معضلة البدون وخيط الحل الوحيد

معضلة البدون وخيط الحل الوحيد

ينطوي وجود مواطنين من دون هوية في بعض بلدان الخليج على سلسلة مترابطة من المعضلات السياسية والإنسانية والأخلاقية والاجتماعية، حتى لكأنها حزمة مشاكل يشدها خيط واحد، وقد حان الوقت لمعالجتها بما تقتضيه من قدرة على الترفع.

بالمعنى الفردي للعلاقة بين حامل الجنسية و”البدون”، فإن الحديث عن المساواة بين البشر لا موضع له من الإعراب في البيئات التي تعتبر “الجنسية” ريشة تميّز وتعلق شديد بالامتيازات الفردية. ومع ذلك، فليس من الاستثنائي أن يمتلك أصحاب هذا “التميز” شعورا معاكسا حيال من يحملون الجنسية الأميركية والبريطانية وغيرها. فهؤلاء مواطنون تقف وراءهم سفارات تحمي حقوقهم احتراما لمواطنيتهم وليس جوازات سفرهم وحدها.

الجمع بين هذه النظرة المضطربة وبين النظر إلى مواطنين يتنفسون الهواء نفسه على أنهم لا يستحقون أي حقوق، حتى بامتلاك هوية، مبعث اضطراب إضافي، لأنك ما أن تخرج من قاعدة أن البشر سواسية (كأسنان المشط؟) أو أن المواطن مواطن، فسرعان ما تجد نفسك تتخذ موقفا مختلا تجاه غيرهم، يبالغ في رفع شأن الأجنبي بينما يستهين بمن هم مواطنوه. وما تلك إلا أواني مستطرقة، سواء تساوت أو اختلفت فيها المقاييس فإن ارتفاع الماء فيها يظل هو نفسه. فالبشر هم أنفسهم، وحقوق المواطنية لا بد في النهاية أن تستقيم.

مخجلٌ أن تستوعب دول التقدم والتحضر والغنى الملايين من البشر اللاجئين والمهاجرين وتمنحهم فرصا متساوية للحياة والازدهار والغنى، بينما ما تزال هناك بيننا دول تعامل بعض مواطنيها على نحو يدفعهم إلى الانتحار

أما بالمعنى الرسمي، فان القابلية على الترفع عن “صغائر القوم” واضطراب مشاعرهم، ما تزال أدنى بكثير من أن تراعي الأسس العامة التي تتعامل بها الدول مع قيم المواطنية ومبدأ المساواة في الحقوق والواجبات.

إن ما يصنع من الشعب شعبا، هو ذلك التمازج في النسيج الاجتماعي الذي يستند إلى قيم مشتركة وسلطة قانون وأفراد متساوين أمام الكيان العام الذي يمثلهم.

على حين غرة وجدت الولايات المتحدة وباقي دول الحلف الأطلسي نفسها بحاجة إلى إجلاء مواطنين أفغان، كانوا يعملون مع قواتها أو موظفين لدى الحكومة السابقة. ففتحت الأبواب لعشرات الآلاف منهم.

وعلى حين غرة استقبلت ألمانيا مليونا ونصف المليون لاجئ ابتداء من العام 2015.

كل هؤلاء أصبحوا أو سوف يصبحون مواطنين، يحظون ليس ببطاقات هوية فحسب بل وبامتيازات سكن وتعليم وصحة وضمان اجتماعي مساوية تماما لما يحصل عليه المواطنون الذين لم يعرفوا من أوطانهم إلا ما عرفوه. ولا تمضي بضع سنوات على الإقامة والعمل لهؤلاء اللاجئين والمهاجرين، حتى يُمنحوا جنسية وجواز سفر، من دون أن تكون أعينهم زرقا ولا لون شعورهم أشقر، ولا تجري اللغة على لسانهم كما تجري على لسان الآخرين.

أي واحد من هؤلاء يستطيع أن يذهب إلى واحدة من دول البدون ليرى بنفسه كيف تتجلى مشاعر الاضطراب الفردي تجاهه، عندما بات يرتدي جواز سفر أكثر “تفوّقا”.

واحد من مواطني البدون، لم يلق من علاج لكورونا، لأنه لا يحمل بطاقة هوية تتيح له أن يتلقى العلاج، فصب على ثيابه البنزين وأحرق نفسه.

أهذه علاقة بشر ببشر؟ أم أنها علاقة وحوش؟

كائنا من كان، بهوية أم من دون هوية، أو يبتدع لنفسه أي اسم، يستطيع أن يدخل أي مستشفى في أي بلد أوروبي، وسيجد بشرا يعتنون به، ويلقى العلاج الطارئ الذي يحتاجه.

يصعب تصور أن الغنى، أو الخوف عليه، هو السبب الذي يدفع مواطنين وحكومات إلى حرمان مجموعات صغيرة من الناس من حقوق المواطنية. إلا إذا كان أولئك المواطنون وتلك الحكومات يعيشون على اعتقاد مبتذل هو أنهم وقعوا على كنز ولا يريدون أن يتقاسموه مع غيرهم.

بالمعنى الفردي، فإن هذا الاعتقاد يدل بحد ذاته على ضيق أفق، ومشاعر جوع للامتيازات، وعلى سوء فهم عميق لمعنى الثروة.

وبالمعنى العام، فإن الدولة إذا وقعت ضحية هذا الاعتقاد، فإنها تضع نفسها في مصاف لا يرقى إلى مستوى “دولة – شعب”، وكأنها تصدر حكما تسترخص فيه قيمتها بنفسها.

يستطيع المرء أن يتخيل أن الذين وقعوا على الكنز وخافوا عليه واحتكروه، لم يرقوا هم أنفسهم إلى مستوى المواطنية لأنهم لم يفهموها، ولم يدركوا موجباتها. لأنهم إنما ينظرون إلى أوطانهم على أنها برميل نفط، وهم باقون فيها حتى ينضب.

هذه ليست علاقة بوطن، ولا بأرض ولا بقيم اجتماعية أو حتى أخلاقية.

المعضلة الأكبر هي أن حكومات الدول التي تعاني من مشكلة البدون، تستحب أن تنتعل حذاء فيه مسمار، فتلحقها الانتقادات وتقارير المنظمات الحقوقية وتثير مشاعر الاستهجان لأنها تتصرف حيال بعض مواطنيها بعقلية تجاوزها الزمن بنحو عدة قرون. كما تجاوزها إسلامها المزعوم بنحو 14 قرنا.

المطلوب حل يفك خيط المعضلة؛ حل يترفع على الصغائر ويرتفع بالقبيلة إلى مصاف شعب يعي أنه لم يعد مكونا من أسرتين أو ثلاث، وأن الوطن وطن لكل من يقيم فيه ويؤدي الواجب تجاهه ويدفع القسط المطلوب لحفظ قيم الشراكة ووحدة النسيج.

ولا يكفي اختراع حلول من أجل الترقيع، من قبيل منح المواطنين “البدون” وثائق سفر، لا هي جواز سفر، ولا هي هوية مواطنية. إذ سرعان ما سيتضح أن الغرض منها هو تهجير البدون إلى الخارج، وليس استيعابهم.

بعض هؤلاء البدون يمكن أن يعود إلى الوطن الذي عاش فيه ذليلا مُهانا، بشهادة وجواز سفر بريطاني أو أميركي أو ألماني، لكي يرى كيف يُعامل كـ”خبير أجنبي”.

الغنى ليس برميل نفط نتقاسمه، ولا امتيازات نحصل عليها بالولادة في أرض لم يمض وقت طويل على اليوم الذي كان الفقر والغبار يطويان خيامها.

القابلية على الترفع عن “صغائر القوم” واضطراب مشاعرهم، ما تزال أدنى بكثير من أن تراعي الأسس العامة التي تتعامل بها الدول مع قيم المواطنية ومبدأ المساواة في الحقوق والواجبات

الغنى ليس ما تولد به. إنه ما تصنعه بيديك. وهو ما يملي عليك أن تكون بشرا، لأنك حققته في العلاقة مع بشر.

أما الذين ارتبطت كينونتهم ببرميل نفط، فسوف ترى اضطرابهم من دون تزويق عندما ينضب.

شيء مخجل أن تكون “المواطنية” كمعنى حقوقي وإنساني، بحاجة إلى شروح جديدة.

مخجلٌ أكثر أن تستوعب دول التقدم والتحضر والغنى الملايين من البشر اللاجئين والمهاجرين وتمنحهم فرصا متساوية للحياة والازدهار والغنى، بينما ما تزال هناك بيننا دول تعامل بعض مواطنيها على نحو يدفعهم إلى الانتحار.

متى يشعر المواطنون من ذوي الامتيازات أنهم بشر وليسوا محفظة نقود؟ متى يتوقفون عن النظر إلى برميل النفط على أنه هو هويتهم الوطنية؟ ولماذا تتردد الحكومات في أن تنزع من نعالها مسمار الانتقادات؟ ولكن أهم من ذلك، متى تترفع لتقول إنها دولة شعب متعدد المشارب، لا دولة تمييز قبلي؟

العرب