عندما وقف الجنرال باتّون Patton قائد الجيش الثالث الأمريكي في الحرب العالمية الثانية في منطقة النورماندي الفرنسية La Normandie قال قولته الشهيرة التي ما زالت تغيض الفرنسيين إلى الآن : ” لا فايات ، ها نحن من جديد ” . ” La Fayette , nous revoilà”
لم تكن تلك المقولة مجرّد مزحة لقائد تعجّل فرح الانتصار ، و إنما كانت تعبيرا عن ثأر تاريخي للبيض الأنجلوسكسون البروتستانت، ورثة رعاة الفيكنغ الهمّج، من فرنسا الكاثوليكية التي دعّمت – عن طريق لافايات La Fayette – حركة الاستقلال الأمريكي عن موطنهم الأم أنقلترا .
الجنرال باتّون – الّذي يعتبره الألمان محاربا رومنطيقيا مفردا في القرن العشرين- (égaré) عندما وقف قبل ذلك في المقبرة الرّومانية في القصرين قال قولته الشهيرة:”أنا كنت هنا قبل ألفي عام”، و لم يكن أيضا يمزح.
فمن القصرين سلك نفس طريق حنّبعل محطّة بعد أخرى، بكل دقة العارف بالتاريخ و الجغرافيا، إلى جنوب إسبانيا و انعطف عبر جبال البيرينه شمالا إلى منطقة النورماندي الفرنسية لمحاصرة باريس من شمالها.
في المقابل ، كان ثمّة الجنرال ديغول العظيم، ابن المؤسسة العسكرية الفرنسية التي أنجبت لافايات نفسه و التي لم يكن نابوليون فيها إلاّ فاصلة صغيرة أو درسا سلبيا للنسيان خصوصا في تنازله المجاني عن منطقة لويزيان للأمريكيين .
الجنرال ديغول، العارف بتفاصيل نوايا الأنقليز و الأمريكيين في الهيمنة على أوروبا القارّية، أصرّ على أن العاصمة باريس رمز السيادة الفرنسية لن يدخلها الجيش الثالث الأمريكي و لو تطلّب الأمر حربا أخرى جانبية مع الأمريكيين.
و فعلا ، دخل جيش التحرير الفرنسي بقيادة الجنرال “لو كلارك” باريس في حين عبر الجنرال باتون إلى ألمانيا . و بقية الحكاية معروفة لدى الجميع .
فقد رفض ديغول بقوّة دخول بلاده حلف شمال الأطلسي تحت الرّاية الأمريكية ، و رفض عضوية أنقلترا في السوق الأوروبية المشتـركة التي كانت في أحد جوانبها الرّدّ الأوروبي على مخطط مارشال الأمـــــريكي، و كان مهندس التشاور و التنسيق مع ألمانيا الغربية في كل الشؤون الأوروبية و عارض أغلب طلبات الولايات المتحدة الأمريكية في مجلس الأمن الدولي و في الجمعية العامة للأمم المتّحدة حيث دوّى صوته عــاليا و واضحا ” فرنسا ، أيها السادة ليس لها أصدقاء. فرنسا، أيّها السادة، لها فقط مصالح .” و رفض بيع السلاح لإسرائيل و قلّد ياسر عرفات وسام الجمهورية الفرنسية.
و لكن مياها كثيرة جرت في كل الأنهار منذ تلك الفترة، و لم تكن دائما مياها صافية و عذبة.
إذ لم نعد نسمع لا دويّ صوت ديغول الواضح في الدفاع عن استقلال أوروبا القارية، و لا وقع حذاء خروتشوف على منبر الأمم ألمتحدة و لا حزم بورقيبة رغم تعب السنين البادي أمام الرّئيس الأمريكي ريغان : ” بنزرت لا، بنزرت لا، بنزرت لا”. و لا جلجلة عرفات في إعلان قيام دولة فلسطين و في تحكّمه في كلّ أوراق اللعبة الدّولية و الإقليمية في الشرق الأوسط و حوض المتوسّط و حشد الدعم الدولي لقضية شعبه العادلة.
و ربّما كان جورج بومبيدو، خليفة ديغول، بعد احداث ماي 1968 بما لها و ما عليها، أوّل من تفطّن إلى هذا الانحدار حين خاطب مجلس الوزراء الفرنسي، بعد أن تأكّد بأن مرضه لا شفاء منه، بجملته الشهيرة : ” لقد ولّى زمن الناس المتميّزين وجاء زمن النّاس العاديين”. “Le temps des gents extraordinaires est révolu, maintenant c’est le temps des gents ordinaires”
و ربّما افتتح سقوط جدار برلين واندثار الإتحاد السوفياتي بعد ذلك بأقل من عشرين سنة مرحلة الرّداءة في القيادات و الناس و الأوضاع بصورة لا مثيل لها.
فقد اصبحت أوروبا الغربية مخترقة داخليّا بأكثر من خمسمائة قاعدة عسكرية أمريكية تحت غطاء حلف شمال الأطلسي، و فاقدة لأيّ صوت متميّز في المحافل الدّولية، و محاصرة من الشّمال بأنقلترا ( العبد الأكثر طاعة لأسياده في واشنطن)، ومن الشّرق بإسرائيل و تركيا و دول الكتلة الشرقية سابقا و التي تقتات كلّها من فتات العم سام و تركع تحت أقدامه راضية مرضية، ومن الغرب بالمحيط الأطلسي ومن ورائه العم سام أيضا و في مرمى صواريخه العابرة للقارّات .
و لم يبقى لها من متنفّس سوى شمال إفريقيا في جنوبها بعد أن خسرت أيضا عديد المواقع في عمق القارّة الإفريقية لفائدة العم سام تماما كما خسرت – لفائدته أيضا – قبل ذلك كلّ مواقعها في الشرق الأوســـــط. و قد تخسر هذا المتنفّس الأخير في السنوات القريبة القادمة إذا واصلت في نفس نهج الاستكانة و التبعية الحالي. وهو السيناريو الأكثر واقعية الآن.
فمن المعروف لدى الجميع أنّ تدمير أوروبا القاريّة هو من ثوابت العقيدة الاستراتيجية في السياسة الخارجية الأمريكية لا فقط للحقد التاريخي الدفين بين الكنيسة الأنقليكانية و البروتستنت الكالفينيين من جهة وبين الكنيسة الكاثوليكية لأوروبا القارّية من جهة أخرى، و إنما و أساسا باعتبار أوروبا القارّية، بتاريخها الكولونيالي و ما خلّفه من هيمنة على أسواق عديد البلدان و على ثرواتها ألطبيعية، خصما لدودا في الهيمنة الاقتصادية على العالم ، و التلويح الدائم بإذكاء جذوة الصراع الدّيني هنا هو في أحد جوانبه ذريعة عاطفية لتأطير و حشد وتخدير العامة خصوصا و أن البروتستنتية الكالفينية تقوم على مبدأ ” تجميع الثروة ومباركة الله” (Accumulation de fortune, bénédiction de dieu) .ولا عزاء في هذا المجال لمن مازال يعتبر أنّ التناقض في ما بين القوى الرأسمالية هو تناقض ثانوي. فالصراع بين القوى الرأسمالية كان دائما و سوف يظلّ صراع حياة أو موت بلا رحمة و لا ضوابط.
و إذا كان واضحا لدى الجميع أنّ مدار الصراع في العالم الآن هو القارّة الإفريقية و الشرق الأوسط بسبب مخزون الطاقة و المواد الأولــية و المعادن الثمينة المتوفّر فيهما، فإنّ الولايات المتّحدة الأمريكية هي المنتصرة إلى حدّ الآن في هذا الصراع لا فقط بالهيمنة العسكرية المباشرة في بعض البلدان و إنّما أيضا بقدرتها على التخطيط و التّكيّف مع المتغيرات المحلّية في كامل المنطقتين بما يجعلها أقدر على توجيه الضربات الموجعة لخصومها المحليين و الدوليين في الوقت المناسب.
فقد تمكّنت منذ سبعينات القرن الماضي من تحجيم نفوذ الإتحاد السوفياتي في الشرق الأوسط ودوره في النزاع العربي الاسرائيلي إلى أبعد حد ممكن. و حتّى رجوع الدّب الروسي إلى المنطقة حاليا، عبر البوّابة السّورية والمصرية، فمازال تحت السيطرة وهو موضوع مفاوضات و ترتيبات سرية من وراء ظهر شركائها الأوروبيين في الحلف الأطلسي تماما مثل موضوع أوكرانيا و مشكلة “القرم” ، خصوصا و أن الدب الرّوسي لم يعد عدوّا إيديولوجيا كما كان الشأن مع الاتحاد السوفياتي فحسب و إنّما مازال أيضا غير قادر على استرجاع أسواقه القديمة و لا على منافستها على أسواق جديدة . وهي من جهة أخرى بصدد القضاء على كلّ إمكانية للتّمدّد الروسي في أوروبا الغربية، و إفشال صفقة الميسترال الفرنسية معها أخيرا ليس أقل الأمثلة على ذلك.
كما تمكّنت في السنوات الأخيرة من وقف التقدّم الصيني في إفريقا عبر تقسيم السودان وخلق الكيان الجنوبي و طمس مشكل دارفور و إشعال الحرب الأهلية في أكثر من دولة من الصومال إلى النيجر و مالي و ليبيا علاوة على مواصلة محاصرتها للصين في آسيا نفسها عبر عديد عملائها المحلّيين هناك ككوريا الجنوبية وغيرها. و سوف تتفرّغ أكثر لهذه المهمة بمجرّد استتباب الأمر لها في الشرق الأوس و شمال إفريقيا .
ولكنّ يبقى المعطى الأساسي و الرئيسي في كل الأوضاع بدون أي استثناء هو إرادة الشعوب.
فضدّ كلّ إمعان مازوشي في جلد و احتقار الذّات من جهة، و ضدّ مواصلة نهج إلقاء العيب على الآخر و التنظير لفكرة قدرة المؤامرة الخارجية وحدها على تغيير الأوضاع و الحكام في كلّ زمان و مكان من جهة أخرى ، شكّلت الانتفاضات الشعبية في شمال إفريقيا و الشرق الأوسط و المتغيرات التي تبعتها معطى رئيسيا جديدا فرض على القوى الإقليمية و الدّولية تغيير استراتيجياتها في كامل المنطقة .
أ لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية تتوقّع مثل هذا الزلزال؟ و كيف تعاملت معه ومع الأوضاع الجديدة التي أفرزها ؟
في كتابه ” أرض الميعاد و الدولة الصليبية: أمريكا في مواجهة العالم منذ سنة 1776 ” ( الترجمة العربية : رضا هلال دار الشروق القاهرة الطبعة الأولى سنة2000 ) يرى المؤرخ الأمريكي و أستاذ العلاقات الدولية في جامعة بنسلفانيا “والتر أ.مكدوجال” أنّ الولايات المتحدة الأمريكية في تاريخها مرت بمرحلتين :
– المرحلة التي بدأت منذ سنة 1776 و امتدّت إلى نهاية القرن التاسع عشر وهي مرحلة الانكماش و البناء الدّاخلي و يستعير لها من الفكر الدّيني مفهوم العهد القديم وفاء لعقيدة المهاجرين الأنجلو سكسون الأوائل اللذين اعتبروا القارة الأمريكية ” أرض كنعان الجديدة”.
– المرحلة الثانية الّتي ابتدأت بغزو جزر الفيلبّين سنة 1898 والمتواصلة إلى الآن وهي مرحلة غزو العالم و يستعير لها أيضا من الفكر الدّيني مفهوم الدّولة الصليبية بكلّ دلالاتها. وهو ما يفسر اعتبار الإدارات الأمريكية المتعاقبة، طيلة القرن العشرين و إلى الآن، كلّ كوكب الأرض داخل في مفهوم الأمن القومي الأمريكي.
و لذلك ، و في مقارنة طريفة، يعتبر الكاتب في مقدّمة كتابه فيلم المخرج الإيطالي سيرجيو ليوني : ” الطيب و السيء و القبيح” ( Le bon, la brute, le truand) يعبّر أحسن تعبير عن الشخصية الأمريكية، فلا قيم و لا صداقات ثابتة في البحث عن المال و إنما تحفّز دائم و انتظار لفرصة الإستفراد بالغنيمة وقتل الخصم بدم بارد.
فالولايات المتّحدة الأمريكية لم تفاجئها ثورات جنوب المتوسّط بل كانت داخلة في استراتيجياتها منذ مدة طويلة و أعدّت العدّة كما ينبغي لتداعياتها و لحلفائها الجدد فيها على عكس القوى الإقليمية الأوروبية، و بالخصوص فرنسا الّتي كانت سجينة عقيدة مصارع الأكباش الصهيوني “فيليب سوجان” المرتكزة على دعم الأنظمة القائمة في كل الأحوال و المساهمة إن لزم الأمر في لجم معارضيها و قمعهم.
وبدون الإغراق في التفاصيل علينا قبل كل شيء تسجيل الملاحظات الأساسية التالية:
1 – لا يمكن وضع كل ثورات المنطقة العربية في سلّة واحدة رغم وحدة الأسباب الاقتصادية و الاجتماعية التي أشعلتها. فقد نجحت الثورة السلمية في كلّ من تونس ومصر في الإطاعة بالسلطة الديكتاتورية القائمة في البلدين بطريقة سلمية. وتمكن النظام الملكي المغربي من امتصاصها بإصلاحات دستورية مهمة في اتجاه نظام الملكية الدستورية. في حين فشلت في كلّ من اليمن و سوريا وليــــبيا ( رغم إسقاط حكم القذّافي) بسبب عسكرتها منذ الوهلة الأولى و فتح الأبواب على مصراعيها للتّدخل الأجنبي تحت مسمّيات عدّة.
كما أن هنالك فرق جوهري تاريخي بين شمال إفريقيا و مصر وبين بقية بلدان الشرق الأوسط إذ لم تعرف بلدان شمال إفريــــــــــقيا و مصر الصراعات الطائفية و المذهبية الّتي مازالت مشتعلة إلى الآن في الشرق الأوسط.
2 – إنّ هذا الوضع فرض على الولايات المتّحدة الأمريكية مراجعة بعض ثوابت سياستها الخارجية و استراتيجية تحرّكها. فقد كانت تعتبر منطقة الشرق الأوسط و شمال إفريقيا وحدة جيوسياسية واحدة تقوم في أحد جوانبها على التعارض الوجودي بين البلدان العربية و الكيان الصهيوني و تركّز اهتمامها الأوّل على فرض القبول بهذا الكيان و التصالح معه – حسب شروطه – ليعم السلام المنطقة تحت مظلّتها ما دامت هي المتمكّنة الوحيدة من ثرواتها الطبيعية.
لكنها مند اندلاع الثورات الشعبية فيها أصبحت تعتبر أن حكومات إسلامية تمتدّ من غزة إلى المغرب الأقصى في انتظار تدمير سوريا ستنهي إلى الأبد الحلم الفلسطيني و العربي وتعيد تشكيل خارطة المنطقة إلى أمد بعيد تحت مظلّتها.
3 – اندلعت الثورات العربية في الوقت الّذي كانت فيه الولايات المتّحدة الأمريكية نفسها تعاني من مخلّفات الأزمة الاقتصادية التي عصفت بها سنة 2008 و من بعض الشّلل في جهازها التنفيذي بسبب عودة الأغلبية في مجلس النواب إلى الحزب الجمهوري في انتخابات نوفمبر 2010 و احتكار كلّ من ماك كاين و جوزيف ليبرمان ( رئيس اللوبي الصهيوني ) لملف المنطقة العربية بكلّ تعقيداته و مستجدّاتـــه بمباركة وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون. و الفرق بين نظرتي الحزبين لعديد المسائل معروف لدى الجميع ( انظر مقالي على هذه الصفحة بتاريخ 15 جوان الفارط حول الرّاهن الدّولي) .
فلئن كان أوباما الديمقراطي تماشيا مع تنظيرات زبينهيو بريزنسكي منذ ستّينات القرن الماضي تعميما لنظرية الدّين المدني الأمريكية ، يؤكّد على دور الإسلام “المعتدل” في المنطقة و تعزّزت لديه هذه القناعة مع النّجاحات الأولى لحزب العدالة و التنمية في تركيا، فإنّ الحزب الجمهوري على العكس تماما يؤمن بضرورة تمكين الإسلام المتطرّف من كامل المنطقة ضمانا لحصرها إلى الأبد في الصراع الدّيني المسوّغ الأوّل لوجود الكيان الصهيوني، و العلاقة بين الحزب الجمهوري و الاخوان المسلمين و كل أشكال التطرّف الاسلامي معروفة لدى الجميع من حسن البنا الى أسامة بن لادن و عائلة بوش مرورا بالسيد قطب و ليو شتراوس.
4 – تعرف الولايات المتّحدة الأمريكية انطلاقا من عمل مخابراتها أن الإخوان المسلمين – بحكم طبيعة تنظيمهم العنقودي – هم القوّة الوحيدة ، بعد الأحزاب الحاكمة الدكتاتورية، التي تتوفّر على جهاز سرّي منظم و متماسك قادر على الفوز بأغلبية في الانتخابات التي عقبت الثورة في كلّ من تونس و مصر و المغرب الأقصى، ولذلك – وتحت تأثير الأغلبية الجمهورية في مجلس النوّاب الأمريكي- سعت إلى التحالف معهم و دعّمتهم ماديا للوصول إلى الحكم و إبقائهم تحت التجربة إلى حين انتخابات الرئاسة الأمريكية في نوفمبر 2012. كما دعّمتهم علنا في الحرب الأهلية في كلّ من ليبيا و سوريا و اليمن.
لكنّ اغتيال السّفير الأمريكي في ليبيا و أحداث السفارة الأمريكية في تونس في سبتمبر 2012 ، و الّتي كان واضحا منهما رغبة الإخوان المسلمين في دعم المرشح الجمهوري للرّئاسة الأمريكية ضدّ أوباما، أحيت الشكوك لدى الولايات المتّحدة الأمريكية في نوايا الإخوان و وفائهم لتعهّداتهم بإبرام اتفاق تحالف استراتيجي معــــــــها ( خطاب حمادي الجبالي في واشنطن يوم 14 ماي 2011 ). وشكّل فوز أوباما بولاية ثانية وإبعاد هيلاري كلينتون عن الخارجية الأمريكية البداية الفعلية لإنهاء المرحلة الأولى لما بعد الثورات العربية.
5 – لكنّ عدّة عوامل أساسية تتّصل أساسا بإرادة الشعوب زعزعت كلّ أركان المخطّطات الأمريكية في المنطقة،و يمكن إيجاز أهمها في النقاط التالية :
أ – صمود الجزائر في وجه المدّ الاسلامي باقتدار عجيب إلى حدّ الآن، هذا الصمود الّذي يقف سدّا عاليا في وجه الوحدة الجغرافية المرتجاة من غزّة إلى المغرب الأقصى.
ب – الثّورة المصرية الثانية الّتي أقصت الإسلاميين من حكم مصر إلى أجل غير مسمّى و شكّلت ضربة قاسمة أخرى للوحدة الجغرافية المشار إليها وفتحت بابا آخر لعودة الدّب الرّوسي إلى المنطقة بقوّة ليصبح شريكا كاملا في كل الترتيبات المستقبلية.
ت – اعتصام الرّحيل في تونس وما سبقه من اغتيال أكبر رمزين سياسيين للقوى التّقدّمية في بلادنا و الّذي أثبت عدم قدرة الإخوان المسلمين على التحكّم في مصير تونس بمفردهم في المرحلة الحالية على الأقلّ و جعلتهم إلى الآن متردّدين في مراجعة اختياراتهم و قد تعصف بهم الانقسامات الدّاخلية حول هذه المراجعات في كلّ لحظة.
ث – صمود النظام السّوري أمام خليط المرتزقة الإسلامي الإسرائيلي التركي في محيط جغرافي عدواني ودعم كلّ من روسـيا و الصين الشعبية له جعل من المستحيل التقدّم في أسلمة المنطقة على الطريقة الأمريكية رغم إذكائها لبعض النّعرات الطائفية.
ج – الاتفاق النووي الدّولي مع إيران و موافقة الكنغرس الأمريكي عليه بما عناه من تسليم بدور إيران كقوة جهوية في المنطقة و بالتالي صعوبة فك الارتباط بينها وبين حزب الله في لبنان و النظام السوري و الحوثيين في اليمن دون مقابل.
ح – الأزمة الدّاخلية للإخوان المسلمين في تركيا وعدم قدرة حزبهم على تشكيل حكومة أغلبية و اللجوء من جديد إلى صناديق الاقتراع التي قد تفرز في نوفمبر القادم أغلبية معارضة لهم تكبّل أردوقان وقد تدفعه إلى الاستقالة.
خ – سعي ما يسمى بدول البريكس بزعامة روسيا و الصين و البرازيل و الهند و توصّلها فعليا إلى بعث بنك تنمية ينافس البنك العالمي و دعوتها إلى التخلّي عن اعتماد الدّولار الأمريكي كعملة تبادل عالمي رئـــــــيسية و انطلاق التعامل في ما بينهم بعملاتهم المحلّية، علاوة على سعي الصين لإحياء طريق الحرير عبر كامل منطقة أوراسيا بما يعنيه من نسف لنظرية بريزنسكي ( منظّر الحزب الديمقراطي ) حول جغرافيا سياسية جديدة لتلك المنطقة الوارد في كتابه “رقعة الشطرنج العظمى الصادر ســـــنة 1997 ( الترجمة العربية صدرت سنة 2001 عن دار علاء الدين بسوريا) .
د – تهديد السلطة الفلسطينية في ضربة استباقية مدروسة بإعلان فلسطين دولة تحت الاحتلال الإسرائيلي بكلّ ما يتبع ذلك من عزل دولي لإسرائيل وفرض واجبات المحتلّ في القانون الدّولي عليها
كلّ هذه العوامل تبرز مدى حاجة الولايات المتّحدة الأمريكية إلى مراجعة حساباتها في كامل المنطقة وحجم التنازلات المقدمة عليها.
المعطيات الأوّلية الواردة في عديد التحاليل تشير إلى أنّه تم بعد في مراكز القرار الأمريكية اتخاذ ثلاث قرارات أساسية من شأنها إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة لصالحها مع بعض التنازلات المرحلية:
1 – فكّ الارتباط بين الشرق الأوسط و شمال إفريقيا في الاستراتيجيا الحالية و المستقبلية للولايات المتّحدة الأمريكية.
2 – القبول ، في إطار ترتيبات سرّية بينها و بين روسيا، بتقسيم ثروات الشرق الأوسط طبق خطّي البتــرول و الغاز على أساس أن يبقى استغلال بترول العراق و الخليج بيد الولايات المتّحدة مع محاولة حصر حصة الصين من بترول إيران في حدودها الحالية. في حين تنفرد روسيا بالغاز السوري و المصري و لم لا اللبناني المكتشف في المتوسّط منذ سنتين و بذلك تتمكّن روسيا من قطع كل إمكانية لوجود إيراني يطلّ على المتوسّط.
و يبقى السؤال قائما بخصوص موقف الصين المرتبطة مع روسيا بتحالفات في عديد المجالات بما فيها العسكرية إن كانت ستقبل بهذه الترتيبات أم لا؟ خصوصا و أنها حرّكت في الأيام الأخيرة عدة قطع من أسطولها البحري باتجاه سوريا .
3 – السعي إلى تعزيز موقع الولايات المتّحدة في شمال إفريقيا بالتعامل مع القوى القائمة في اتجاه مزيد استمالتها باتّفاقات ثنائية ربّما كان منح تونس صفة الشريك المميز خارج حلف الناّتو أولى خطواتها و قد يتبعها تدخّل عسكري مباشر في ليبيا لتأمين نفطها في الأشهر القادمة.
أ لم أقل منذ البداية إنّها ساعة الفرز في جنوب المتوسّط؟
الشيء المؤكّد الآن أن شمال إفريقيا مقبل على أيّام صعبة حتّى منتصف سنة 2017 موعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية الذي تسبقه الانتخابات الأمريكية في نوفمبر 2016 .
ألم أقل أكثر من مرة على هذه الصفحة إن المرحلة الحالية هي أدقّ مرحلة في معركة الإستقلال الوطني.
ألا هل بلّغت ؟
ليشهد علينا الوطن.
محمد الطاهر الضيفاوي