يتفق معظم الأكراد العراقيين المهاجرين وخاصة الشباب منهم على أنه لا يهمّ ما ستؤول إليه رحلاتهم المحفوفة بالمخاطر، بقدر ما يهمّهم أولا إيجاد أي فرصة للهرب من الأوضاع المعيشية التي لا يقدرون على تحملها مستقبلا. وسواء مات من سبقهم من الهاربين أو نجحوا في بلوغ جنة أوروبا، فالمهم لمن تبقى هو البحث عن مهرّب جيّد يضمن لهم تحقيق حلمهم بالمغادرة.
أربيل – يواصل الأكراد العراقيون محاولاتهم المضنية للهجرة نحو أوروبا بأي ثمن أو طريقة متاحة، لا تثنيهم عن ذلك الأنباء القادمة يوميا من البحار وتحمل لهم في أغلبها آلاما لموت أصدقاء وأبناء غرقا بعدما أخلف المهربون المختارون بدقة بوعودهم، ليقذفوا بالعديد من الشباب الطموحين في عرض البحار على مراكب غير مؤهلة.
وتتراكم الأحذية خارج منزل ماماند في شمال العراق من الأقارب والأصدقاء الذين تدفقوا إلى الداخل لتقديم الدعم، بينما ينتظرون بفارغ الصبر أخبار ابن العائلة الصغير الذي فُقد في البحر في مكان ما بين فرنسا وبريطانيا.
يخشى معظمهم التعبير عن مخاوفهم من أن يكون توانا ماماند البالغ من العمر ثمانية عشر عاما قد غرق مع 26 آخرين على الأقل، عندما غرق قاربهم الضعيف بالقرب من الساحل الفرنسي مطلع هذا الشهر، حيث كانوا متجهين إلى بريطانيا على أمل بدء حياة جديدة.
ومسح زانا ماماند (33 عاما) دموعه وتعهد بالانتقام من عائلة المهرب التي رتبت لرحلة شقيقه. قال “أعرفه، وأعرف أفراد عائلته هنا، ولدي كل أرقام هواتفهم”.
في رانية، وهي بلدة يبلغ عدد سكانها حوالي 400 ألف نسمة في المنطقة التي يديرها الأكراد في العراق، يبدو موضوع المهاجرين أمرا يعرف الجميع شيئا عنه.
ويطلب أولئك الذين يريدون الخروج من وكلاء السفر المحليين ربطهم بالمهربين في تركيا وأماكن أخرى. ويقبع أولئك الذين عادوا من المحاولات الفاشلة في الحديقة الرئيسية، حريصين على المحاولة مرة أخرى. ويقول الضباط في مركز الشرطة إنهم لا يستطيعون إيقاف المهربين.
ويُعتقد أن العديد من ضحايا مأساة القنال الإنجليزي هم من أكراد العراق، الذين يبدو أنهم يشكلون غالبية المهاجرين من الشرق الأوسط الذين يسعون إلى الانتقال إلى الغرب. فعلى الرغم من أن شمال العراق يعدّ أكثر ازدهارا من بقية البلاد التي تعاني من الصراع، فإن تزايد البطالة والإحباط بسبب الفساد يجبر الكثيرين على التفكير في الرحلة المحفوفة بالمخاطر إلى أوروبا.
وقال بكر علي، رئيس جمعية محلية للاجئين العائدين من أوروبا، إن حوالي 28 ألف عراقي غادروا إلى أوروبا في 2021، منهم حوالي 7 آلاف من منطقة رابرين التي تشمل رانية وبلدة قلعة دزة القريبة.
شورش إسماعيل: السلطات لا يمكنها فعل شيء دون أمر من رئاسة كردستان
حاول توانا عبور القنال الإنجليزي من كاليه وفشل خمس مرات قبل أن يستقل قاربا صغيرا مساء الثالث والعشرين من نوفمبر الماضي.
وكان الروتين هو نفسه: قبل كل محاولة عبور، كان المهربون يختارون مكتب سفر في رانية حيث يودع زانا الأموال.
وفي تلك الليلة، تحدث زانا إلى شقيقه عبر الهاتف قبل منتصف الليل بقليل. سأل عن حالة الطقس وعن القارب والآخرين معه.
ويتذكر أن توانا رد أن “القارب ليس جيدا”، موضحا أنه كان صغيرا جدا، وكان 33 شخصا ينتظرون العبور، وهو عدد كبير جدا بالنسبة للقارب.
وتحدثا مرة أخرى في الساعة الثانية من صباح اليوم التالي. في مكالمة مدتها أربع دقائق، ضحك توانا مازحا، وقال لأخيه الأكبر إنهم سيبحرون في غضون ساعة. كان زانا متعبا وطلب من أخته كالا التي تعيش في المملكة المتحدة البقاء على اتصال. لكن توانا قال في رسالته الأخيرة إن المحرك لا يعمل.
كان توانا رياضيا وماهرا بشكل خاص في كرة القدم. وأظهر زانا بفخر صورا له وهو يلعب بالكرة مع نظرة إصرار فولاذي على وجهه.
ولم يكن توانا يهتم كثيرا بالمدرسة، وكان يشك في قدرتها على ضمان وظيفة له. لكن كل فرد في العائلة تقريبا كافح للعثور على عمل. ونادرا ما كان رجل الإطفاء زانا يتقاضى أجره في الوقت المحدّد أو بالكامل. في بعض الأحيان، كان توانا يعمل لمدة 12 ساعة في اليوم، ويكسب 15 ألف دينار عراقي، أي حوالي 10 دولارات.
وقال توانا عندما بلغ الثامنة عشرة من عمره إن لا شيء سيمنعه من الذهاب إلى أوروبا. ستكون الرحلة مكلفة، فقيمتها تبلغ 13 ألف دولار للعبور من تركيا إلى إيطاليا. وكان على توانا أن يجد طريقه إلى كاليه بفرنسا من هناك. بعد ذلك، سيكلف عبور القناة إلى المملكة المتحدة ثلاثة آلاف دولار أخرى.
وسافر إلى إسطنبول بتأشيرة تركية في سبتمبر ووجد الكثير من المهربين من منطقته الأصلية، بما في ذلك رانية وقلعة دزة.
وحاول توانا العبور من تركيا إلى إيطاليا وفشل ثلاث مرات، وكانت كل مرة مع مهرب مختلف. وقال زانا إن الأموال، التي جمعها عن طريق الاقتراض وعرض منزل والدهما للبيع، توضع لدى وكيل سفريات معين يسحبها في كل مرة تفشل فيها المشاريع. وتابع أنه عندما وصل توانا أخيرا إلى إيطاليا في أواخر أكتوبر الماضي، أرسل وكيل السفر المال. وتكرر نفس الإجراء عندما وصل توانا إلى كاليه.
تطل نافذة مكتب عبدالله عمر على مركز رانية الصاخب، حيث تقع وكالته في الطابق الثاني فوق المقاهي الشهيرة. ولخص وكيل السفر البالغ من العمر 35 عاما عمله قائلا “أنا أساعد الناس في العثور على أفضل المهربين لنقلهم إلى أوروبا”.
وأكد أنه يتمتع بمعايير عالية، ويعمل فقط مع أولئك الذين ساعدوا الناس في الوصول إلى وجهتهم بأقل عدد من الشكاوى. والمهربون هم من أقاربه بينهم شقيقه في تركيا.
وقال إنه ساعد أكثر من 500 شخص هذا العام، وهو رقم ارتفع باطراد. ويريد معظمهم الذهاب إلى المملكة المتحدة حيث طلب أقاربهم اللجوء قبل سنوات. ويطلب المهربون من المهاجرين المحتملين ترك وديعة لدى عمر بمجرد حصولهم على تأشيرة دخول إلى تركيا. ويجري تهريب معظمهم من تركيا إلى إيطاليا عبر طرق بحرية محفوفة بالمخاطر، بينما يحاول آخرون عبر طريق اليونان أو بلغاريا.
ويعمل عمر وسيطا بين المهربين والمهاجرين وأقاربهم في العراق، مستخدما ما يسمى بشبكة الحوالة في البلدان الإسلامية، حيث يعمل الأفراد بدلا من البنوك كوسطاء لتحويل الأموال. ولا يطلق الأموال عن طريق الحوالة إلا بعد موافقة جميع الأطراف.
وقال عمر إنه يرسل أحيانا أموالا مباشرة إلى المهاجرين الذين “ينفد منهم المال وينامون في محطات القطارات في إيطاليا، أو يمرضون”.
وقال أحد المهربين من منطقة قلعة دزة العراقية إنه بدأ في تمرير الناس إلى بولندا عبر بيلاروسيا في يوليو. وأكد لوكالة أسوشيتد برس عبر الهاتف أن الأمر كان أسهل من الطرق الأخرى، لأن بيلاروسيا خففت قيود التأشيرة، ولديه صديق في بولندا يقود المهاجرين إلى ألمانيا مقابل رسوم.
ولكن بعد تصاعد التوترات على طول الحدود بين بيلاروسيا وبولندا في نوفمبر توقف العمل، كما قال شوان، الذي لم يذكر اسمه بالكامل لأنه يخشى الوقوع في مشاكل مع السلطات.
وعندما وصل خبر إلى زانا بأن شقيقه ربما مات، ذهب إلى مكتب الوكيل الذي ترك معه وديعته، وهدده في نوبة من الغضب. وأخبره الوكيل عن كيفية الوصول إلى المهرب الذي يسمي نفسه بشدار رانية، وهو اسم مستعار.
وسرعان ما وجد زانا عائلة المهرب لأن رانية صغيرة نسبيا. وهدد بإرسال معلومات عن المهرب إلى أخته في المملكة المتحدة لإبلاغ السلطات عنه.
واتصل المهرب في وقت لاحق بزانا عبر تطبيق المراسلة على فيسبوك، والذي قال فيه في رسالة صوتية إنه هارب في ألمانيا.
وشغل زانا الرسالة لمراسل وكالة أسوشيتد برس، حيث كسر التسجيل الصمت الحزين في منزل ماماند. وقال المهرب عن الحادث “أنا آسف. لقد كانت مفاجأة لي أيضا. سوف أعوضك”.
باءت محاولات أسوشيتد برس للوصول إلى المهرب من خلال وسيط في فرنسا قدّمه زانا بالفشل.
وقال حضار عزاوي، مدير الأمن الكردي في رانية، إن السلطات لا تستطيع فعل الكثير بشأن المهربين. وأضاف “المهربون موجودون في تركيا. العراقيون يحصلون على تأشيرة للذهاب إلى هناك، فماذا يمكننا أن نفعل؟”.
وقال المتحدث باسم شرطة رانيا الملازم شورش إسماعيل إن السلطات على علم بأنشطة وكالات السفر، ولكن لا يمكنها فعل أي شيء دون أمر من رئاسة كردستان.
وقال وكيل السفر عمر إنه لا يعتقد أنه يرتكب أي خطأ، وأصر “أنا أساعد الناس”.
وفي حديقة البلدة المجاورة، يتذكر آلان عزيز البالغ من العمر 24 عاما محاولته الفاشلة للوصول إلى إيطاليا. كان على متن قارب في البحر المتوسط عندما نقلته التيارات إلى ليبيا بدلا من ذلك. وأمضى هناك ما يقرب من شهر قبل إعادته إلى وطنه. وقال عن نية مقابلة وكيل سفريات “أحتاج إلى مساعدته. أريد أن أحاول مرة أخرى للوصول إلى أوروبا”.
العرب