لندن – تضغط فرنسا بكل ما تستطيع لمنع مجموعة فاغنر الروسية من الحصول على مواقع نفوذ لها في منطقة الساحل والصحراء.
وفيما يتمسك المجلس العسكري الجديد في مالي بتوقيع اتفاق مع المجموعة، فإن باريس تدفع زعماء دول المنطقة لإظهار رفضهم القاطع لوجود هذه المجموعة التي توظف المئات من المرتزقة في مناطق تمركزها لتحقيق أهداف سياسية وأمنية واقتصادية تستفيد منها السلطات الروسية التي تلعب في الخفاء.
وحذر وزير خارجية تشاد شريف محمد زين الخميس من أن أيّ “تدخل خارجي، بغض النظر عن مصدره، يمثل مشكلة خطيرة جدا على استقرار بلدي وأمنه”، وذلك ردا على سؤال حول مجموعة فاغنر، مؤكدا أن كل التدابير ستتخذ “لضمان” حماية تشاد.
ويعتقد مراقبون أن تصريحات الوزير التشادي تأتي في سياق رغبة فرنسية لتحصين منطقة الساحل والصحراء ضد أيّ تدخلات خارجية تتناقض مع مصالح باريس وتحالفاتها في منطقة تعتبرها ملعبا خاصا لا يجوز لأيّ كان التحرك فيه دون إذنها.
بوب دينار كان قادرا بعدد قليل من المرتزقة على الاستيلاء على الحكم في عدد من الدول
ويشير المراقبون إلى أن محدودية الضغوط التي يمكن أن تمارسها باريس لمنع فاغنر من دخول مالي، والتوسع لاحقا في الساحل والصحراء، يدفعانها إلى تحريض قادة المنطقة الأصليين ليعلنوا معارضتهم وجود مجموعة سبق أن زاحمت مصالح فرنسا في أفريقيا الوسطى.
ويبدو أن رائحة البترول وأخبار اكتشاف المعادن النفيسة كاليورانيوم والذهب في مالي قد دفعتا فاغنر إلى جعلها هدفا تاليا لوجودها في المنطقة بعد ليبيا مستفيدة من الصعوبات التي يمر بها المجلس العسكري الجديد في تحصيل الاعتراف الإقليمي والدولي.
ورغم أن فاغنر تظهر في الصورة كمجموعة أمنية خاصة مثل غيرها من المجموعات الأمنية المعروفة، إلا أن طبيعتها المزدوجة، العسكرية والاقتصادية، ستجعلها أكثر ولاء والتزاما تجاه روسيا، وهذا سر مخاوف فرنسا التي تعتقد أن موسكو هي من تضبط تحرك المجموعة من وراء ستار منذ تدخلها في أوكرانيا وسوريا وليبيا وأفريقيا الوسطى والآن في مالي.
ويتيح التبرؤ الرسمي الروسي من المجموعة لقادة فاغنر وجنودها التحرك بحرية في غياب الضغوط الدبلوماسية على أنشطتها وكذلك غياب المساءلة القانونية على التهم الموجهة إليها من أكثر من جهة، بينها وزير خارجية تشاد الذي اتهمها بتدريب المقاتلين المعارضين الذين شاركوا في اغتيال الرئيس التشادي السابق إدريس ديبي إتنو في أبريل الماضي.
وعرفت المجموعة بتمركزها في المناطق الاقتصادية الحيوية، ففي ليبيا تمركزت المجموعة في الهلال النفطي، كما دعّمت قائد الجيش الوطني المشير خليفة حفتر لكونه قد نجح في ضم حقول النفط المختلفة تحت سلطته. وفي أفريقيا الوسطى سيطرت المجموعة على المناطق المنتجة للمعادن.
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تظهر فيها فرنسا قلقها من الدور الذي تلعبه مجموعة فاغنر، فقد سبق أن أبدت انزعاجها من الدور الذي تلعبه المجموعة في دول مثل أفريقيا الوسطى.
وفي يونيو الماضي أعلن وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان أن روسيا شرعت في “الاستيلاء على السلطة” في جمهورية أفريقيا الوسطى عبر مرتزقة مجموعة فاغنر، مع استبعاده تهديداً مماثلاً في الساحل الأفريقي.
وقال “في جمهورية أفريقيا الوسطى، عبر المرتزقة الروس، ثمة نوع من أنواع الاستيلاء على السلطة، والسلطة العسكرية على وجه الخصوص. هذا ما نكافحه، وهذا ما دفعنا نحو اتخاذ تدابير لسحب عدد من أفرادنا العسكريين”.
وتقدر فرنسا خطورة الشركات الأمنية وقدرة منتسبيها على تنفيذ مهام معقدة باعتبارهم ورثة تشكيلات المرتزقة التي استفادت منها المخابرات الفرنسية في أفريقيا، واستخدمتها قوى غربية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا في مهام مصممة من قبل أجهزة استخباراتها.
ويبرز العسكري الفرنسي الراحل بوب دينار كواحد من أذرع أجهزة الاستخبارات الغربية في أفريقيا والشرق الأوسط، إذ كان قادرا بعدد قليل من جنوده المرتزقة على الاستيلاء على الحكم في عدد من الدول الأفريقية وتسلميه لمن تكون تلك الأجهزة أعدّته لخدمة مصالحها. وشارك دينار بشكل فعال في الحرب في اليمن في الستينات إلى جانب القوات الإمامية المدعومة من السعودية ضد الثوار الجمهوريين.
وتعيد فاغنر وشبكة علاقاتها التجارية والعسكرية إلى الأذهان واحدا من أشهر المشاريع الاستعمارية العسكرية وهو شركة الهند الشرقية التي حكمت شبه القارة الهندية لأكثر من قرن بين ما يسمّى شركة وقوات عسكرية تابعة لها وصولا إلى مسمّى “نائب الملك” الذي صار الحاكم العام للهند أي لما يعرف اليوم بالهند وباكستان وبنغلاديش.
وتكافح باريس للحفاظ على نفوذها في أفريقيا التي تمثل تاريخيًّا موقعا حيويا بالنسبة إلى المصالح الفرنسية، لكنها تواجه في السنوات الأخيرة صعوبات كثيرة بسبب تعدد خصومها، وخاصة المجموعات الجهادية في غرب أفريقيا، والتي اكتسبت خبرات قتالية وقدرة على التحرك والمناورة أجبرت الفرنسيين على إشراك القوات الحكومية لدول الساحل والصحراء، وتبحث الآن عن مخارج لسحب قواتها ودعم القوات المحلية من أجل الاستمرار في الحرب المعقدة على الإرهاب.
ومن شأن دخول روسيا إلى مالي، ولو بشكل مقنّع، أن يضيف منافسا قويا لفرنسا التي دخلت خلال السنوات الأخيرة في صراع مفتوح مع الولايات المتحدة حول مواقع النفوذ في أفريقيا، فضلا عن التحديات الأمنية الصعبة بمواجهة التنظيمات المتشددة.
وتنشط بمنطقة الساحل الأفريقي العديد من التنظيمات المتطرفة، بينها فرع “القاعدة ببلاد المغرب”، حيث تشن هذه التنظيمات من حين إلى آخر هجمات تستهدف الثكنات العسكرية والأجانب في دول الساحل، خصوصا في مالي.
وفيما تحولت منطقة الحدود المشتركة بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو إلى معقل جديد للتنظيمات المتشددة أخفقت عملية “برخان” الفرنسية، التي تضم 5100 جندي، في تطهير المنطقة من المسلحين، رغم وجود قوات من الاتحاد الأفريقي ووصول دعم عسكري من دول أوروبية.
وأعلنت فرنسا مطلع يوليو 2021 أنها ستستأنف العمليات العسكرية المشتركة في مالي بعد تعليقها مطلع يونيو الماضي، عقب انقلاب عسكري بالبلاد هو الثاني خلال أقل من عام.
العرب