مختلفة هي الانتخابات البرلمانية العراقية التي جرت قبل أيام. وحتى ما قبل إجراء عملية التصويت بأيام، كان الاختلاف محصوراً في السياق الداخلي للأوضاع السياسية العراقية، بسبب استياء العراقيين من الوضع العام، الاقتصادي خصوصاً. وارتبط جزءٌ معتبر من ذلك الاستياء بخيبة أمل العراقيين في الطبقة السياسية، ما انعكس بالفعل على نسبة المشاركة في الانتخابات مقارنةً بما كان متوقعاً. لكن الاختلافات الحقيقية ظهرت بوضوح في نتائج الانتخابات، ففي كل سابقاتها كانت الأسبقية دائماً للقوى والتيارات والرموز الشيعية، وتحديداً الموالية بقوة لإيران. أما هذه المرّة، فقد عكست النتائج تراجعاً كبيراً في شعبية تلك القوى، وجسّدت غضب المواطنين العراقيين من الولاء الهوياتي الذي تحوّل إلى فساد منظم وشبكات مصالح تعمل لحساب أعضائها، وليس لحساب المواطنين، بمن فيهم أصحاب الانتماء الهوياتي نفسه!
حتى هنا، ليس في ذلك الاختلاف على مستوى النتائج مفاجأة، لكن المفاجأة الحقيقية أن الكتلة الأكثر حصولاً على الأصوات هي أيضاً وإن، بشكل ما، كتلة هوياتية. فالقائمة الانتخابية للتيار الصدري تعدّ، في التحليل الأخير، محسوبة على المعسكر الشيعي في العراق بمعناه العام. ولتفسير هذا اللغز، لا بد من فهم الفروق بين التيار الصدري وبقية التيارات والقوى الشيعية العراقية، خصوصاً المعروفة تقليدياً بأدوار وحضور سياسي في العراق خلال العقدين الماضيين.
يتميّز مقتدى الصدر عن نظرائه من رموز الشيعة في العراق بأمرين مهمين. أولهما شخصي، أن له كاريزما شخصية، بعضها موروث عن والده صادق الصدر، وبعضها الآخر ذاتي. وعلى الرغم من أن مواقفه غير ثابتة وسريعة التحول، إلى حد صعوبة توقع قراراته، إلا أن هذا بذاته يمنحه جاذبية خاصة، مقابل الساسة التقليديين أصحاب التوجهات الثابتة والمواقف المتوقعة.
يُضاف إلى ذلك، أن الصدر حريص بشدة على تأكيد عروبته وعروبة العراق. ويتبنّى موقفاً وطنياً جامعاً مناوئاً للدعاوى الهوياتية والطروحات الطائفية الضيقة. وهذه تحديداً ميزة يفتقدها تقريباً معظم الرموز وقادة القوى السياسية العراقية، خصوصاً أنه يربط دائماً بين هذا الطرح الوطني ومقاومة الاحتلال. الأمر الذي أحرج كبار الساسة والقادة الدينيين مرّات كثيرة أمام الشعب العراقي.
في الإطار الأوسع، حملت نتائج الانتخابات حضوراً مميزاً وجديداً للقوى المدنية، ما يعني تزايد الدور السياسي للشباب وتنظيمات المجتمع المدني التي لعبت دوراً محورياً في الحراك الشعبي الذي تكرّر في العراق خلال الأعوام الأربعة الماضية. وهنا تبرز زاوية أخرى لمفاجآت الانتخابات العراقية، أن الصدر والقوى المدنية ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي والقوى الكردية، وكذلك السُّنية، يشتركون جميعاً في توجّه واحد بشأن تموضع العراق في مجاله الحيوي المباشر، إذ يتفقون جميعاً في ضرورة الخروج من أسر النفوذ الإيراني، وكسر دائرة الارتباط بإيران مذهبياً، وبالتالي سياسياً ومصلحياً.
وعلى الرغم من أن هذه الأطراف ليست متفقة بشكل كامل على تصوّر واحد لطبيعة تموضع العراق عربياً، حيث يحتفظ الأكراد بموقفٍ خاص في هذا الصدد، وكذلك الأمر بالنسبة إلى التيار المدني، إلا أن وجود الكاظمي رئيساً للحكومة العراقية، والحضور الكبير للصدريين في البرلمان الجديد، سيعطي زخماً جديداً للروابط والتفاهمات العراقية العربية.
أخيراً، وبعد سنوات من التباين والتذبذب في العلاقات بين أربيل وبغداد، قد تتوَّج مفاجآت الانتخابات العراقية بتقارب بين الجانبين على أسس واقعية وبراغماتية، برعايةٍ وضمانات صدرية، غير أن تبلور نتائج الانتخابات وتطورها إلى واقع سياسي وتوجهات عملية ليس مضموناً بمجرّد الحصول على أغلبية تصويتية، بل يحتاج مرونة سياسية داخلية، ودعماً ومساندة اقتصادية، خصوصاً من الدول والقوى الداعمة للعراق والعراقيين، وتحديداً الأطراف العربية المعنية باستقرار العراق وأمانه ومستقبله، وفي ذلك حديث آخر.
سامح راشد
العربي الجديد