تزايدت في الأيام الأخيرة لهجة أمريكا والحلف الأطلسي في مواجهة روسيا، إثر حشد المزيد من قواتها المسلحة على حدود أوكرانيا، التي سبق لها أن شهدت اقتطاع جزء من أراضيها ممثلا في شبه جزيرة القرم، في آذار/ مارس 2014.
حصلت تلك الأحداث إثر حصول ثورة في العام نفسه في أوكرانيا تمكن خلالها الأوكرانيون من التخلص من رئيسهم الفاسد، فيكتور يانوكوفيتاش، وكانت السيطرة على شبه جزيرة القرم عملا أمنيا وعسكريا شديد الجرأة والدهاء، فبعد اجتماع للرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع رؤساء أجهزته الأمنية وقراره السيطرة على القرم جرت مظاهرات موالية لروسيا في عاصمة الإقليم وقامت القوات الأمنية الروسية المتخفية بالسيطرة على مواقع استراتيجية تبعها تنصيب حكومة موالية لها.
قابلت روسيا موجة التنديدات الدولية بضمها للقرم بتحريك الأقلية الروسية الموجودة شرق أوكرانيا وعبرت المدرعات الروسية بعدها وقضى على مقاومة الجيش الأوكراني، وقامت لاحقا بنقل بعض من «قوات النخبة» من أوكرانيا عام 2015 مع بدء تدخل عسكري آخر لها في سوريا لدعم نظام بشار الأسد.
على عكس ضم شبه جزيرة القرم والتدخل الروسي في شرق أوكرانيا، حيث تم تحريك الانفصاليين الذين يقدمون الدعم المدني للتدخل العسكري الروسي، يبدو غزو روسيا لأوكرانيا عملا عدوانيا سيصعب على الغرب، والعالم عموما، استيعابه، لأنه سيقدم سابقة خطيرة في احتلال بلد يفترض، رغم أنه ليس جزءا من «حلف الأطلسي» أنه موجود تحت حماية المنظومة الغربية، وسيكون اجتياحه تحديا كبيرا جدا لا يمكن معالجته بالإدانات والعقوبات على بعض الأشخاص والمؤسسات.
هناك احتمال كبير أن يكون التهديد الروسي المتصاعد بالغزو أسلوبا من «المفاوضات» التي يجيد الرئيس الروسي إجراءها بطرقه الفظة والقاسية مع الغرب، الذي يعاني إشكالات بنيوية عميقة، كان انتخاب دونالد ترامب، رئيسا لأمريكا، واستفحال نفوذ اليمين المتطرف، القريب من روسيا، وقضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، من مظاهرها الواضحة.
وكي تزداد المعادلة تعقيدا واشتباكا، يجب أن نلحظ أيضا دور السيطرة الكبيرة لموسكو على سوق الغاز الأوروبية، والتراجع الاقتصادي الكبير لأوكرانيا، مما يرفع سقف التعارض بين مصالح حمايتها مع مصالح الاقتصاد والسياسة الأوروبية، وإذا أضفنا إلى ذلك القلق الغربي المتصاعد من الصين، والحاجة لإقفال الملف الإيراني، تصبح الحسابات الغربية أكثر تعقيدا، وتجعل احتمالات التدخل الروسي، أو التهديد بالتدخل، عنصرا قابلا للاستخدام.
المشكلة الأخرى الكبرى التي قد تنشأ عن السيناريو الخطير الذي يمثله تهديد روسيا لأوكرانيا، والتي تتفاعل في باطنه، هي أن ذلك الغزو، إذا حصل، سيفتح الباب للصين للهجوم بدورها على تايوان، ولاتحاد الحليفين النوويين في وجه المنظومة الغربية، وهو ما سيفتح حقبة عالمية جديدة لا يمكن تصور نهايات جيدة لها.
تدرك «الإمبراطورية» الأمريكية الأخطار الوجودية التي تتهددها، وقد بدأت فعلا، على الأقل منذ عهد باراك أوباما، بإعادة تموضع طويلة لوقف تصدر الصين للموقع الاقتصادي الأول في العالم، مع ما يحمله ذلك من إمكانيات التوسع العسكري الذي بدأت بعض جارات الصين، وخصوصا تايوان وتايلاند وفيتنام والهند، بالتحضر له.
تدرك روسيا، في المقابل، أن هذه الاستراتيجية الكبرى تضعف إمكانيات الولايات المتحدة الأمريكية بمواجهة عدوين كبيرين (أو أربعة أعداء، اذا انضافت إيران وكوريا الشمالية) وهي تستغل الانقسامات المتزايدة داخل المعسكر الغربي لتعميق الصدع داخل المنظومة الأمريكية، وفي ضوء كل هذا، وبمعاينة السياسة الهجومية لبوتين، فإن احتمالات الهجوم على أوكرانيا قد تكون أكبر مما يتوقع خصومها.
القدس العربي