شهدنا هذا الصيف بداية نهاية الأرض كما نعرفها، بعد أن كانت عالما من الغابات الخصبة والمحاصيل الوفيرة والمدن والسواحل الصالحة للعيش. ورأينا المظاهر المبكرة لكوكب متضرر بالمناخ مع غابات محترقة وعواصف وحقول جافة ومدن حارقة تحتاج إلى قرارات حقيقية وصارمة في التطبيق في قمة غلاسكو القادمة.
واشنطن ـ سيجتمع قادة من جميع أنحاء العالم قريبا في غلاسكو بأسكتلندا لحضور قمة المناخ للأمم المتحدة في محاولة يائسة لمنع حدوث الأسوأ، لكن خططهم لن تكفي ما لم تكن مدعومة بالاستراتيجية الوحيدة التي يمكن أن تنقذ الكوكب، ألا وهي تحالف بين الولايات المتحدة والصين.
وبالطبع، سيقدم السياسيون والمجموعات العلمية والمنظمات البيئية خططا من كل نوع في غلاسكو لتقليل انبعاثات الكربون العالمية، وإبطاء عملية حرق الكوكب.
وسيحاول ممثلو الرئيس الأميركي جو بايدن الترويج لوعده بتعزيز الطاقة المتجددة وتركيب محطات شحن السيارات الكهربائية في جميع أنحاء البلاد، في حين سيقدم الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون مقترحاته الطموحة مثل العديد من القادة الآخرين.
ومع ذلك، لن يكون أيّ من هذا كافيا لمنع وقوع كارثة عالمية طالما استمرت الصين والولايات المتحدة في إعطاء الأولوية للمنافسة التجارية والاستعدادات للحرب على حساب بقاء الكوكب.
وليس الأمر معقدا، فإذا رفضت القوتان العظميان في كوكب الأرض التعاون بطريقة ذات مغزى في معالجة تهديد المناخ، فسننتهي جميعا.
خطط من كل نوع
إذا رفضت القوتان العظميان في الأرض التعاون بطريقة ذات مغزى في معالجة تهديد المناخ فسننتهي جميعا
برزت هذه الحقيقة القاسية في سبتمبر الماضي حيث أصدرت الأمم المتحدة تقريرا عن التأثير المحتمل للتعهدات التي قطعتها الدول التي وقعت اتفاقية باريس للمناخ في 2015 (التي انسحب منها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في 2017 والتي انضمت إليها الولايات المتحدة مؤخرا من جديد).
ووفقا لتحليل الأمم المتحدة، حتى لو التزم جميع الموقعين الـ200 بتعهداتهم، فمن المرجح أن ترتفع درجات الحرارة العالمية بمقدار 2.7 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة بحلول نهاية القرن. ويتفق معظم العلماء أن هذا يشكل وصفة لتغييرات كارثية لا رجعة فيها في الغلاف البيئي الكوكبي، بما في ذلك ارتفاع مستوى سطح البحر الذي سيغمر معظم المدن الساحلية الأميركية (والعديد من المدن الأخرى حول العالم) مع ارتفاع الحرارة والجفاف الذي سيحوّل الغرب الأميركي إلى أرض قاحلة غير صالحة للسكن.
يتفق العلماء عامة على أنه لتجنب مثل هذه النتائج الكارثية، يجب ألا يتجاوز الاحترار العالمي في أسوأ الأحوال درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل العصر الصناعي.
وضع في اعتبارك أن درجة حرارة الكوكب قد ارتفعت بالفعل بمقدار درجة واحدة مئوية، وقد رأينا مقدار الضرر الذي يمكن أن ينتج عن هذه الكمية من الحرارة المضافة.
وللحد من ارتفاع درجة الحرارة إلى درجتين مئويتين بحلول سنة 2030، يعتقد العلماء أنه يجب خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية بنسبة 25 في المئة عن مستويات سنة 2018.
ومع ذلك، فإن هذه الانبعاثات المدفوعة بالنمو الاقتصادي القويّ في الصين والهند والدول الصناعية الأخرى سريعة التطور كانت في الواقع في مسار تصاعدي، حيث ارتفعت في المتوسط بنسبة 1.8 في المئة سنويا بين 2009 و2019.
وأطلقت العديد من الدول الأوروبية، بما في ذلك الدنمارك والنرويج وهولندا، جهودا بطولية لخفض انبعاثاتها للوصول إلى هدف 1.5 درجة مئوية، مما يمثل نموذجا للدول ذات الاقتصادات الأكبر بكثير. ولكن هذا لن يكفي لإنقاذ الكوكب.
وتبقى الولايات المتحدة والصين، اللتان تعدان أكبر دولتين من حيث انبعاث الكربون في العالم، من يمكن لهما إنقاذ الموقف.
ولإنقاذ الحضارة البشرية يجب على الولايات المتحدة والصين خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بشكل كبير، مع العمل معا لإقناع الدول الرئيسية الأخرى المسببة لانبعاثات الكربون كالهند بأن تحذو حذوها.
وهذا يعني بالطبع تنحية الخصومات الحالية جانبا، مهما بدت مهمة لقادة الولايات المتحدة والصين اليوم، وجعل البقاء أولوية البلدين وهدفهما السياسي.
ولفهم مدى أهمية الصين والولايات المتحدة (أكبر ملوث للكربون في التاريخ) في معادلة تغير المناخ العالمي، عليك أن تفهم دورهما الحالي في استهلاك الكربون وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
ووفقا لمراجعة 2021 إحصائية عن بريتيش بتروليوم للطاقة العالمية، كانت الصين في 2020 أكبر مستخدم للفحم في العالم. وكانت مسؤولة عن 54.3 في المئة من إجمالي الاستهلاك العالمي. وجاءت الهند في المرتبة الثانية بنسبة 11.6 في المئة، والولايات المتحدة الثالثة بنسبة 6.1 في المئة.
واحتلت الولايات المتحدة المرتبة الأولى بنسبة 19.9 في المئة من الاستخدام العالمي للنفط، وجاءت الصين في المرتبة الثانية بنسبة 15.7 في المئة. وكانت الولايات المتحدة الأولى فيما يتعلق باستهلاك الغاز الطبيعي أيضا، وتلتها روسيا والصين.
وتبيّن هذه النسب أن الصين والولايات المتحدة مسؤولتان بشكل مشترك عن 42 في المئة من إجمالي استهلاك الوقود الأحفوري العالمي في 2020. ولم تقترب أيّ دولة أخرى من هذا الحد. ونظرا للارتفاع السريع في مجال الطاقة شكّلت الهند 6.2 في المئة من الاستهلاك العالمي للوقود الأحفوري بينما مثّل الاتحاد الأوروبي 8.5 في المئة، وهو ما يجب أن يعطينا فكرة عن الطريقة التي يهيمن بها البلدان على معادلة الطاقة العالمية. ونظرا لأنهما البلدان المسؤولان عن مثل هذه الحصة الكبيرة من استهلاك الوقود الأحفوري كل عام، وأن احتراق هذه الأنواع من الوقود مسؤول عن الغالبية العظمى من انبعاثات الكربون العالمية، فإنهما من أكبر مسببي التلوث.
ووفقا لبريتيش بتروليوم للطاقة العالمية احتلت الصين المرتبة الأولى عالميا في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في 2020، حيث كانت مسؤولة عن 30.7 في المئة من الإجمالي العالمي، بينما جاءت الولايات المتحدة في المرتبة الثانية بنسبة 13.8 في المئة. ولم يسجل أيّ بلد آخر نسبة أكبر من 10 في المئة، وكان الاتحاد الأوروبي يمثل 7.9 في المئة فقط.
لذلك، لا يمكن إبطاء تسخين هذا الكوكب وإيقافه في النهاية إذا لم تخفض الولايات المتحدة والصين انبعاثات الكربون بشكل كبير في العقود القادمة واستثمرتا بشكل كبير في أنظمة الطاقة البديلة عوضا عن التحضير لحرب عالمية. ونحن نتحدث عن تريليونات من الدولارات في ما يخص النفقات المستقبلية. ولا يوجد خيار آخر لإنقاذ حضارتنا.
وتواجه أيّ استراتيجية للحد بشكل كبير من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية والحفاظ على الاحتباس الحراري من تجاوز درجتين فوق مستويات ما قبل الصناعة أكبر عقبة أمام النجاح، من ذلك اعتماد الصين المستمر على الفحم لتوفير نصيب الأسد من إمدادات الطاقة.
ووفقا لبريتيش بتروليوم حصلت الصين في 2020 على 57 في المئة من احتياجاتها الأولية من الطاقة من الفحم.
وإذا كانت الصين مسؤولة عن 26 في المئة من إجمالي استهلاك الطاقة العالمي في ذلك العام، فإن إحراقها للفحم وحده شكل 15 في المئة من استخدام الطاقة العالمي، وهي حصة أكبر من حصة أوروبا من جميع مصادر الطاقة مجتمعة.
وإذا ألغت الصين تدريجيا مصانع الفحم في هذا العقد واتبعت دول أخرى التزاماتها في باريس، فإن تحقيق الأهداف وتجنب قيامة مناخية سيكون ممكنا على الأقل، لكن ليس هذا هو الطريق الذي تسير فيه الصين.
ووفقا لبعض التقارير من المتوقع أن تعزز تلك الدولة استهلاكها من الفحم في هذا العقد من خلال إضافة 88 جيغاواط من قدرة الطاقة التي تعمل بالفحم. والأسوأ من ذلك هو أن مسؤوليها يفكرون في خطط تشمل 159 جيغاواط أخرى.
ونظرا لأن الفحم هو أكثر أنواع الوقود الأحفوري كثافة في استخدام الكربون، فإن إنشاء العديد من المحطات الجديدة التي تعمل بالفحم سيضيف بشكل كبير إلى انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الصين، مما يجعل الخفض الحاد في الانبعاثات العالمية مستحيلا.
وتحدث الرئيس الصيني شي جين بينغ بالفعل عن بناء “حضارة بيئية” ووعد بوقف ارتفاع انبعاثات الكربون في الصين بحلول 2030. وبدا أنه مستعد حتى لاتخاذ إجراءات صارمة لوقف نمو استهلاك الفحم في الصين.
وتعهد بأن بلاده ستصل إلى ذروة استهلاك النفط بحلول 2025 وأن توقف تمويل بناء محطات الفحم في الخارج كجزء من “مبادرة الحزام والطريق” العالمية، وهي تحول كبير في السياسة. لكن يبدو أن حكومته غضت الطرف عن الجهود التي تبذلها حكومات المقاطعات وشركات الطاقة القوية المملوكة للدولة للإسراع في بناء محطات فحم جديدة.
يعتقد المحللون الغربيون أن القادة الصينيين يائسون لدفع التوسع الاقتصادي إثر وباء كوفيد، حيث يعد تقديم طاقة رخيصة من الفحم إحدى الطرق الواضحة لتسهيل الاستثمار في مشاريع البنية التحتية الجديدة، وهو تكتيك قياسي لتعزيز النمو.
كما يشك بعض المحللين في أن بكين سمحت بزيادة إنتاج الفحم ردا على العقوبات التجارية الأميركية وغيرها من التعبيرات عن عداء واشنطن. وقال دانيال غاردنر من مجموعة هاي ميدو البيئية في برينستون لصحيفة لوس أنجلس تايمز إن “الفحم متوفر بكثرة وغير مكلف نسبيا، ويبدو للكثيرين مصدر طاقة موثوق ومُجرب”.
وانتقد مبعوث الرئيس بايدن للمناخ العالمي، وزير الخارجية السابق جون كيري، الصينيين لإدمانهم على الفحم خلال اجتماع مع كبار المسؤولين في تيانجين. ورأى في إضافة ما يزيد عن 200 جيغاواط من الفحم على مدار السنوات الخمس الماضية ثم وضع 200 أخرى في مرحلة التخطيط تقويضا لقدرة بقية دول العالم على تحقيق الأهداف المناخية الملحّة.
ولن يستجيب القادة الصينيون له بشكل إيجابي نظرا للعداء المتزايد بين بلادهم والولايات المتحدة. حيث أعربت واشنطن في عهد الرئيس بايدن عن دعمها لتايوان التي تعتبرها بكين مقاطعة منشقة أثناء سعيها لتطويق بكين بشبكة أكثر عسكرة من التحالفات المناهضة للصين.
وتشمل هذه الاتفاقية “أوكوس” التي تم تشكيلها حديثا، وتشمل أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، والتي تضمنت وعدا ببيع الغواصات الأميركية التي تعمل بالطاقة النووية للأستراليين. ورد القادة الصينيون بغضب على أن أيّ تقدم بشأن تغير المناخ يجب أن ينتظر التحسن فيما يعتبرونه جوانب أكثر أهمية في علاقتهم مع أميركا.
وقال وزير الخارجية وانغ يي للمبعوث كيري خلال زيارته إلى الصين في سبتمبر الماضي إنه “لا يمكن فصل التعاون بشأن تغير المناخ عن الوضع العام لكل من الصين والولايات المتحدة. حيث يريد الجانب الأميركي أن يكون التعاون في مجال تغير المناخ ‘واحة’ في العلاقات. ومع ذلك، إذا كانت الواحة كلها محاطة بالصحارى، فإنها ستتصحّر عاجلا أم آجلا”.
ومن الناحية النظرية، يمكن للدولتين السعي لتحقيق هدف إزالة الكربون بحيث ينفق كل منهما بشكل مستقل تريليونات الدولارات اللازمة لتحويل الطاقة. ومع ذلك، يبقى من المستحيل تخيل مثل هذه النتيجة في عالم من المنافسة العسكرية والاقتصادية المتصاعدة. ففي مارس الماضي، على سبيل المثال، أعلنت الصين زيادة الإنفاق العسكري بنسبة 6.8 في المئة لسنة 2021، مما رفع ميزانية الجيش الرسمية إلى 209 مليارات دولار. ويعتقد العديد من المحللين أن الرقم الفعلي أعلى من ذلك بكثير. وبالمثل، مرر مجلس النواب الأميركي في الثالث والعشرين من سبتمبر الماضي إنفاقا دفاعيا قدره 740 مليار دولار للسنة المالية 2022، أي أكثر بـ24 مليار دولار من المبلغ الذي طلبته إدارة بايدن. ويستثمر البلدان أيضا مبالغ هائلة في السباق للسيطرة على تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي والروبوتات والإلكترونيات الدقيقة التي يُفترض أنها ضرورية للنجاح في المستقبل سواء في الحروب التجارية أو الحروب الفعلية. ولا يخطط أيّ منهما لاستثمار مشابه في الجهود المبذولة لإبطاء وتيرة الاحتباس الحراري وبالتالي إنقاذ الكوكب.
ولن يكون من الممكن تصور العمل على نطاق كافٍ لتجنب الحرق المستقبلي لهذا الكوكب وانهيار الحضارة الإنسانية إلاّ عندما تفصل الصين والولايات المتحدة خطر تغير المناخ عن التنافس الجيوسياسي بينهما.
الاحتقان السياسي
الصين كانت أكبر مستخدم للفحم في العالم
لا ينبغي أن يكون هذا مستحيلا. ففي السابع والعشرين من يناير أصدر الرئيس بايدن في أمر تنفيذي بشأن معالجة أزمة المناخ مرسوما يقضي بأن “الاعتبارات المناخية يجب أن تكون عنصرا أساسيا في السياسة الخارجية وأمن الولايات المتحدة القومي”. وأصدر وزير الدفاع لويد أوستن في نفس اليوم بيانا مصاحبا قال فيه إن “وزارته ستتخذ على الفور الإجراءات السياسية المناسبة لإعطاء الأولوية لاعتبارات تغير المناخ في أنشطتها وتقييمات المخاطر”.
لكن، طغى على مثل هذه التعليقات تركيز إدارة بايدن على الهيمنة على الصين على الصعيد العالمي، كما هو الحال مع أيّ تصريحات مماثلة من جانب القيادة الصينية. ومع ذلك، لا يزال الفهم قائما، إذ يشكل تغير المناخ تهديدا وجوديا ساحقا لكل من “الأمن” الأميركي والصيني، وهو واقع سيزداد ضراوة مع استمرار تدفق غازات الدفيئة في غلافنا الجوي. وللدفاع عن نفسيهما ضد الطبيعة، سيضطر كلا الجانبين إلى تخصيص المزيد من الأموال والموارد للحماية من الفيضانات والإغاثة من الكوارث ومكافحة الحرائق وبناء الجدار البحري واستبدال البنية التحتية وإعادة توطين السكان، وغير ذلك من المشاريع المتعلقة بالمناخ. وستتجاوز هذه التكاليف في مرحلة ما المبالغ اللازمة لخوض حرب.
وبمجرد أن يبرز هذا، ربما سيبدأ المسؤولون الأميركيون والصينيون في تشكيل تحالف يهدف إلى الدفاع عن البلدين والعالم ضد ويلات تغير المناخ القادمة. وإذا عاد جون كيري إلى الصين وأخبر قادتها “نحن نلغي تدريجيا جميع مصانع الفحم لدينا، ونعمل على القضاء على اعتمادنا على النفط، ونحن مستعدون للتفاوض بشأن تخفيض متبادل في القوات البحرية والصاروخية في المحيط الهادئ”، عندها سيمكنه أن يضيف إلى نظرائه الصينيين “أنتم في حاجة إلى التخلص التدريجي من استخدامكم للفحم الآن وإليكم الطريقة التي نعتقد أنه يمكنكم القيام بها”.
وسيمكن للرئيسين بايدن وشي اللجوء إلى رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بمجرد التوصل إلى مثل هذا الاتفاق والقول “يجب أن تتّبع خطانا وتزيل اعتمادك على الوقود الأحفوري”. وبعد ذلك، يمكن للثلاثة معا أن يقولوا لقادة كل الدول الأخرى “افعلوا كما نفعل، وسنقدم لكم الدعم. قاومونا، وسوف تنقطعون عن الاقتصاد العالمي وتهلكون”.
فهذه هي الطريقة لإنقاذ هذا الكوكب من قيامة مناخية. وليس هناك أيّ طريق آخر.
العرب