حضور الولايات المتحدة في «سوراقيا» (سوريا والعراق ولبنان والأردن وفلسطين) سابق لحضور روسيا، بما يربو على نصف قرن. ترسّخ هذا الحضور بعد انهيار الاتحاد السوفييتي واحتلال أمريكا للعراق واندلاع الحرب في سوريا وعليها.
بات واضحاً اليوم أن واشنطن خططت لمجابهة صعود إيران كقوة إقليمية مركزية بمحاصرتها، وفرض عقوبات اقتصادية عليها للحؤول دون تحوّلها إلى قوةً نووية، كما باعتماد تيار الاخوان المسلمين بمختلف تنظيماته حليفاً بديلاً من أنظمة الحكم المترهلة والمتساقطة قبل مخاض «الربيع العربي» وبعده.
فشلُ الإخوان المسلمين في الاحتفاظ بالسلطة في كلٍ من مصر وتونس، حمل الولايات المتحدة على تعديل مخططها بعقد تحالفاتٍ مع تنظيمات متعددة داخل «الإسلام الجهادي»، لإضعاف خصومها المحليين في سوريا والعراق وبين الفلسطينيين، ودفْع أطراف الصراع إلى مفاوضات على اساس مبادئ مؤتمر (جنيف-1) بغية التفاهم على ترتيبات لتقاسم السلطة في ما بينهم.
أخفقت أمريكا وحلفاؤها الإقليميون في حمل الحكم في سوريا ومعارضيه على تقاسم السلطة وفق شروطهم في مؤتمر (جنيف -2) ما أضعف المعارضــين، سياسياً وميدانياً، وأدى إلى صعود تنظيميّ «الدولة الإسلامية ـ داعش» و«جبهة النصرة» وسيطرتهما على مواقعهم في مناطق عدّة. وفي العراق أخفق حلفاء أمريكا في محافظات نينوى (الموصل) وصلاح الدين والأنبار في بناء تنظيمات مسلحة لمواجهة «داعش»، باستقلال عن حكومة بغداد والتنظيمات المسلحة المتحالفة معها.
إزاء هذه الإخفاقات المتتالية، قررت الولايات المتحدة، بالتفاهم مع حلفائها الإقليميين، تعديل مخططها مرة أخرى بإنشاء «تحالف دولي لمواجهة الإرهاب» من أجل الحدّ من توسّع «داعش»، بعد إعلان دولته في الموصل من جهة، ومن جــــهة أخرى لاستغلال صراعات التنظيمات «الجهادية» في ما بينــها على نحوٍ يؤدي لتفكيك سوريا والعراق إلى كيانات على أسس مذهبية وإثنية تنتظـــــمها حكومةٌ كونفدرالية ضعــــيفة في كلٍّ من دمشق وبغداد.
أقلق هذا المخطط الهجومي إيران وروسيا. ذلك أن كلتيهما تنطويان على تعددية إثنية ودينية ومذهبية، ما جعلهما تتخوفان من انتقال عدوى التفكيك الإثني والمذهبي إليهما. فوق ذلك، تخوّفت روسيا من تداعيات انتقال آلاف الشيشان والداغستانيين وغيرهم من مواطنيها المسلمين عبر تركيا للقتال في صفوف التنظيمات «الجهادية» في سوريا والعراق، واحتمال عودتهم لاحقاً لتفجير اضطرابات أمنية في البلد الأم. هذا مع العلم أن احتمال سيطرة التنظيمات «الجهادية « على سوريا يعني خسارة روسيا قاعدتها البحرية في طرطوس، وهي الأخيرة الباقية لها في حوض البحر المتوسط. في ضوء هذه الواقعات والتطورات يمكن الإستنتاج أن حضور روسيا (وقبلها ايران) في سوريا هو لدعم الدولة والحؤول دون سقوطها في ايدي الإسلامويين «الجهاديين» ولتفادي اتخاذها منصةً لشن هجمات ضارية على روسيا وايران معاً.
ما انعكاسات الحضور الروسي المكثّف في سوريا على سائر مناطق سوراقيا، ولاسيما العراق وفلسطين ولبنان؟ الواقع أن قوى المقاومة العربية، القومية واليسارية والديمقراطية، فسرت قيام التحالف الضمني بين الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين من جهة والتنظيمات الإسلاموية «الجهادية» من جهة اخرى بأنه يستهدفها بالدرجة الاولى، لذا سارع فصيلها الرئيس في لبنان «حزب الله» إلى نجدة الجيش السوري في معركة القُصير (محافظــــة حمص) ومن ثم في معارك القلمون والزبداني فــــي ريف دمشق الغربي، كما في سهل الغاب (محافظة حماه) وريف حلب الجنوبي.
وفي العراق، حرّكت فصائل منضوية في «الحشد الشعبي» بعضاً من وحداتها المقاتلة لدعم الجيش السوري في مناطق اشتباكه مع «الجهاديين» في البلاد.
لعل الظاهرة الأبرز، في هذا السياق، اندلاع «الانتفاضة الثالثة» في فلسطين المحتلة بأجزائها الثلاثة: الضفة الغربية (ولاسيما القدس)، وقطاع غزة، والمناطق المحتلة عام 1948. صحيح أن ثمة اسباباً وظروفاً ودوافع خاصة بالساحة الفلسطينية حملت الشعب الفلسطيني بشيبه وشبانه وشاباته على تفجير انتفاضة عاصفة في وجه «اسرائيل»، حكومةً وجيشاً وشرطة ومستوطنين، غير أن الهتافات والشعارات والصور المرفوعة خلال فعاليات الانتفاضة عكست أيضاً بشكلٍ لافت الترابط بين الاعداء المشترَكين لقوى المقاومة في فلسطين وسوريا، وأتاحت لها تبادل شعارات التضامن في ما بينها ضد أمريكا و»اسرائيل».
من مجمل هذه التطورات يمكن الاستنتاج أن حضور روسيا المكثّف في سوريا واحتمال تمدده إلى العراق يمكن أن ينتج، على مستوى سوراقيا، المفاعيل الآتية:
أولاً، تعزيز الجيش السوري لوجستياً ودعمه عملانياً على نحوٍ يمكّنه من توسيع نطاق عملياته، وبالتالي سيطرته على مناطق يتحكّم بها «الجهاديون» في وسط سوريا وغربها وشمالها وجنوبها، الامر الذي يعزز المركز التفاوضي لحكومة الرئيس بشار الأسد في حال توصل أمريكا وروسيا مستقبلاً إلى توافق على إنهاء الصراع سياسياً فـي الإقليم، وليس في سوريا فقـط، بـ(مؤتمـر جنيف -3).
ثانياً، اقتناع واشنطن بأن حضور روسيا المكثّف في سوريا من شأنه ليس دعم حكم الأسد وإضعاف اعدائه المحليين فحسب، بل تعزيز نفوذ ايران ايضاً في كلٍ من سوريا والعراق ولبنان، وبالتالي إضعاف نفوذ أمريكا وحلفائها في الاقليم وتهديد مصالحها، كما أمن «اسرائيل». ذلك كله يدفع الولايات المتحدة وحلفاءها الاقليميين إلى تزويد التنظيمات الاسلاموية المقاتلة وفصائل «المعارضة المعتدلة» أسلحةً نوعية، ولاسيما الصواريخ المضادة للدروع وللطائرات المروحية، بغية الحدّ من قدرات الجيش السوري وتفادي إعادة سيطرته على كامل مناطق ما زالت في قبضة اعدائه. ذلك يؤدي، في ظنّ أمريكا وحلفائها، إلى تعزيز مركز تنظيمات المعارضة السورية في اي مفاوضات قد تجري لاحقاً لإنتاج تسوية سياسية للصراع.
ثالثاً، يتأتّى عن الحضور الروسي المكثف في سوريا (ولاحقاً في العراق) وردود فعل الولايات المتحدة وحلفائها عليه نشوء مرحلة انتقالية عسكرية بامتياز، تشمل بانعكاساتها لبنان وفلسطين واليمن، وتتركز خلالها جهود الامريكيين وحلفائهم على الحؤول دون انتعاش قوى المقاومة العربية واستقوائها وترجمة ذلك إلى وقائع سياسية مؤاتية لها داخل اقطارها.
باختصار، سيبقى الصراع محتدمـاً عسكرياً في سوريا والعراق، وشعبياً في فلسطين، وسياسياً في لبنان. لا مواقيت محددة لمفاوضات ولا لحلول سياسية قبل حصول أحد حدثين: انتصار كاسح للجيش السوري على اعدائه في ميادين القتال، او انتخاب رئيس أمريكي يخلف اوباما ويسلّم باستحالة احتفاظ بلاده بنفوذ طاغٍ ودورٍ مهيمن في جميع ارجاء سوراقيا.
د.عصام نعمان
صحيفة القدس العربي