إن مصطلح “سياسات الطاقة”، هو فلسفة الدولة التي تدير قضايا الطاقة بمجملها، بما في ذلك التشريعات والمعاهدات الدولية وحوافز الاستثمار والمبادئ التوجيهية وصولاً الى الاستثمار الأمثل والأكثر رشداً.
وكل دولة تسعى لاستدامة بقائها وتحقيق الازدهار، لا يمكن لها أن تدير ظهرها لشرط تحقيق أقصى المنافع الناتجة من الطاقة، بما في ذلك الضرائب المتعلقة به، أو مواكبة الحداثة في التقنيات المستخدمة. ولهذا كلّه، عُدّت الطاقة بأنها “القـاطـرة” التي تقود الاقتصاد. وهذه هي علّة وجوب التخصيصات الكبيرة لها، انتاجاً وبحثاً علمياً، فهل نحن كذلك؟.
سبق أن كتبت عن استثمار الغاز العراقي، وبيّنت أن الحال انتهى بنا الى عدم وجود وثيقة واحدة في الدولة العراقية يمكن أن تقطع بحجم الحاجة المحلية للغاز، أو كمية الاحتياطي المؤكد.
لا غرابة في هذه الحقيقة التي قد تشمل باقي أنواع الطاقة بشكل أقل. إذن يتوجب علينا الاعتراف من البداية بهذه النقطة، ومنها ينطلق الإصلاح الشامل لهذا القطّاع، الذي بدونه سنتحوّل الى دولة فقيرة للغاية.
ومنذ اكتشاف نفط كركوك وانتاجه بغزارة عام 1927، والعراق يعاني من غياب مؤسسة علمية دقيقة وموثوق بها تثبّت ملكيته وقدراته من الثروة النفطية. وللأسف، فإن كل ما يجري تداوله عن حجم ثروة العراق هو تكرارٌ بلا تدقيق لنشرات تُصدرها منظمات أو شركات عالمية.
هذا الأمر جعل معظم القرارات المصيرية في هذا القطاع، تكون نتاجاً لمقترحات/Proposals، من شركات فكّرت في مصالحها أولاً قبل أن تزوّقها بغلاف مصلحة العراق، أو أن تكون قرارات بُنيت على مزاج الحاكم ونرجسيته وفساده. وشاعت ردّات الفعل والبيروقراطية الوظيفية التي لا تحسب للزمن حسابه. وغاب عنها التخطيط بينما كان العالم يتقدم.
لم تلتفت هذه السياقات الى أن بدائل النفط ومنها الغاز قد انتقلت من دائرة البحوث الى ساحة التطبيق الناضجة، ناهيك عن الصراع المُستدام بين وزارة النفط والكهرباء حول تجهيز الوقود والديون المليارية التي تقيّدها وزارة النفط على وزارة الكهرباء دون أمل بتسديدها مطلقاً، لكنها تبقى موضوعاً سمجاً للنقاش والمطالبة والتذكير كلّما احتدّت الأزمة في تجهيز الكهرباء وفصل الصيف هو شاهدُنا الذي يحضر.
وجاء تشريع قانون شركة النفط الوطنية على سبيل المثال، ليمثل خطوة في الاتجاه الصحيح. ودعم الخبراء من خارج المؤسسة الوظيفية الحكومية هذا القانون، لكن التأسيس أخيراً حصل وفق مقاس أشخاص معينين دفعهم الاستعجال الى تجاهل طعن المحكمة الاتحادية في تسع مواد من قانون الشركة.
هذا الأمر المثير للاستغراب من الخطورة بما يتجاوز رزايا الدكتاتورية بهذا القطّاع، وصفقات الفساد في عقودها المليارية. ثم تأتي القرارات المفتقرة الى الشفافية، رغم أن الثروة النفطية ملك للشعب العراقي حسب الدستور. واقرب مثال لنا، قيام شركة النفط الوطنية بالدخول كشريك ممول مع شركات عالمية في مشاريعها التي يفترض أنها استثمار خالص من تلك الشركات. أمثلة كهذه حدثت في قطاع تطوير النفط والغاز، وكذلك في مشاريع الطاقة الشمسية التي هي ليست من اختصاص وزارة النفط قطعاً.
كل هذا، وضع الكثير من علامات الاستفهام على خبايا إدارة قطاع الطاقة، وهو ما تسبب في تراجع أهمية النفط والغاز، والقفز على واجبات وزارة النفط المتمثلة بتطوير قطاع النفط وتسويقه بما يضمن أفضل العوائد للشعب العراقي.
لقد ذكر قانون الوزارة؛(..تتولى وزارة النفط، إدارة قطاع النفط، ويعبر عنه بالقطاع لأغراض هذا القانون، ويختص بممارسة عمليات استكشاف وحفر واستخراج النفط والغاز، وعمليات التصفية وصناعة الغاز، بالإضافة الى نقل وتسويق النفط الخام والغاز ومنتوجاتهما، وتشييد المشاريع النفطية، واستيراد المستلزمات المتخصصة بالقطاع ).
إن قطاعة الطاقة مازال هو المكان الأخطر في التعاقدات، وهو بؤرة القرارات الاستثنائية التي تتجاوز تعليمات إبرام العقود، ولا تراعي تعليمات تنفيذ قانون الموازنة، وذلك بذريعة عدم توفر المنافسة واحتكارية الشركات المتعاقد معها. ولهذا أرى أن الواجب يحتم أن نقترح بشجاعة أفكاراً مهمة تتناسب مع الإدارة الحديثة وتطوّر أساليب التعاطي مع الثروة التي تشكل-الى جانب نهري دجلة والفرات- العصب الرئيس للحياة في العراق؛ وعليه أجد من الواجب التقدم بالمقترح التالي:
1- إلغاء وزارتي النفط والكهرباء، وتأسيس وزارة الطاقة بنظام داخلي يتوافق مع قانون الوزارة المزمع تشريعه. وتضم هذه الوزارة؛
أ- شركة النفط الوطنية، بعد إجراء التعديلات اللازمة على قانونها، وبحسب ما ورد في قرار المحكمة الاتحادية، أو إعداد نظام داخلي لها لحين البت بقانون الشركة.
ب- شركة الكهرباء الوطنية، وتعديل قانون وزارة الكهرباء ليكون بمثابة نظم داخلي خاص لها.
ت- شركة الغاز الوطنية، ويكون لها نظامها الداخلي الخاص.
ث- هيئة الطاقة الذرية العراقية، ويكون لها نظامها الداخلي الخاص.
ج- جميع شركات ومؤسسات وزارة النفط الحالية المتبقية التي لم ترتبط بشركة النفط الوطنية.
2- تأسيس مركز إدارة معلومات الطاقة العراقي/Iraqi Energy Information Administration(IEIA)؛
وهو إدارة مختصة بمعلومات الطاقة، ويكون جزءاً من وزارة الطاقة، ويرتبط بمكتب نائب رئيس مجلس الوزراء لشؤون الطاقة وزير الطاقة، حيث يفترض أن يكون المركز الإحصائي الرئيس لمعلومات الطاقة في العراق. وسيكون هذا المركز مسؤولاً عن جمع معلومات الطاقة وتحليلها ونشرها من أجل تعزيز القدرة على صنع سياسات سليمة في هذا القطاع. وسيساعد في فهم مسار الأسواق، وتفاعلها مع الإقتصاد والبيئة. كذلك سيغطي برامج تقييم الأثر البيئي بشأن جميع أنواع الطاقة الأحفورية أو المتجددة أو النووية.
يكون برنامج “تقييم التأثير البيئي” أداة شاملة لجمع البيانات، و يغطي كامل مصادر الطاقة والاستخدامات النهائية وتدفقاتها، مثلما يوفر توقعات الطاقة المحلية والدولية على المديين القصير والطويل؛ ويقوم بإجراء تحليلات إعلامية للطاقة. وهو ملزم بنشر البيانات والتحليلات والتقارير والخدمات للعملاء وأصحاب المصلحة بشكل أساسي من خلال موقع الكتروني خاص به
إن فكرة تأسيس مركز معلومات الطاقة ليس ابتكاراً جديداً، إذ نجد نموذجاً عاملاً بكفاءة هو؛ إدارة معلومات الطاقة ألأمريكيU.S-Energy Information Administration- EIA) ) هذه الوكالة الحكومية، تأسست عام 1977، كوكالة احصائية تابعة للنظام الإحصائي الاتحادي للولايات المتحدة، مهمتها جمع المعلومات وتحليلها ونشرها كي تكون في خدمة صنّاع القرار، وأن تمكنهم من التفاعل مع الاشتراطات البيئية ومتطلبات الأسواق العالمية، وأن تعزز صنع سياسة سليمة بعيدة عن الارتجال.
اما الشركات التابعة لوزارة الطاقة المؤمل تأسيسها بدلا عن وزارات مترهلة فنرى ان يكون المدير التنفيذي لكل شركة هو موظف خبير يتم التعاقد معه مباشرة لمدة لا تزيد عن خمسة سنوات قابلة للتجديد، اعتمادا على معدل النجاح في قيادته للشركة واعتماداً على المعايير العالمية في عديد الكوادر واحالة المتبقي الى دائرة تشبه ( الاحتياط القريب ) لأن الترهل الوظيفي في هذه الشركات سيمنع محاسبتها وفق معايير السوق التي تعتمد الربح والخسارة في جميع انشطتها .
الحديث عن الإصلاح حتى يكون مثمراً، يجب أن يبتعد عن اعتناق الشعارات الجميلة، وأن يهرب منها باتجاه الخطوات الحقيقية والعلمية الشجاعة. أما الاستماع الى المترددين والمنتفعين لن يفضي الى شيء. وفي الحقيقة، ليس هناك ملف في العراق يمكن البدء بالإصلاح فيه أفضل من قطاع الطاقة، لأنه مازال يمثل 95% من الواردات المالية المباشرة للعراق.
أما التماهل في إصلاح هذا القطاع والأكتفاء بالحديث ( الترفي ) في الندوات والمؤتمرات ، فهو يعني المزيد من الهدر وضياع الفرص، وبالتالي تراجع المجموع التنموي لباقي القطاعات كلها.
البداية يجب أن تنطلق من إعادة هيكلة قطاع الطاقة في العراق، كي نصل الى تحقيق هدف واقعي للإصلاح، وهو رفع الكفاءة وزيادة الإنتاجية بما يواكب متطلبات السوق والاقتصاد الحر، وأخذ مكانة فعالة بين المنتجين والمستهلكين. كل ما نحتاجه هو قرار شجاع يستند الى رؤية علمية واقعية، مع صم الآذان إزاء الفاشلين كي لا يتكرر فشلهم الى ما لانهاية.
عبدالحسين هنين
شبكة الاقتصاديين العراقيين