على مدى 30 عاماً، منذ نهاية الحرب الباردة، بحثت الولايات المتحدة من دون جدوى عن هدف لقوتها العالمية التي لا مثيل لها حاضراً. في الحقيقة، لا توجد دولة أخرى (أو مجموعة دول في الاتحاد الأوروبي) تضاهي قوتها العسكرية والاقتصادية والسياسية مجتمعةً. وعلى الرغم من ذلك، استخدمت الولايات المتحدة هذه اللحظة النادرة في التاريخ بشكل سيئ، إذ جرّبت واستبعدت تبريرات متعددة لدورها العالمي، بعد أن أظهرت التجربة أنّ هذه التبريرات غير نافعة أو لا تتمتّع بشعبية. لقد جربت أولاً الدور الشامل “للأمة التي لا غنى عنها”، ثم دور صانعة النظام العالمي الليبرالي والركيزة الرئيسية له، والمدعي العام الأول “للحرب العالمية على الإرهاب”، والحامي والمروج للحكومات الديمقراطية (بما في ذلك تغيير النظام بالقوة)، وأخيراً زعيم الجانب الديمقراطي في صراع عالمي بين الحكومات الديمقراطية والاستبدادية. وفي تلك الأثناء، ازداد اعتماد واشنطن أكثر فأكثر على استخدام القوة العسكرية، وفقدت الثقة في الدبلوماسية المنسقة كوسيلة للتعامل مع الخصوم، وذلك بسبب قلة استخدامها.
لقد أخفى التهديد الوجودي في الحرب الباردة خلافات عميقة حول الموقف العالمي المناسب للولايات المتحدة. منذ ذلك الحين، تشعّب الجدل بشكل غير حاسم بين أولئك الذين يعتقدون أن المصالح الأميركية عالمية ويطالبون بقيادة عدوانية وأحادية الجانب في كثير من الأحيان في معظم القضايا، وأولئك الذين يدافعون عن مفهوم أضيق للمصلحة الوطنية ونهج أكثر تعاوناً لتحقيق هذه المصلحة. في المقابل، يبقى السؤال الأصعب المتعلق بما يشكل المصالح الأساسية الحيوية للأمن القومي بلا إجابة. وعلى الرغم من هذه الانقسامات، تخلى الكونغرس إلى حد كبير عن تصويت خطير بشأن السياسة الخارجية، وحتى في ما يتعلق بمسؤوليته الدستورية عن إعلان الحرب. عدا عن التجارة، تمكن مجلس الشيوخ من المصادقة على معاهدة واحدة متعددة الأطراف في السنوات الخمس والعشرين الماضية، فيما رفض العديد من المعاهدات التي شكّلت مبادرات خاصة بالولايات المتحدة (مثل معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية) أو التي جسّدت القيم الأميركية (بروتوكول مناهضة التعذيب)، وأهدافها (بروتوكول كيوتو بشأن المناخ)، وحتى التشريعات المحلية (تقييد التجارة الدولية في التبغ).
ربما توجد فرصة الآن للشروع في إنهاء هذا المأزق. بمجرد أن يتحول الانتباه من الأخطاء التكتيكية المرتَكبة في الأسابيع الأخيرة من الانسحاب الأميركي من أفغانستان، إلى الانحراف عن الهدف وخداع الذات في السنوات العشرين السابقة، فإن صدمة الفشل في أطول حرب أميركية قد توفر لحظة مفتوحة من أجل مراجعة القائمة الطويلة للتدخلات السابقة وإعادة النظر في السياسة الخارجية التي اعتمدتها الولايات المتحدة في حقبة ما بعد الحرب الباردة على نطاق أوسع.
تتمثّل الخطوة الأولى نحو إجراء إعادة تقييم من هذا النوع، في إدراك أن ما حدث في أفغانستان يماثل تجربة الماضي. في عام 2003، قام العالم السياسي “مينكسين باي” بفحص سجل التدخلات العسكرية الأميركية بهدف تغيير النظام. كان مقياس النجاح الذي اعتمده هو ما إذا كانت الديمقراطية ستظلّ موجودة بعد عشر سنوات من رحيل القوات الأميركية. من بين 16 محاولة من هذا القبيل، حدد أربعة نجاحات فحسب: ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، والبلدان المتقدمة للغاية التي استسلمت بعد الحرب الشاملة، وغرينادا وبنما الصغيرتان، حيث قامت الولايات المتحدة بتدخلات سريعة لمدة أقل من عام.
وقد تميّزت قصص النجاح بخصائص مشتركة متعددة، بما في ذلك الهوية الوطنية القوية، والقدرة العالية التي تتمتّع بها الدولة، ودرجة عالية من التجانس العرقي، والمساواة الاجتماعية والاقتصادية النسبية، والخبرة السابقة في سيادة القانون الفعالة مهما كانت تلك الخبرة قصيرة. في المقابل، اعتُبرت الانقسامات العرقية والدينية العميقة فتّاكة، وكذلك المواءمة مع النخبة الحاكمة غير الشعبية، خصوصاً إذا كان الفساد مستشرياً فيها.
والجدير بالذكر أنّ “باي” نشر دراسته في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تعلن فيه نهاية “القتال الرئيسي” في أفغانستان والانتقال إلى “الاستقرار وإعادة الإعمار”. في تلك الفترة، لم يكن في أفغانستان سوى 8000 جندي أميركي. ما هو واضح الآن، وما كان يجب أن يكون واضحاً آنذاك، هو أن أفغانستان لم تكن تتمتع بأي من الصفات التي تعد بالنجاح بل كانت تملك كل تلك التي تنذر بالفشل. وبغض النظر عن الحالات الخاصة بألمانيا واليابان، وبافتراض أن أفغانستان لن تصبح ديمقراطية بعد عشر سنوات من الآن، فإن معدل فشل الولايات المتحدة يبلغ 86 في المئة.
لا يمكن تحقيق الديمقراطية بالقوة، على الرغم من أن الولايات المتحدة تواصل المحاولة.
ومن بين الدروس المتعددة التي يجب استخلاصها من هذه التجربة، ثلاثة دروس أساسية. أولاً، بين المتدخلين الاستعماريين وما بعد الاستعمارين، فإن الولايات المتحدة سيئة بشكل خاص في تجاهلها تاريخ البلدان التي تتدخل فيها وثقافتها وقيمها. وذلك ليس نتيجة الجهل. إذ عادة ما يكون أصحاب المعرفة ذات الصلة غير موجودين في الغرفة عند وضع السياسة العليا. وبشكل روتيني، يتم التعامل مع التاريخ والثقافة كخلفية أو سياق عوضاً عن اعتبارهما عاملين حاسمين سيحدّدان النجاح أو الفشل، كما فعلا بشكل لا لبس فيه في أفغانستان.
ثانياً، ما حدث في أفغانستان لم يكن بسبب الافتقار إلى المعلومات الاستخباراتية الجيدة. عبر التاريخ، كان الشكل الأكثر شيوعاً لفشل الاستخبارات هو فشل القادة المدنيين والعسكريين في الإصغاء إلى ما لا يريدون سماعه. في بداية رئاسة باراك أوباما، كلف بإجراء دراسة لمدة 60 يوماً من أجل تشكيل استراتيجية الولايات المتحدة في أفغانستان. كتب في مذكراته أن التقرير “أوضح شيئاً واحداً. ما لم تتوقف باكستان عن إيواء طالبان، فإن جهودنا لتحقيق الاستقرار على المدى الطويل في أفغانستان محكوم عليها بالفشل”. علمت وكالات الاستخبارات الأميركية أن الروابط بين باكستان وطالبان كانت عميقة وطويلة الأمد وأن باكستان كانت توفر ملاذاً آمناً لمقاتلي طالبان وقيادتها. وكانت الخلاصة التي ينبغي استنتاجها هي أن الولايات المتحدة يجب أن تكسر بطريقة أو بأخرى ذلك الرابط أو تخفّض خسائرها في بناء الدولة في أفغانستان. بدلاً من ذلك، لاحظ صناع السياسة المشكلة، وحاولوا تحسينها من دون جدوى، ومضوا قدماً على أي حال.
الدرس الثالث يتعلق بالإجراءات العملية: لا يمكن لصناع السياسة في الولايات المتحدة الاعتماد على الجيش من أجل الاستنتاج أن مهمة ما غير قابلة للتحقيق. إذ إنّ القيمة الأساسية للجيش هي تنفيذ أي مهمة تم تكليفه بها. والروح السائدة فيه هي “يمكن فعل ذلك”. يستطيع الجنرالات تحديد الصعوبات بشكل مسبق، ولكن بمجرد بدء المهمة، سيصرون على أن الأمور تتحسن أو أنها ستتحسن في حالة توفير مزيد من المال والوقت والأسلحة والقوات. لن يشكك الجيش في صحة المهمة. وذلك يعني أن الرئيس الذي يقرّ بأن الدولة قد تولّت شيئاً لا يمكنها تحقيقه يجب عليه في مرحلة ما “رفض نصيحة جنرالاته”. بالتالي، يجب على الأميركيين أن يعترفوا بالشجاعة الأخلاقية النادرة التي أبداها الرئيس جو بايدن في القيام بذلك ومكافأته عليها، علماً أنّ ثلاثة رؤساء قبله فشلوا في استجماع شجاعة مماثلة.
اقرأ المزيد
درس أفغانستان الأميركي… غزو الدول لا يقضي على الإرهاب
الفساد في أفغانستان صناعة أميركية
لماذا لا ترغب روسيا والصين في لعب دور أميركا بأفغانستان؟
لا عودة للفتيات إلى مقاعد الدراسة في أفغانستان
الولايات المتحدة خسرت أفغانستان منذ زمن بعيد
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن الولايات المتحدة معتادة على المبالغة الشديدة بشأن عواقب إخفاقاتها. في الأسابيع القليلة الماضية، جرى حديث عن “نهاية الإمبراطورية، و”عودة إلى الانعزالية”، ومكاسب ضخمة ستحصل عليها روسيا والصين (اللتان قد تكونان مثقلتين بتداعيات الحرب الأهلية المستمرة في أفغانستان، وتزايد إنتاج الأفيون، وتصاعد التطرف الإسلامي). في الواقع، استُقبلت نهاية حرب فيتنام بأحاديث مماثلة، ولأسباب أعظم بكثير. وبعد 15 عاماً، انتصرت الولايات المتحدة في الحرب الباردة وهيمنت على العالم.
الدروس المستفادة
إذا نحينا جانباً مثل هذه التوقعات القاتمة، فما الذي قد يترتب على اعتماد نهج أميركي مختلف في السياسة الخارجية؟ يجب أن تكون الخطوة الأولى هي إمعان النظر في فكرة الاستثنائية الأميركية. على الصعيد المحلي، عدم المساواة في الدخل المرتفع، والمستوى الاجتماعي الثابت أو المتدهور عبر الأجيال، والسياسة شديدة الاستقطاب، والانقسام العرقي، والاعتناق المتفشّي لنظريات المؤامرة، والواجب المدني المتضائل، وحتى علامة الاستفهام الموضوعة على شرط ضروري من شروط الديمقراطية، وهو الانتقال السلمي للسلطة من خلال الانتخابات، كلها أمور تتضافر معاً لتجعل “قوة مثالنا”، وهي العبارة التي استخدمها بايدن، مريبة في أحسن الأحوال.
إن سجل الولايات المتحدة في القيادة الدولية مشكوك فيه أيضاً. منذ منتصف التسعينيات، عندما بدأت الولايات المتحدة في الامتناع عن دفع مستحقاتها القانونية للأمم المتحدة ثم للوكالات الدولية الأخرى، يمكن القول إن سياساتها الخارجية، بشكل عام، أضعفت قدرة العالم على حل المشكلات العالمية. إضافة إلى الأمثلة المذكورة أعلاه، فمن بين الاتفاقيات التي رفضتها الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة، معاهدة قانون البحار، واتفاقية حظر الألغام المضادة للأفراد، والمحكمة الجنائية الدولية. بينما وافقت عليها غالبية دول العالم المتبقية. وكذلك رفضت الولايات المتحدة التصديق على معاهدات حماية الموارد الجينية، وتقييد التجارة في الأسلحة التقليدية، وحظر الملوثات العضوية الثابتة والقنابل العنقودية، وحماية الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة. وفي العامين الأولين من رئاسة دونالد ترمب وحدها، رفضت الاتفاقية التجارية للشراكة عبر المحيط الهادئ، وانسحبت من اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (ثم أعادت التفاوض بشأنها)، ومعاهدة القوات النووية المتوسطة المدى، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، واتفاقية باريس للمناخ، والاتفاق النووي الإيراني. إذاً، يجب الآن وضع اتفاقيات دولية رئيسية مثل الاتفاقيتين الأخيرتين بهدف تجنب الإقرار الرسمي للمعاهدات لأن العالم يعرف أن الولايات المتحدة لا يمكنها إعطاء تصديق من مجلس الشيوخ. إذا كانت هذه هي الاستثنائية، فإن العالم المعولم والمترابط يحتاج إلى نسبة أقل منها.
ولبلوغ هذه الغاية، يجب على الولايات المتحدة أن تعيد النظر في عدد من الممارسات القديمة. منها الاعتقاد بأن تجنب دولة أخرى، أي رفض الاعتراف بها رسمياً أو التحدث إلى ممثليها، هو شكل مفيد من أشكال القيادة. على العكس من ذلك، هناك دليل واضح – من كوبا وإيران وأفغانستان وأماكن أخرى – على أن هذه الممارسة تضر في الغالب بالولايات المتحدة، وتعيق الدبلوماسية حيث تشتد الحاجة إليها، وتستنزف القدر الأدنى من الثقة المطلوبة لتضييق هوة الخلافات، وتستلزم أن يتم تسليم أصعب وأدق المفاوضات إلى وسيط. وبالمثل، فإن الإفراط في الاعتماد على العقوبات، خصوصاً العقوبات الأحادية الجانب، غير مفيد أيضاً وينبغي تقليصه بشكل جذري.
تحتاج واشنطن أيضاً إلى الاعتراف إلى أي درجة أسهمت سياساتها وإنفاقها وخطابها في تعزيز الاعتقاد السائد بأن الشكل الوحيد المجدي للمشاركة الأميركية في الخارج هو الالتزام العسكري. خمسة وعشرون عاماً من العمليات العسكرية الأميركية شبه المستمرة كيّفت العالم بشكل يجعله يتوقع تدخلات أميركية، ويقيس مدى جدية الولايات المتحدة من خلال هذه التدخلات، وفي المقابل، يخفّض إنفاق الأصدقاء والحلفاء على دفاعهم الخاص. خلال كل من الإدارات الديمقراطية والجمهورية، أغدق أعضاء الكونغرس بالأموال على البنتاغون، متسامحين مع تبديد هائل مقابل الدولارات التي يتم إنفاقها في ولاياتهم ومقاطعاتهم. في الوقت نفسه، عانت وزارة الخارجية وعمليات خارجية أخرى غير دفاعية من نقص مزمن في التمويل من قبل الكونغرس. ومع تضخم ميزانية الدفاع، أصبحت الفجوة هائلة. في السنتين الماليتين 2019 و2020، سعت مقترحات ميزانية ترمب إلى زيادة الإنفاق الدفاعي بشكل تخطّى الميزانية الكاملة المخصصة لكلّ من وزارة الخارجية والعمليات الخارجية، علماً أنّ المقترحات المذكورة سعت إلى خفض هذه الميزانية بعد.
ينبغي للولايات المتحدة إمعان النظر في فكرة الاستثنائية الأميركية.
هذا التفاوت في التمويل ينعكس في تباين هائل على صعيد رأس المال البشري والقوة التشغيلية، وهو تفاوت يتفاقم بفعل نظام المحسوبية السياسية الذي يضع بشكل روتيني مناصب السفراء في أيدي جهات مانحة غير مؤهلة تماماً. في كثير من الأحيان، يؤدي نقص الموارد في أماكن أخرى إلى إجبار البنتاغون على الاضطلاع بواجبات إنسانية وإدارية لا تناسبه واعتماد الخيار الأكثر تكلفة بشكل عام.
أخيراً، تحتاج سياسات واشنطن المتعلّقة بتعزيز الديمقراطية إلى إعادة تقييم شاملة. إذ إنّ الولايات المتحدة تتصرف في كثير من الأحيان، وكأن الديمقراطية، على حد تعبير السفير الأميركي السابق تشاس فريمان، هي “النظام السياسي الافتراضي”. على النقيض من ذلك، فهي أكثر الأنظمة السياسية تطلباً، وتحتاج إلى مجتمع متعلم ومتماسك نسبياً وقاعدة صلبة للمؤسسات قد يستغرق بناؤها قرناً أو أكثر. في الواقع، قد يتطلب وضع أساس لها التزاماً على مدى عدة عقود، كما فعلت المملكة المتحدة في الهند، والولايات المتحدة في كوريا الجنوبية. لكن الدول التي ترحب باحتلال أجنبي طويل الأمد نادرة للغاية في عالم اليوم، هذا إن وُجدت أصلاً. ولن يكون الدعم الأميركي المحلي لمثل هذه الالتزامات مستداماً إلا عندما تكون المصالح الاستراتيجية الأساسية للبلاد جليّة. إن انتقاد قرار إنهاء الحرب في أفغانستان بسبب افتقاره إلى “الصبر الاستراتيجي” يحيد عن الفكرة التي أدركها الجمهور الأميركي منذ فترة طويلة: لم تكن هناك مصلحة استراتيجية في الحرب التي خاضتها واشنطن. وليس من الضروري أن نضيف أن الديمقراطية لا يمكن أن تتحقق بالقوة، على الرغم من أن الولايات المتحدة تواصل المحاولة.
ينبغي أيضاً إعادة النظر في الاعتقاد الذي تبنّته إدارة بايدن بشكل واضح، بأن الاستبداد يهاجم الديمقراطية بشكل معمم. إذ إن تقسيم العالم على هذا المنوال يقلل بشكل كبير فرصة توفير معالجة ناجحة للمشكلات العالمية الكبرى، على غرار منع انتشار الأسلحة، والتغيير المناخي، والصحة العالمية، والجرائم الإلكترونية، والاستقرار المالي. ببساطة، هناك الكثير من الدول الاستبدادية التي سيكون تعاونها النشط ضرورياً. من المهم أيضاً أن تكون واشنطن قادرة على التمييز بين المصلحة الذاتية في بلد آخر والحملة الصليبية الأيديولوجية، لا سيما في ما يتعلق بالسياسة الأميركية تجاه الصين. في هذا الإطار، من الكارثي حقاً إساءة فهم تصميم الحزب الشيوعي الصيني على تعزيز موقعه في الداخل وفي منطقته، على أنّه طموح عالمي لتدمير الديمقراطية، فذلك يزيد من احتمال نشوب حرب على تايوان ستكون مفجعة للجميع.
هذه التغييرات لا تشكل مذهباً جديداً في السياسة الخارجية. فبالنظر إلى وتيرة التغيير العالمي الأخير ونطاقه وعمق الاستقطاب السياسي الأميركي، من غير المؤكد ما إذا كان مثل هذا التقدم ممكناً حالياً. علاوة على ذلك، تعتبر بعض التحولات المطلوبة خارج نطاق سلطة الولايات المتحدة للقيام بها. سوف يمر بعض الوقت مثلاً، قبل أن تتوقّف الدول الأخرى عن اعتبار أي خيار أميركي بعدم التدخل في الخارج أو تخفيض وجود القوات الأجنبية، تراجعاً أو انسحاباً.
ومع ذلك، فإن هذه التحولات قد تُترجم إلى تغيير جذري في ممارسات الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة. في الواقع، لن ترى أميركا نفسها بعد الآن بمثابة “الشرطي الذي يقوم بدورية عالمية”، كما يعتبرها المحافظون الجدد، ولن تقلص مصالحها الأساسية في الدفاع ضد تهديدات الصين وروسيا، كما اقترح بعض الواقعيين. ستؤدي هذه التغييرات إلى سياسة إعادة التوازن بين الأدوات العسكرية وغير العسكرية؛ أكثر تحفظاً في شن التدخلات العسكرية وأكثر حكمة في تنفيذها؛ أكثر إدراكاً لمدى الحاجة إلى معاهدات متعددة الأطراف وأكثر فهماً لقدرتها وفعاليتها؛ أقل عرضة للأفعال أحادية الجانب التي غالباً ما تدمر الذات؛ وأكثر عقلانية في موقفها تجاه الديمقراطية في أماكن أخرى. باختصار، هي تعني إنهاء فوضى الهيمنة التي لطالما تمسكت بها الولايات المتحدة.
اندبندت عربي