حقبة فساد استمرت من (2003-2021)، 18 عاماً من زمن العسرة والتناقضات وهيمنة قوى اللادولة على الدولة العراقية وتشتيت أهدافها وتصفير طموحاتها.
المسارات الثلاثة في حكم العراق
يمكن للباحث في مسارات مثابات الدولة العراقية أن يقف عند ثلاث مراحل في تاريخها: الحقبة الملكية وهي حقبة تأسيس وقيام الدولة، تلتها حقبة العهد الجمهوري وهي حقبة الصراع على السلطة والحكم، وبروز “العسكرتاريا” في حكم البلاد، وحقبة هجينة بين الاحتلال الأميركي المباشر الذي دام ثمانية أعوام (2003-2011) وحكم المحاصصة وتقاسم البلاد على أساس كونها دولة اتحادية وليست موحدة، من خلال توزيع السلطة على المكونات الثلاثة والإثنيات الثانوية، وبلورة نظام سياسي بدستور إشكالي قائم على المحاصصة السياسية البرلمانية بدلاً من نظام رئاسي، قائم على الانتخابات البرلمانية كل أربعة أعوام، وتميزت كل منها بسمات عامة تختلف كلياً عن سابقتها.
حقبة النظام الملكي وصراع الوجود
واجه تأسيس الدولة العراقية عقبة مبكرة لمن يوضع في واجهة الحكم من العراقيين، وتقدم العشرات الذين يجدون أنهم الأجدر في إدارة البلاد مع المستعمر الإنجليزي السير برسي كوكس، المندوب السامي على العراق، لكن الناس تخاصموا فلم يجدوا عراقياً موهلاً لذلك، فلجأوا إلى الحجاز لاستقدام ملك هاشمي عليهم هو فيصل بن الشريف حسين، وعلى الرغم من رفض والده حاكم الحجاز وقتها أن يتولى ابنه فيصل هذه المهمة، لأنه استحضر التاريخ العراقي مع حكامه ورفض ذلك، لكن رجالات الثورة العربية التي يتولاها وعلى رأسهم الفريق نوري باشا السعيد والفريق جعفر العسكري وياسين الهاشمي ووفد من علية القوم، أقنعوه بأن لا مناص من تولّي فيصل عرش العراق.
حضر من الجزيرة العربية ليدخل عراقاً مخرباً نتيجة الاحتلال العثماني الطويل الذي دام قروناً، والأقوام التي تقاتلت على أرضه منذ سقوط بغداد عام 1258 على أيدي المغول، الذين دمروا حضارته العباسية الزاخرة بالعلوم والعمران. دخل الملك فيصل من البصرة حتى بغداد ليرى حجم الخراب الذي حل بأرض السواد، وكيف عبث المحتل الأجنبي بهذه البلاد، وقد أعيته فرقة الناس واختلافهم في كل شي حتى يكونوا على قلب رجل واحد.
وكتب مذكرة طويلة عن رؤيته لواقع العراق عن ظاهرة انعدام فكرة الوطنية العراقية، وهو يواجه مهمة قيادة مشروع الدولة التي أوكلت إليه بموافقة بريطانية، حين قال :”لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل تكتلات بشرية خيالية خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية لا تجمع بينهم جامعة”. وجاءت هذه الرؤية كالصاعقة على رؤوس الحالمين بتأسيس دولة عراقية خرجت للتو من أتون حكم عثماني ثقيل. كان يعدّ العراق جزءًا من أمصار الإمبراطورية العثمانية، موزعاً على ثلاث ولايات بغداد والبصرة والموصل، ولكل منها والٍ يرتبط بالباب العالي، مهمته الرئيسة أن يجمع الخراج من أرضها ليرسله إلى الأستانة (إسطنبول).
ويحلل البروفيسور العراقي نديم الجابري بيان الملك فيصل عن العراق بقوله: “وجهة نظر الملك فيصل الأول لم تكُن تمثل تأملات فكرية عميقة، إنما هي رد فعل لحاكم شعر بالإحباط من قيادة شعب صعب ومركب كالشعب العراقي. لذلك يمكن القول عنها إنها مجرد رد فعل لحاكم واجه صعوبات في إدارة بلاد لا ينتمي إليها، أكثر منها وجهة نظر موضوعية يُعتدّ بها، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، إنها لا تعدو إلا مجرد تأملات مفكر سياسي استنبط أفكاره بالدليل العقلي من دراسة الواقع السياسي – الاجتماعي للبلاد”.
ويستدرك الجابري: “لعل وثائق ثورة عام 1920 من مضابط ومراسلات وخطب وشعر وفتاوى دينية، تدحض ما ذهب إليه الملك فيصل الأول، لأن تلك الوثائق تمثل دلالات موثقة على فكرة الوطنية العراقية وتفاعلها مع المجتمع العراقي بشكل واضح”.
لكن نهج بناء الدولة العراقية المدنية استمر بخلع الرتب العسكرية للرعيل العروبي الأول الذي تصدى لتأسيس الدولة العراقية الحديثة، والامتثال لقيم مجتمعية كان هدف الاستقلال والانخراط في المجتمع الدولي من خلال الانتماء إلى عصبة الأمم المتحدة، إذ سجل العراق نفسه كأول بلد عربي انتمى إليها عام 1932، ثم أعقب ذلك في الانضمام إلى هيئة الأمم المتحدة عام 1945، إذ يُعدّ من المؤسسين لها وأحد كتاب دستورها.
كما أن العراق خلال هذه الفترة الملكية تمكّن من أن يكون فاعلاً في التكتلات الإقليمية والدولية، وكان دخوله حلف بغداد عام 1955 مؤشراً ليلعب دوراً دولياً بالشراكة مع الغرب، لكنه اصطدم بالمد القومي الذي أسقط حكومته بعد ثلاثة أعوام لا غير.
حقبة النظام الجمهوري أعوام الانقلابات والغليان
داهمت قوات مسلحة من الجيش العراقي قصر الرحاب الملكي في بغداد، وأعطى ضابط برتبة عقيد الأمر لقوات الصولة الأولى بتصفية العائلة المالكة جسدياً، وفجع المجتمع العراقي على إثرها وانقسم على نفسه، ودخلت البلاد عهد الفوضى حين شهد طمع العسكر بالسيطرة على سدة الحكم وتوزيع المناصب، تأثراً في ما حدث بمصر أيام ثورة أكتوبر (تشرين الأول) عام 1952، التي أسست لثقافة الانقلاب على السلطات الشرعية.
وكان حكم الجيش للبلاد بوضع يد ثقيلة على المجتمع قاد إلى انقلابات متسلسلة في العراق الجمهوري. وتميزت هذه الحقبة بظاهرة الاغتيال السياسي وتصفية الخصوم جسدياً وانهيار منظومة الأمن المجتمعي وصعود اليسار السياسي المتمثل في الحزب الشيوعي والخروج من الكتلة الإسترلينية، ما تسبب في ضعف الاقتصاد وانهياره بعد رفع الحماية الدولية عنه، ولجوء النظام الجديد إلى خيار التأميم للمنشآت الاقتصادية، وتحوّل الاقتصاد من الاقتصاد الحر إلى اقتصاد اشتراكي، وتغليب القطاع العام وانحسار القطاع الخاص في الدورة الاقتصادية.
تميزت هذه الحقبة كما يقول الباحث المفكر غسان العطية بـ: “ضياع هامش الحرية في النظام الجمهوري الذي كان موجوداً إبان النظام الملكي، وإذا كنا نعتقد أن النظام الملكي أضاع نصف فلسطين كقضية مركزية، فإن النظام الجمهوري أضاع كل فلسطين. ولمّا كان النظام الملكي يضع موارد البلاد في صندوق مجلس الإعمار ليبني ويعمر البلاد، فإن النظام الجمهوري أدخل البلاد في الفوضى والخراب، وكان النظام الملكي يقيم علاقات جيدة جداً مع جميع دول الجوار.
لكن النظام الجمهوري دخل في معارك وحروب طاحنة مع جيرانه، كما فقد العراق سمة الاعتدال بعد سقوط العهد الملكي في أعقاب مجيء أنظمة متعاقبة. ولم تنشأ حركة سياسية عراقية من الداخل غير مستوردة ولا متلقية من الخارج تطالب بديمقراطية وحقوق للمجتمع، حتى نظام قاسم الذي اتُّهم بالشيوعية وهو رجل وطني يحب بلده، انتهى بانقلاب عسكري من دون مطالبته بالإصلاح وعرض مطالبنا له بالحرية والديمقراطية، وإنا عملنا على إسقاطه حتى إننا ننساق كسياسيين وشباب إلى جهنم بطريق كله مزروع بالنوايا الحسنة، وبتنا نقول الماضي أحسن من الحاضر، جعلني أتساءل متى يأتي رعيل سياسي يبشر بمستقبل أفضل؟ لكن حتى الآن هذا التساؤل غير مطروح وأصبحنا نردد الماضي أحسن”.
ولعل في رؤية العطية ما يؤكد هذه الظاهرة بدخول العراق في حروب طاحنة مع جيرانه وحصار شامل تلاها، أسقط نظامه الشمولي لتدخل جيوش الاحتلال إليه مطلع الألفية الثانية.
الحقبة الثالثة الاحتلال والإجهاز على الاستقلال
بعد حصار فُرض على العراق دام 13 عاماً (1990-2003)، وسلسلة عقوبات دولية فرضها مجلس الأمن الدولي، قيّدت حركة النظام السياسي وكبلت اقتصاده نتيجة غزو الكويت واحتلالها، اجتاح الجيش الأميركي وحلفاؤه العراق، وتم تنصيب حاكم مدني عليه بصيغة جديدة ذكّرت العراقيين بصيغة الانتداب البريطاني الذي كان يحكم البلاد طيلة الحقبة الملكية، لكنه هذه المرة بجيش الولايات المتحدة وعدته العسكرية، بالشراكة مع دول عظمى وتعاون إقليمي. دخل العراق في مرحلة خطيرة من تاريخه واستُبدل نظامه السياسي بنظام جديد، وأُعطيت إلى الشريك الإيراني اليد في توظيف المعارضة العراقية لديها طيلة السبعينيات والثمانينيات وما تلاها، للسيطرة وحكم البلاد وتصفية خصومها في الداخل، لتشهد عمليات الاجتثاث وتهجير الخصوم السياسيين من كل المكونات، ودخول العراقيين في تحدي الهجرة عن بلادهم، فهربت الكفاءات والإدارات التي كانت تدير الدولة الاستراتيجية التي أتبعت في العراق المحتل، سُمّيت بـ”الفوضى الخلاقة” التي أشاعت جو الفوضى وأسست لظواهر لم تألفها البلاد من قبل، إذ تحوّل نظام الدولة إلى سلطة اتحادية وليست موحدة كما كانت في السابق، وأتاح دستور البلاد لثلاث محافظات أو أكثر تشكيل إقليم مشابه لإقليم كردستان العراق في الشمال.
وبدأت محاولات تفتيت إرادة البلاد وتلاشي مركزيتها وفقدت السيطرة على مواردها، وزُعم أن ذلك من أوجه الديمقراطية التي أريد تطبيقها في دولة كل تاريخها تتحكم بها سلطة مركزية تديرها، كما تسري مياه دجلة والفرات من أول البلاد لآخره طولاً، وبدأت ألغام ذلك الدستور الذي أقرّ عام 2006 تتفجر في مناطق سُمّيت بـ”متنازع عليها” يقطنها العرب وغيرهم، ما جعل البلاد في حالة فوضى، لا سيما تدخل إيران وتركيا واستباحتهما الأراضي العراقية بمسوغات وذرائع غير مقبولة للعراقيين. يقول بول بريمر، رئيس الإدارة المدنية للإشراف على إعادة إعمار العراق: “نعم أعترف بعدم تمكننا من تأسيس سياسة استراتيجية متماسكة في العراق، فلم نلفت الانتباه إلى دور إيران في خلق انعدام الاستقرار في المنطقة، وكان لأميركا هدف الإطاحة بصدام حسين، ولكن لم تكُن لدينا خطة قبل الحرب لاستراتيجية ما بعد الحرب، وأعتقد من الخطأ انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، ما يبعث برسالة سلبية للعراقيين بأن التزام أميركا للعراق أيضاً مشكوك فيه، ويجب أن تكون لدينا سياسة صارمة ضد إيران ولا بد من مواجهتها في العراق، بخاصة الميليشيات المدعومة من قبلها مباشرة. فلا يمكن أن تكون لنا سياسة شاملة في العراق ما لم تكُن لدينا استراتيجية شاملة في الشرق الأوسط موجهة لتقليل نفوذ إيران، الذي يتمدد في المنطقة”.
عراق ما بعد 2003 ليس كما قبله
تميزت فترة ما بعد 2003 بظواهر لم يعتَدها المجتمع العراقي، أطرها الفساد الشامل في القطاعات الحكومية والإثراء غير المشروع وسرقة المال العام والاستحواذ القسري على مباني الدولة، حتى إن لجان النزاهة الحكومية والبرلمانية امتلأت بآلاف ملفات الفساد من القضايا التي لا يمكن حلها بيسر، لتداخل تلك الملفات بمتنفذين من الميليشيات المسلحة المدعومة من قوى إقليمية. كذلك فإن تحوّل النظام من رئاسي إلى برلماني قسّم إدارة البلاد على صورة المحاصصة السائدة حالياً، وتوزيع تلك الإدارة على أربع رئاسات أوكلت إدارتها لمكونات شيعية وسنية وكردية، ضاعت بينها الأقليات الأخرى لأن أعدادها أقل، ما جعل المطالبات والأصوات العراقية تعلو لعودة النظام الرئاسي الذي يمنح البلاد نوعاً من السيطرة على الدولة التي تعاني من الانقسام وهدر الموارد والتجاوزات المستمرة على حدودها ومياهها ومن انتهاك سيادتها بشكل سافر.
ويؤكد إحسان الشمري، رئيس مركز التفكير السياسي العراقي والأستاذ في جامعة بغداد، أن “صعود الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية والدولة ونظامها الذي رسخته القوى السياسية، ما غيّب مبدأ تساوي الجميع أمام القانون والحقوق، إضافة إلى عدم القدرة على إدارة البلاد من قبل الأحزاب التي أمسكت القرار، ونشوء الصراعات والأزمات واستشراء الفساد والصراع الداخلي، كلها أسهمت بتأخر مراكمة الديمقراطية في العراق”.
لقد برزت زعامات عراقية تمرّست في إذكاء الطائفية والإثنية كمعيار للانتماء العرقي المكوناتي وما يتبعه من تأجيج لمسائل خلافية، باتت تنخر في وعيهم وتسبغ عليهم الهوية الإثنية، والناس من حولهم لا يرونهم غير ضد نوعي في وجودهم وتخطي حدودهم، أدمنوا الأذى لأنفسهم ولسواهم، لم يتمكنوا من تخطي عقدة الموروث السلوكي للتجارب المحزنة التي عاشوها والعداوات التي ابتكروها، أو تأثروا بها، وباتوا ضحاياها مدمني وجع التجارب السابقة، والأحقاد اللاحقة التي حكمت البلاد وأغرقتها وهجّرت العباد.
تاريخ الألم يبدأ من أول انقلاب عسكري عام 1936 قاده ضابط كردي اسمه بكر صدقي، نشر على رؤوس العراقيين إعلان انقلابه ونيّته مصادرة شرعية السلطة عنوة، نالها عاماً واحداً فقط وصُفّي بطريقة دراماتيكية ليثبت أنه وصاحبه حكما البلاد عنوة وأُخرجا عنوة، وجرت بعدها العمليات الثأرية والإلغاءات وتكرّست الفتن، بل استوطنت في النفوس الغائرة التي تتشرب منها في كل حقبة لسبب مهم وأساسي، عدم نفاذ سلطة القانون والدستور، وتفعيل روح المواطنة، حين تتشرب بالغل والتبعية وروح الانتقام، لنكشف عن الداء الذي أصاب العراقيين في مقتله. وبات المجتمع يعاني من ظاهرة الارتياب والتوجس والتطرف وعدم امتلاك القدرة على التسامح، تغذيها روح التملك والاستحواذ والانتقام ورغبة التسيّد والاقتصاص التي سادت عامة الناس، أولهم الخصوم، حتى وصلت الأمور إلى طريق مسدود في تشرذم وعي المجتمع واقتناعه الخجول بفكرة التقسيم القسري، الذي يوفر ملاذات آمنة لمناطق النزاع في البلاد.
صباح الناهي
اندبندت عربي