يقول دستور العام 2005 بأن العراق «بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب» (المادة 3) لكنّ النظام السياسي، الذي تبناه هذا الدستور. كان نظاما قائما على أساس نموذج «أكثروي» (نسبة إلى الأكثرية الديمغرافية) و من خلاله تقوضت مبادئ الديمقراطية التوافقية التي يُفترضُ أن قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية (الدستور المؤقت) الذي وضعه الأمريكيون في العام 2004، اعتمدها، ولو بشكل مشوه،، فقد بُني هذا القانون على أساس أن العراق بلد تعددي لا يمكن أن يحكم إلا من خلال «تقاسم السلطة « بين مكوناته الرئيسية الشيعة والسنة والكرد.
إن إعادة قراءة النظام السياسي الذي اعتمده الدستور العراقي، بعيدا عن الممارسات السياسية التي لم تتحول إلى أعراف ثابتة متفق عليها بعد، تكشف أن هذا النظام يتيح للأكثرية (في سياق التماهي التام بين الأكثرية السياسية والأكثرية الديمغرافية، وفي سياق طبيعة البنية الطائفية؛ القومية والمذهبية الحاكمة) أن تحتكر السلطة بكاملها، ودون ان يكون لأي من الشركاء القدرة على الاعتراض على هذا الاحتكار! وهو ما يجعل توزيع المناصب الرئيسية الثلاثة في الدولة؛ رئيس مجلس النواب، ورئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء بين المكونات مجرد إجراء «مؤقت» وقابل للتعديل، وهو أشبهُ بـ«مكرمة» يمنحها الفاعل السياسي الشيعي للآخرين! واذا كانت السنوات 2006 و 2010 و 2014 قد منحت الفاعلين السياسيين السنة والكرد خيار من يمثلهما في موقعي رئاسة مجلس النواب، ورئاسة الجمهورية، فقد شهد العام 2018 محاولة عملية لإثبات حقيقة جديدة وهي أن هذين المنصبين ليسا خيارا يحددهما الفاعل السياسي السني أو الكردي، بل هي قرار يمتلك الفاعل السياسي الشيعي مفاتيحه كلها.
في هذا السياق كان الدستور العراقي حريصا على عدم منح رئيس مجلس النواب، أو رئيس الجمهورية، أية صلاحيات حقيقية، في مقابل منح رئيس مجلس الوزراء القدرة على «الاحتكار» المطلق للسلطة في الدولة، ليس اعتمادا على النص الدستوري نفسه فقط، بل اعتمادا على سلطة التأويل الذاتية، أو السلطة التي يمكن استغلال «المحكمة الاتحادية» من خلالها، من أجل شرعنة هذا التأويل! وهو ما جعل موقع رئيس مجلس الوزراء، عمليا، هو المحور الرئيسي الذي يحكم النظام السياسي ككل.
منذ أول رئيس مجلس وزراء في ظل دستور العام 2005، كان واضحا أن عملية اختيار رئيس مجلس الوزراء لا تخضع لعلاقات القوة السياسية التي تعكسها الانتخابات العامة، وأنها ليست قرارا ذاتيا للفاعلين السياسيين الشيعة وحسب، بل هو قرار تتدخل فيه النجف عبر المرجعية الدينية، وإيران عبر تغولها السياسي في العرق، والولايات المتحدة الأمريكية بسبب وجودها على الأرض حتى العام 2011، وبسبب طبيعة العلاقة التي تحكمها بالعراق بعد العام 2014. ففي العام 2006 مثلا، رشح الفاعلون السياسيون الشيعة في الائتلاف العراقي الموحد، الدكتور إبراهيم الجعفري للمنصب، لكن الفيتو الأمريكي كان حاسما في دفع السيد علي السيستاني إلى التدخل مباشرة لتغيير هذا الترشيح واستبداله بالسيد نوري المالكي، وفي العام 2010 كان الأمريكان والإيرانيون حاسمين في مسألة إعادة ترشيح المالكي لولاية ثانية، وفي العام 2014 كان للسيد السيستاني الدور الرئيسي في منع المالكي من العودة إلى المنصب لولاية ثالثة، وفي دعمه للانشقاق الذي حصل في حزب الدعوة والذي أتاح للدكتور حيدر العبادي الوصول إلى المنصب، وفي العام 2018 كانت النجف وإيران فاعلتين بقوة في ترشيح السيد عادل عبد المهدي لهذا المنصب.
اليوم، وبعد إعلان النتائج النهائية لانتخابات مجلس النواب العراقي، يعرف الجميع أنه لا إمكانية للحديث عن رئيس مجلس نواب، أو رئيس جمهورية، تبعا لتسلسل انتخابهما بموجب الدستور، قبل الاتفاق على رئيس مجلس الوزراء بوصفه القطب الذي ستدور كل الأطراف حوله! ويعرف الجميع، رغم المكابرة والعزة بالإثم، أن نتائج الانتخابات وعدد المقاعد ليست سوى فاعل ثانوي في اختيار رئيس مجلس الوزراء، وأن العوامل الثلاثة الأخرى: النجف وإيران والولايات المتحدة الأمريكية، بشكل مباشر او غير مباشر، هي الأطراف التي ستحسم هذا الاختيار. وبالتالي فإن أي مرشح محتمل يجب أن يحظى أولا بقبول النجف، او على الأقل عدم معارضتها، وأن يحظى ثانيا بقبول إيراني صريح، وان يحظى ثالثا بعلاقات جيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية من أجل عدم تكرار سيناريو السيد عادل عبد المهدي. وهو ما سيجعل قائمة المرشحين المحتملين لهذا المنصب قصيرة للغاية، ربما لا تتجاوز الأربعة او الخمسة أسماء على أحسن تقدير.
لا بديل عن مرشح «توافقي» لرئاسة مجلس الوزراء يحظى بقبول حاملي السلاح جميعا، ويحظى بقبول الفاعلين الثلاثة الآخرين؛ النجف وإيران والولايات المتحدة الأمريكية، وأن البروباغاندا المتعلقة بخرافة الأغلبية السياسية/ الوطنية ليست سوى ورقة تفاوضية عالية
ولايزال السيد مصطفى الكاظمي على القائمة القصيرة، وهو يحظى بدعم «ضمني» من السيد مقتدى الصدر، ورغم ما يبدو من الموقف الحاد الذي تقفه الجماعات الحليفة لإيران، والسيد المالكي ضده، لكن جميع الظروف التي أوصلت الكاظمي عام 2020 إلى منصبه لا تزال قائمة، تحديدا فيما يتعلق بالعلاقات الأمريكية الإيرانية. وإذا ما فشلت مفاوضات فيينا الحالية في الوصول إلى انفراجة، فيما يتعلق بالعلاقات الأمريكية الإيرانية، ستكون إيران «مضطرة» مرة أخرى للقبول بولاية ثانية للكاظمي، كما قبلتها في المرة الأولى، وسيخضع حلفاء إيران لهذا الخيار، ولن يبقى سوى السيد المالكي معارضا دون أن تكون لديه القدرة على إيقاف تلك الصفقة! القائمة القصيرة تضم أيضا الدكتور حيدر العبادي، فالرجل يستطيع أن يحظى بسهولة بقبول الأطراف الثلاثة الفاعلة، ولا أعتقد أن الكرد سيكون لهم موقف معارض شديد منه هذه المرة، بعد تجاوز ازمة الاستفتاء وما تبعها، وستكون معارضة حزب تقدم /محمد الحلبوسي لهذا الخيار غير مؤثرة في هذا السياق!
المرشح الثالث المطروح هو السيد فائق زيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى، وإن كان من غير الواضح ما هو موقف النجف والولايات المتحدة من هذا الخيار، و أعتقد شخصيا ان الرجل، رغم طموحه السياسي، لم يحسم قراره بعد، فهو لا يريد أن يفقد منصبه «المهم» في مقابل منصب يتنازع على الهيمنة عليه فاعلون سياسيون متخاصمون، وبالتالي ليس ثمة ضمانة أن الصفقة التي ستوصله إلى المنصب قابلة للاستمرار!
المرشح الرابع الذي يحاول أن يستعيد حظوظه هو السيد محمد توفيق علاوي، الذي يمكن أن يكون مرشح تسوية مقبول من جميع الأطراف هذه المرة، على عكس المرة السابقة التي بدا فيها وكأنه مرشح للسيد مقتدى الصدر تحديدا، وهو ما ساهم في تقويض ترشيحه عام 2020.
ليست هذه قائمة نهائية بالتأكيد، ولكنها ستبقى قائمة قصيرة.
قلنا في مقالات سابقة حول مشهد ما بعد الانتخابات، أنه لا بديل عن مرشح «توافقي» لرئاسة مجلس الوزراء يحظى بقبول حاملي السلاح جميعا، ويحظى بقبول الفاعلين الثلاثة الآخرين؛ النجف وإيران والولايات المتحدة الأمريكية، وأن البروباغاندا المتعلقة بخرافة الأغلبية السياسية/ الوطنية ليست سوى ورقة تفاوضية عالية، للحصول على أفضل المكاسب ليس أكثر، واليوم بعد اللقاء الأول الذي جمع الفاعلين السياسيين الشيعة؛ فائزين وخاسرين معا، يبدو، بوضوح، أن مفاوضات الصفقة قد بدأت، وأنها ستصل إلى النهاية الحتمية التي ذكرناها مرارا!
يحيى الكبيسي
القدس العربي