المفكر السياسي أحمد يوسف أحمد لـ”العرب”: القومية هي المخرج الآمن لمشكلات الأنظمة العربية

المفكر السياسي أحمد يوسف أحمد لـ”العرب”: القومية هي المخرج الآمن لمشكلات الأنظمة العربية

تموج المنطقة العربية بعدة أحداث وتفاعلات، حيث سقطت أنظمة مختلفة وظهرت أنظمة أخرى بدلا عنها بما جعلها منطقة ساخنة ومشتّتة. وتشكو الكثير من الدول على غرار لبنان وسوريا من أزمات اقتصادية وسياسية فيما فقد العراق ريادته العربية جرّاء حروب السنوات الماضية، بينما تقاوم دول أخرى لاستعادة توازنها وحضورها العربي والإقليمي. وبناء على كل ذلك يؤكد المفكر السياسي المصري أحمد يوسف أحمد في حوار مع «العرب» أن القومية العربية هي المخرج الآمن لكل المشكلات العالقة في المنطقة.

القاهرة – أسفرت احتجاجات وثورات الربيع العربي التي مازالت تلقي بتداعياتها على المنطقة العربية عن واقع سياسي وأمني وجغرافي جديد، وجرّاء ذلك انخرطت الكثير من الدول في حل أزماتها وتوتراتها وصراعاتها على أسس قُطرية، وتركت رابطة العروبة بعد أن كانت هوية وفكرة، وجرت تحولات أدت إلى خسوفها مقابل تصاعد الأطماع وزيادة التدخلات من جانب قوى إقليمية ودولية.

التقت “العرب” أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسيّة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، والمدير الأسبق لمعهد البحوث والدراسات العربية التابع للجامعة العربية، والمتوج أخيرا بجائزة الدولة التقديرية المصرية في العلوم الاجتماعية، والذي يوصف في الكثير من الأدبيات السياسية بأنه أحد كبار المدافعين عن العروبة، ولا يزال يؤمن بفكرتها وعدم وفاتها، وله رؤى عملية في ما يجري على الساحة العربية من تطورات وتكالب من قبل إيران وتركيا للتأثير على الرابطة القومية.

أكد أحمد أن القومية العربية لم تمت ولم تدفن فما زالت لها أنصارها، بينما كانت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي هي التيار السائد والمحرك للتفاعلات العربية وحركات التحرر الوطني والمحاولات الوحدوية، فإنها الآن هي تيار ضمن تيارات أخرى.

تخوّف من إجراء الانتخابات الليبية وسط وجود القوات الأجنبية والمرتزقة، لأنها إما أن تتدخل لإفسادها أو لا تلتزم بنتائجها

وأوضح أنه يخالجه الأمل في عودة الاعتبار إلى العروبة على أسس موضوعية مصلحية، وأن التيار القومي الذي لم يعد له السبق كما كان في الماضي يغمره طموح شخصي في أنه بالنظرة الواعية لأبعاد الرابطة العربية يمكن أن تمثل مخرجا آمنا من المشكلات التي يتعرض لها النظام العربي في الوقت الراهن، وسوف يعاد إحياء رابطة العروبة.

وقال “يتصور البعض أن العروبة شعارات عاطفية زاعقة بينما هي في الحقيقة صالحة وتعني تكاملاً اقتصادياً وأمنياً وليس فيها معنى سلبيا لأي دولة عربية على حدة”.

شكلت فترة إدارة يوسف أحمد لمعهد البحوث العربية محطة مهمة في تاريخه، حيث تمكن من التوسع في التخصصات وأصبح المعهد أشبه بجامعة عربية مصغرة للدراسات العليا، وشكل إطارا للتفاعلات العربية، فكان هناك طلاب من المغرب والمشرق العربيين، ومع بداية الحرب الأهلية في الصومال استضاف العديد من الطلبة ولعب دورا في تكوين كوادر، فكان الطالب العربي يتخرج في المعهد ويعود ليتقلد مناصب رفيعة في بلده.

وطاف يوسف أحمد في الأزمات العربية وتوصيفاتها والتشابكات التي تعتريها، والتي لن تحول دون أن تصبح الرابطة القومية من أهم الروافع السياسية للخروج منها، عكس ما يتصور البعض من أن دورها انتهى، وقد تظهر ملامحها في بعض التحركات القليلة المعبرة عن الجوهر.

وقد أشار في حواره مع “العرب” إلى أن لبنان عندما تعرض لأزمة طاقة طُرحت فكرة تزويده بالغاز المصري عبر الأردن وسوريا، وهو عمل عروبي بامتياز، وعندما نتحدث عن أزمة الغذاء في العالم العربي نردد أنه علينا أن نتكاتف ونزرع الأراضي القابلة للزراعة في السودان ليكون سلة غذاء للوطن العربي كله بجانب التكامل الصناعي وغيره من سبل التعاون.

ولفت إلى أن الوضع في لبنان واضح في زاوية تأثير العوامل الداخلية على الأوضاع الراهنة، فتلك العوامل تستدعي تدخلات خارجية سافرة، وهو بلد ليس استثناءً من حيث وجود عرقيات ومذاهب مختلفة، لكنه متميز في هذا الشأن، إذ يحتوي على نحو 20 طائفة، والدستور قائم على المحاصصة وتوزيع المناصب السياسية الرئيسية بين هذه الطوائف، ولم يتخل عن رابطة العروبة في توجهاته العامة.

ذكر يوسف أحمد أن سوريا دولة رئيسية عبر التاريخ وفي الواقع العربي المعاصر، وثمة مقدمة لا بد منها لإظهار أهميتها في النظام العربي ولمصر بشكل خاص، فقد جاءت هزيمة الصليبيين عبر شراكة مصرية – سورية، وخلال العدوان الثلاثي على مصر قام ضباط المخابرات السورية بتدمير خط الأنابيب الذي ينقل البترول العراقي إلى أوروبا، ما أسفر عن أزمة طاقة هائلة ساعدت في الضغط على المعتدين.

وعندما تعرضت سوريا إلى تحرشات عسكرية تركية في العام 1957 أرسل الرئيس جمال عبدالناصر قوات مصرية لردعها، ولا ننسى الوحدة المصرية السورية أو الشراكة غير المسبوقة في حرب أكتوبر 1973، فلأول مرة في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي تدخل دولتان عربيتان إلى الحرب بخطة عسكرية وساعة صفر واحدة.

تعرضت سوريا لأزمة طاحنة لها عوامل عدة منها الداخلية بفعل أن النظام السوري ينتمي إلى الأنظمة الدكتاتورية، وله خصوم من العرب وغيرهم يحاولون استغلال كونه نظاما غير ديمقراطي لتبرير سعيهم لإسقاطه، والحقيقة أن الديمقراطية أو غيابها، في رأي يوسف أحمد، “ليست السبب لتفسير ما يحدث في سوريا لأن عدداً من الدول التي حاولت إسقاط نظامها لا تتمتع بأدنى درجات الديمقراطية، فتلك حجة ورغبة لتوفير مبررات للتخلص منه لا أكثر”.

وأضاف مهما انتقدنا ممارسات النظام السوري الداخلية يظل يتبنى مواقف عروبية قومية لا تعجب البعض، وفي أزمته مكونات إقليمية ودولية لكونه يتبع سياسة ثابتة ضد إسرائيل، لذا من الطبيعي أن تتكتل بعض القوى الغربية ضده، وقد حدثت الانتفاضة الشعبية ضده في سياق الانتفاضات العربية العديدة وتمت عسكرتها بفعل عوامل خارجية مختلفة.

وأوضح أن نقطة انكسار الانتفاضة الشعبية السورية عند تحولها إلى عملية معارضة مسلحة ما سمح بدخول الكثير من التنظيمات الإرهابية بتشجيع من قوى إقليمية في ساحة الصراع، وأنتج هذا كله الوضع القائم حتى الآن، ومع أن النظام يسيطر على معظم الأراضي السورية إلا أنه مازالت هناك جيوب للمتطرفين في إدلب وهناك مشكلة المنطقة الكردية، حيث يطالب الأكراد بالحكم الذاتي بدعم أميركي.

في سياق هذه التطورات وبسبب مراكز نفوذ عربية معينة جرى استبعاد سوريا من الجامعة العربية، وهو ما يراه يوسف أحمد خطأ فادحاً لأنه فاقم من تعرض النظام لضغوط خارجية قاسية، قائلا “آن أوان التفكير الجاد في عودة دمشق إلى النظام العربي، فهذا من شأنه أن يساعد على لعب دور مهم في تسوية الصراع داخل سوريا، بجانب أن النظام العربي يحتاج عودتها في تفاعلاته العادية ومواجهة التحديات الخارجية”.

وعن حاله في الوقت الراهن، قال “ظل العراق حائط الصد ضد النفوذ الإيراني طوال فترة حكم صدام حسين، وتبنت طهران بعد ثورتها الإسلامية عام 1979، تصدير الثورة تحت شعار نصرة المستضعفين، وبما أن إيران دولة غالبية مكوناتها من الشيعة كانت أداتها الأولى هي الاعتماد على هذه الطائفة في الدول المجاورة، مثل العراق والبحرين والكويت، وترتبت على ذلك استفزازات لدول عربية كثيرة”.

شدد أستاذ العلوم السياسية المصري على أنه ليس كل شيعة العراق من الموالين لإيران وبينهم عروبيون أصلاء، مقابل قطاعات من الشيعة تشعر بالولاء لإيران ما أوجد لها نفوذا واسعا في العراق.

وتابع “الفترة الأخيرة نلاحظ أن ثمة محاولة لتقليص هذا النفوذ وبناء عراق مستقل عن النفوذين الأميركي والإيراني، ونتمنى نجاح هذه المحاولات، فثمة مساع جادة لاستعادة الوجه العربي للعراق، منها التنسيق بين مصر والأردن وبغداد، والحوار المكثف بشأن إعادة العلاقات إلى طبيعتها مع دول الخليج”.

رأى يوسف أحمد أن ما يجري في اليمن هو أسوأ حالات الصراعات العربية – العربية، فالصورة شديدة التعقيد، حيث أطاح انقلاب الحوثيين بالحكومة الشرعية، وهو انقلاب متماسك ويسيطر على مناطق كبيرة في شمال البلاد، ويحاول استكمال سيطرته.

وأضاف أن المشكلة تكمن في أن القوى الدولية تتعامل مع الحوثيين من منظور أنهم طرف من أطراف الصراع وليس طرفا منقلبا على الشرعية، ويتم التفاوض معه.

ويتخوف يوسف أحمد من إجراء الانتخابات في ليبيا وسط وجود القوات الأجنبية والمرتزقة، لأنها إما أن تتدخل لإفساد الانتخابات أو لا تلتزم بها إذا جاءت نتائجها في غير صالحها، فالصراع في ليبيا وإن بدا أنه حقق خطوات على طريق التسوية لكن تواجهه صعوبات وأزمات عديدة.

وبشأن تدخل تركيا في المنطقة وما تنطوي عليه من سلبيات بخصوص فكرة القومية، وهي تدخلات شبيهة بالتدخلات الإيرانية، أبدى تعجبه من أن تدخلات طهران تحظى باهتمام كبير إذا قورنت بما تقوم به أنقرة التي لا تقل خطورة وربما تزيد.

ولفت إلى أن إيران لها حزب الله في لبنان، والحوثيون في اليمن، والحشد الشعبي في العراق، وتركيا لها وكلاء مثل الإخوان المسلمين والتنظيمات الإرهابية في كل من ليبيا وسوريا والسودان وتونس، إلا أنها لا تميل إلى التدخل كدولة، لكنها موجود بقواتها في ليبيا وتحتل أجزاء من سوريا وتسمح لنفسها بالقيام بعمليات عسكرية في العراق، لذلك تمثل تهديدا لا يقل عن الخطر الإيراني.

غابت التكتلات العربية القوية حتى أصبحت مجرد تجمعات ثنائية أو ثلاثية وليس هناك ما هو أدل على ذلك سوى أنه للعام الثاني على التوالي هناك فشل في عقد القمة العربية الدورية المقررة في الجزائر، إذ كان من المفترض عقدها في مارس العام الماضي، وجاء مارس هذا العام ولم تنعقد، ولم يعد فايروس كورونا سببا كافيا للتأجيل، فالكثير من القمم الدولية عقدت في ظله، بشكل مباشر، أو غير مباشر من خلال العالم الافتراضي.

ويرى يوسف أحمد أن عدم انعقاد هذه القمة لمدة عامين إحدى علامات تدهور الأوضاع العربية، وهذا لا يتعلق بجامعة الدول العربية فهناك تكتلات أخرى تعرضت لأزمات مثل مجلس التعاون الخليجي.

وذكر في حواره مع “العرب” أن النظام العربي يتسم بهشاشة التحالفات بين أعضائه، ومن المثير أن هذا يحدث في وقت تحاول بعض الدول العربية التقارب مع محيطها الإقليمي، فثمة حوارات سعودية مع إيران، وأخرى مصرية مع تركيا، وهذا تطور إيجابي، لكن المشكلة أننا نسعى لتحسين علاقاتنا بالأطراف الإقليمية بينما علاقاتنا البينية مرتبكة وغير مستقرة.

وإزاء هذه الانقسامات والأزمات العربية سألنا يوسف أحمد عن دور الجامعة العربية الذي توارى في توحيد المواقف والعمل المشترك، فقال “السبب يعود إلى طبيعة نظامها وميثاقها فقد قامت منذ عام 1945 على مبدأ السيادة القطرية والبند الخاص بالتصويت في ميثاق الجامعة (تم تطويره في ما بعد لكنه لم يحدث أي أثر إيجابي) كان ينص على أن القرارات تصدر بالأغلبية وهذا شيء إيجابي لكنه لا يُلزم إلا من وافق عليه”.

ثمة مساعي جادة لاستعادة الوجه العربي للعراق وحوار مكثف بشأن إعادة العلاقات إلى طبيعتها مع دول الخليج

ويعني ذلك أنه لو صدر قرار بأغلبية 21 دولة ضد دولة تستطيع الدولة الـ22 عدم الالتزام بالقرار، ما أضعف حالات النظم الإقليمية، وانعكس هذا الوضع على كل تفاعلات الجامعة، فالدول العربية تضع عادة سيادتها القطرية فوق أي شيء، والمثال الفذ في ذلك هو مشروع إنشاء محكمة عدل عربية، المطروح منذ أواخر الأربعينات من القرن الماضي وظل عبر أكثر من نصف قرن يتأرجح بين اللجان والاجتماعات ولم ينته إلى شيء.

وأشار إلى أن هناك الكثير من المحللين يصبون لومهم على الأمانة العامة للجامعة العربية، بينما ليست سوى أمانة تنفيذية لما تريده الدول فإذا اتفقت على شيء هي خير من ينفذه، أما إذا فشلت فماذا تفعل، لذلك المشكلة في تغليب مبدأ السيادة المطلقة بالنسبة إلى تصرفات الدول.

وعن الفرق بين دور الجامعة في الخمسينات والستينات وحاليا، قال “وقتها كان النظام العربي ذا قيادة أحادية، والآن توجد مراكز قوى متعددة، مع ذلك أعتقد أن مصر مازالت الدولة الأقدر على لعب دور المايسترو في النظام العربي لكونها لا تمتلك أجندة خاصة بها، وليست طامعة في أراضي أو ثروات غيرها، ولا تريد السيطرة على أي طرف، وغير منحازة إلى جماعة دون أخرى، وكلما قاربت عملية إعادة البناء في مصر على الاكتمال ستمارس دورها القيادي بشكل أكثر فعالية”.

وأوضح لـ”العرب” أن بعض الأحداث العربية تؤكد صدق هذه الرؤية، ففي ليبيا، أوقفت مصر التطورات في الصراع عند حد معين وأجبرت تركيا على أن تخطب ودها بغض النظر عن أنها لا تريد التنازل عن سياساتها لكنها ابتعدت في خطابها عن العداء، وتريد القاهرة تعميق علاقتها بدول عربية عدة، بينها سوريا والعراق، وهي تلعب دورا كبيرا في هذا الاتجاه انطلاقا من الرابطة القومية.

العرب