أبلغت العديد من كبرى الشركات العامة في الولايات المتحدة عن ارتفاع أرباحها مقارنة بفترة ما قبل الوباء، وهو ما يطرح تساؤلات كثيرة حول حقيقة هذا التضخم وما يعنيه بالنسبة للشركات الأميركية.
في تقرير نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” (Wall Street Journal) الأميركية، يقول الكاتبان كريستين بروتون وثيو فرانسيس إن الشركات أضحت تدفع أجورا أعلى لموظفيها وتنفق أكثر على المواد وتستوعب تكاليف الشحن المسجلة، مما يرفع مقاييس التضخم الاقتصادي، كما أبلغت الكثير من الشركات عن تحقيق أرباح قياسية.
ويذكر الكاتبان أنه بعد عقود من انخفاض التكاليف والأسعار ينتهز المسؤولون التنفيذيون الفرصة -التي تأتي مرة واحدة في كل جيل- لرفع الأسعار لتتناسب مع نفقاتهم المرتفعة وفي بعض الحالات تفوقها، وقد شهدت الصناعات في قطاعات البيع بالتجزئة والتصنيع والتكنولوجيا الحيوية ارتفاعا في الأرباح. في المقابل، لا تزال بعض الصناعات الأخرى متعثرة، خاصة في القطاعات التي لا تزال تتخطى تداعيات الإغلاق أو المثقلة بالتكاليف التضخمية.
تشير البيانات الصادرة عن منصة “فاكت سِت” (FactSet) إلى أن كل شركتين تقريبا من أصل 3 شركات كبرى عامة في الولايات المتحدة أبلغت عن ارتفاع أرباحها هذا العام مقارنة بالفترة نفسها في عام 2019 -أي قبل تفشي كوفيد-19- كما أن حوالي 100 شركة من الشركات العملاقة حققت هوامش أرباح عام 2021 أعلى بنسبة 50% -على الأقل- من الأرقام المسجلة عام 2019.
يقول غلين ريكتر، المدير المالي لشركة “النكهات والعطور الدولية”، إن “هذه البيئة غير مسبوقة؛ لم نشهد مثل هذا التضخم منذ 30 عاما على الأرجح”، وأضاف ريكتر أن انتشار التضخم يسهّل مناقشة رفع الأسعار مع العملاء.
ارتفاع الأرباح
وفي الواقع، غالبا ما ترتفع هوامش الأرباح مع التضخم، والمخاطر المطروحة في هذه الحالة على الشركات هي ترفيع الأسعار بنسق أسرع من منافسيها أو بشكل يفوق طاقة تحمل العملاء، مما يؤدي إلى خسارة المبيعات وحصتها في السوق التي قد تستغرق سنوات لاستردادها، أما الخطر الذي يترصد الاقتصاد فلا يكمن في استمرار ارتفاع الأسعار فحسب، وإنما أيضا في إقناع العملاء بأن المزيد من الزيادات أمر لا مفر منه، مما سيؤدي إلى تحفيز الطلب التضخمي في دائرة مفرغة.
بلغ معدل التضخم الشهر الماضي أعلى مستوى له منذ 31 عاما، فقد ارتفعت نفقات الأميركيين على مجموعة من المنتجات والخدمات الضرورية، بما في ذلك الطعام والغاز والإيجار والأثاث، كما ارتفع مؤشر أسعار المستهلك في شهر أكتوبر/تشرين الأول بنسبة 6.2% مقارنة بالعام الماضي. ومن جهتها، أكدت إدارة بايدن أن التضخم مؤقت، وربطت التكاليف المتزايدة بتداعيات الوباء على توقف سلسلة التوريد ونقص العمالة.
وردًا على سؤال متداول حول ما إذا كانت الأسعار ستنخفض بحلول الخريف المقبل، قالت وزيرة الخزانة جانيت يلين -الأحد الماضي في برنامج “مواجهة الأمة” (Face the Nation) على شبكة “سي بي إس” (CBS) الأميركية- إن “هذا الأمر يعتمد حقا على الوباء، إنه المؤثر الرئيسي على الاقتصاد والتضخم”، مضيفة أنه في حال عاد مستوى اليد العاملة والطلب إلى وضعهما الطبيعي، فقد “تعود الأسعار إلى طبيعتها” في وقت ما من العام المقبل.
مع ذلك، يعتقد بعض الخبراء الاقتصاديين أن التضخم قد يستمر في الأعوام القليلة المقبلة، والتضخم الراسخ يعني أن مسؤولي الاحتياطي الفدرالي ربما سيضطرون إلى رفع أسعار الفائدة في وقت أقرب أو بنسبة أكبر مما كانوا يتوقعون، مما قد يضعف النمو.
وحسب غريغوري داكو، كبير خبراء الاقتصاد لدى شركة “أكسفورد إيكونوميكس” (Oxford Economics) الاستشارية، فإنه “كلما كان الاقتصاد قويا، حاولت الشركات الاستحواذ على حصة أكبر من السوق، وإذا كان للشركات ثقل مركزي في السوق وطلب قوي، سيكون لديها القدرة على رفع الأسعار”.
يقول خبراء الاقتصاد والمسؤولون التنفيذيون إن الأسعار المرتفعة ليست العامل الوحيد الذي يؤدي إلى زيادة الأرباح، فالطلب الكبير على العديد من أنواع السلع -بما في ذلك أجهزة الحاسوب والسيارات والسلع الكمالية- كان محركا رئيسيا للنمو الاقتصادي وارتفاع أرباح الشركات، ومع زيادة حجم التكاليف الثابتة وانتشارها مثل الإيجار والمعدات، تحقق معظم الشركات أرباحًا أكبر مع كل عملية بيع.
قوة الطلب
ويرى باراغ ثات، الخبير الاستراتيجي في “دويتشه بنك”، أن نقطة البداية تكمن في قوة الطلب، وعلى الرغم من أن بعض أجزاء الاقتصاد لا تزال مُتخلفة عن هذا الركب -بما في ذلك الترفيه والنقل والمطاعم والفنادق- فإن 3 أرباع الشركات المصنفة حسب مؤشر “إس آند بي 500” (S&P 500) تنتمي إلى الصناعات التي يفوق فيها معدل الإنتاج بكثير المعدل المسجل في فترة تفشي الوباء، وذلك بفضل تزايد الطلب، وقد مكن هذا الأمر الشركات من رفع الأسعار.
وتوضح شركة “آميتيك” (Ametek)، المصنعة للأدوات الصناعية الخاصة بالشركات الفضائية الجوية والطبية وغيرها من الشركات، أن الزيادة في الأسعار تمكنها من تعويض النفقات الناجمة عن اضطراب سلسلة الإمداد ونقص العمالة هذا العام، ولقد ارتفع هامش الربح التشغيلي لشركة آميتيك إلى 23.4% حتى الآن هذا العام، مقارنة بنسبة 22.8% المسجلة في الأشهر التسعة الأولى من عام 2019، وقالت الشركة إن نمو هامش الربح كان ليكون أعلى لولا عمليات الاستحواذ الأخيرة.
في الحقيقة، لم تكن جميع الشركات قادرة على رفع الأسعار بالسرعة الكافية لمواكبة الضغوط التضخمية، فقد تراجع هامش ربح شركة “كارير” إلى 8.7% هذا العام مقارنة بنسبة 11.9% المسجلة عام 2019 على الرغم من رفعها الأسعار 3 مرات، وتفسر شركة كارير تراجع هامش الربح بسبب انفصالها العام الماضي عن شركة “يونايتد تكنولوجيز” (United Technologies)، وتتوقع الشركة أن تدرس زيادات إضافية في الأسعار قبل نهاية العام.
وينبه داكو -من “أكسفورد إيكونوميكس” الاستشارية- إلى وجود بعض الدلائل على أن الطلب آخذ في التباطؤ، وقد تتباطأ معه رغبة المستهلكين والشركات في استيعاب ارتفاع الأسعار، ويرى أنه بمجرد تخفيف معوقات العرض وتحولات الإنفاق الاستهلاكي، ستضعف قدرة الشركات على رفع الأسعار أكثر.
المصدر : وول ستريت جورنال