ترتبط الأزمات التي يشهدها لبنان حاليًا بشكل وثيق بالتحديات الداخلية التي يواجهها “حزب الله”، ما يخلق فرصة حقيقية للتغيير في حال وفر الغرب الدعم اللازم لإجراء انتخابات عادلة ومساءلة قضائية وممارسة ضغوط مستهدفة.
لقد شهد لبنان تحولات هائلة خلال السنتين الماضيتين. فقد انهار اقتصاده، وتصدّع نظامه المالي، وتأزمت علاقاته التي يعود تاريخها إلى عقود طويلة مع الدول الخليجية، وأثبت “حزب الله” المدعوم من إيران أنه السلطة المطلقة بدون منازع في البلاد. ولم تؤدِ الاحتجاجات التي هزت شوارع لبنان في 2019 إلى الإصلاحات الضرورية أو إعادة خلط الأوراق السياسية التي تُعتبر البلاد بأمس الحاجة إليها؛ بل على العكس، تفاقم الانهيار. غير أن الاحتجاجات، التي ترافقت مع أزمة إنسانية متصاعدة، أحدثت تغييرًا على مستوى أساسي أكثر يتطلب اعتماد نهج غير تقليدي لحل الأزمة.
والملفت أن أزمة لبنان ليست اقتصادية أو مالية – فالوضع الاقتصادي والمالي يمثل تداعيات المشكلة الأساسية التي هي ذات طبيعة سياسية بشكل رئيسي، تتمثل بالطبقة السياسية عمومًا و”حزب الله” وسلاحه خصوصًا. ويمكن في نهاية المطاف حل الأزمة الاقتصادية من خلال اتخاذ مجموعة واضحة من الإصلاحات، حددها المجتمع الدولي عدة مرات، خلال اجتماعات باريس العديدة، فضلًا عن مؤسسات أخرى على غرار “صندوق النقد الدولي” و”البنك الدولي”. ولا تكمن المشكلة الحقيقية في غياب الإرادة لتطبيق هذه الإصلاحات بل في الإصرار على منعها.
هذا وكانت الاحتجاجات التي عمّت الشوارع في العام 2019 أدت إلى استقالة حكومة سعد الحريري، ومن ثم استقالت حكومة حسان دياب في 2020 بعد انفجار مرفأ بيروت، واليوم تواجه حكومة نجيب ميقاتي دعوات إلى الاستقالة على خلفية الأزمة الدبلوماسية الخليجية التي اندلعت مؤخرًا. لكن المشكلة الرئيسية لطالما كانت عجز هذه الحكومات جميعها عن تطبيق أي إصلاح أو التصرف كحكومة سيادية. وفي حين يأمل المجتمع الدولي أن تتمكن الحكومة المقبلة من المضي قدمًا بالإصلاحات، ولا سيما وسط تصاعد الضغوط الداخلية والخارجية، إلا أن المشكلة تكمن على صعيد آخر: سلاح “حزب الله” مصوّب نحو أي شخص يجرؤ على محاولة القيام بإصلاحات أو على المساءلة أو تحقيق السيادة.
ومنذ فوزه بأغلبية نيابية خلال انتخابات 2018، منح الحزب العسكري-السياسي المدعوم من إيران باستمرار الأولوية لمصالحه على مصالح الشعب اللبناني من خلال عدة ممارسات على غرار إنتاج المخدرات غير الشرعية، والتهريب والاتجار بالأشخاص لأغراض الاستغلال الجنسي – وبالطبع – بناء ترسانته العسكرية. فبالنسبة لـ”حزب الله” لا يزال الفساد من أبرز السياسات التي ينتهجها؛ حيث أنه يتيح له إضعاف مؤسسات الدولة وبناء الولاءات في المجتمعات اللبنانية لكتلته السياسية وطائفته وليس للدولة. فالحزب يفضل لبنان أشبه بالمجتمع الشيعي الذي سعى جاهدًا إلى عزله: لبنان يفتقر إلى التنوع والحرية والقوة. ومنذ احتجاجات 2019، لم يعد يحرص على إخفاء استراتيجيته – فالسلطة بيده ولن يدعها تفلت منه.
ومن الأمثلة البارزة على ضعف مؤسسات الدولة واستراتيجيات “حزب الله” بعد عام 2019 هي التحقيق في انفجار المرفأ الذي يتولاه القاضي طارق بيطار. فقد بدأت الأمور تسوء عندما دعا بيطار مسؤولين سياسيين وأمنيين للاستجواب وأصدر مذكرة توقيف بحق آخرين. ومنذ ذلك الحين، قاد “حزب الله” حملة سياسية ضد القاضي وحتى أنه أرسل مسؤوله الأمني الأعلى لتهديده. وعندما لم يتراجع بيطار عن موقفه، جرب “حزب الله” مقاربة أخرى: الصدامات في الشارع التي تجسدت في أحداث الطيونة في تشرين الأول/أكتوبر 2021، حيث لا يزال شبح الحرب الأهلية يخيّم.
غير أن قوة الحزب السياسية والعسكرية باتت مصحوبة بعدة تحديات. أولًا، خسر حليفاه الرئيسيان – “التيار الوطني الحر” و”حركة أمل” – جزءًا كبيرًا من الدعم الشعبي. فبحسب استطلاعات جرت في لبنان، لم يعد “التيار الوطني الحر”، الذي كان يتمتع بتأييد أكثر من 50 في المائة من الشارع المسيحي اللبناني، يحظى بدعم أكثر من 13 في المائة من المسيحيين اليوم. ومن دون حلفائه، لا يمكن لـ”حزب الله” الفوز بأغلبية في الانتخابات البرلمانية المقبلة – المزمع إجراؤها في آذار/مارس 2022. وسيحاول الحزب وحلفاؤه تأجيل أو إلغاء الانتخابات إن لم يتمكنوا من إبقاء الوضع على ما هو عليه، كما يمكنهم افتعال أحداث أمنية أو استغلال الأزمة الاقتصادية لتجنب إجراء الانتخابات.
ثانيًا، لم يعد “حزب الله” يتمتع بالدعم الأعمى والمطلق من المجتمع الشيعي. فغياب البديل السياسي بالنسبة للشيعة سيجعل سيطرته المستمرة ضمن الطائفة أسهل، لكن الشيعة وحدهم لا يستطيعون أن يحققوا له الأكثرية. والأهم، أن الحزب فقد جاذبيته كشخصية أبوية للشيعة. ففي الثمانينيات، قدّم الحزب نفسه بصورة الأب-المعيل-الحامي للمجتمع الشيعي وطلب ولاء الشيعة مقابل القوة والمكانة والخدمات. لكن هذه الصورة دمرتها الصعوبات المالية التي يواجهها الشيعة بسبب العقوبات الأمريكية على إيران، والغطاء الذي يوفره الحزب للفساد وانكشاف أنشطته غير الشرعية، ولا سيما التهريب وإنتاج المخدرات.
فقد علّق الحزب الخدمات الاجتماعية بسبب الصعوبات المالية وعدم امتلاكه للعملة الصعبة. ووحدهم القادة العسكريون والمقاتلون بدوام كامل يقبضون رواتبهم بالدولار الأمريكي – في حين يُطلب من الآخرين أن يتحلوا بالصبر. والحال أن الفجوة في أوساط الشيعة (أعضاء الحزب وغير الأعضاء فيه، والأعضاء العسكريون وغير العسكريين، و”حركة أمل” مقابل “حزب الله”) تتسع وتولد تحديات داخلية خطيرة.
ثالثًا، لم يعد لـ”المقاومة” وجود فعلي. فبالنسبة للحزب، أصبح التهديد باستخدام الصواريخ والقذائف أقوى الآن من الصواريخ والقذائف بحدّ ذاتها. وهو يدرك أنه في وقت لا تتمتع فيه إيرن بقدرات مالية كبيرة وتزداد فيه الهجمات الإسرائيلية على قواعده ومنشآته العسكرية في سوريا، سيكون من الصعب للغاية استبدال الأسلحة التي بحوزته. فبعد سنوات من الانتشار في المنطقة والخسائر الفادحة في صفوف مقاتليه وأفراده العسكريين، أصبح يفتقر الآن إلى قوة مقاتلة قوية ومنظمة، علمًا بأن إعادة بنائها ستستغرق سنوات.
كذلك، يدرك الحزب أن الحرب القادمة مع إسرائيل لن تؤدي إلى “النصر الإلهي” الذي حققه عام 2006، ولن تليها عملية إعادة إعمار فورية. لكن الأهم، أنه يدرك أن لبنان وشعبه وبالأخص المجتمع الشيعي لن يسامحوه قط إن جرّهم إلى حرب أخرى مع إسرائيل.
ولهذا السبب دائمًا ما يلجأ أمين عام “حزب الله” حسن نصرالله إلى التهديد بالحرب لكنه لن يجازف بها. فإعلانه مؤخرًا أنه يملك مئة ألف مقاتل، ورغم أنه رقم مبالغ فيه بوضوح، يُعتبر عمومًا رسالة سياسية إلى أعدائه الداخليين والخارجيين – وهو تهديد بالحرب وليس احتمالًا حقيقيًا.
وبالتالي، فإن حركة لبنان مشلولة وسط هذه التحديات التي تواجه الحزب الذي لن يسمح بإجراء أي إصلاحات أو انتخابات أو إعادة هيكلة مالية ما لم يتجاوز الحزب المدعوم من إيران تحدياته الخاصة ويجد وسيلة لحماية نفوذه والحفاظ على الوضع القائم. وهذا يعني أن التركيز على الإصلاحات في هذه المرحلة من دون التعامل مع العوامل السياسية التي تقف في طريقها هو مضيعة للوقت.
هذا ويمتلك المجتمع الدولي أدوات لتحقيق أهداف قصيرة وطويلة المدى في لبنان، أبعد من مقاربة المساعدة الإنسانية، التي تُعتبر حيوية لكنها لن تحل جذور المشكلة. وإذا كان الاستقرار والأمن من أهداف السياسة فعلًا في لبنان، عندها يمكن للولايات المتحدة استخدام ميزة المساعدة (الأمنية والإنسانية) للضغط على الطبقة السياسية.
أولًا، يمكن السعي نحو توفير مراقبة دولية شديدة للانتخابات، ولكن الأهم الحرص على إجراء الانتخابات في وقتها وفي ظل بيئة آمنة. فقد أثارت الانتخابات العراقية التي جرت في الآونة الأخيرة بعض القلق في بيروت وتخشى العديد من الأحزاب السياسية من النتيجة؛ حيث إن الكثير من اللبنانيين يرغبون في التصويت للتغيير وثمة للمرة الأولى بديل فعلي مطروح. إنها فرصة لا يجب تفويتها ولكن يجب حمايتها.
ثانيًا، لا بدّ من الحفاظ على المجال المحدود المتبقي من المساءلة من خلال حماية القاضي بيطار ومساعدته في تحقيقاته حول انفجار مرفأ بيروت. ومن شأن ذلك أن يعزز أيضًا قسمًا مستقلًا نسبيًا من الجسم القضائي ومجالًا صغيرًا من المساءلة ضمن إحدى مؤسسات الدولة التي يمكنها المساعدة على تقليص خطر العنف وحماية المرشحين المستقلين ودعم مؤسسات أخرى تواجه صعوبات، ولا سيما قبل الانتخابات.
ثالثًا، يجب الاستفادة من العقوبات لاستهداف شخصيات فاسدة، فضلًا عن الشخصيات التي تعيق الإصلاحات ومسار التغيير. ففي تشرين الأول/أكتوبر، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على رجليْ الأعمال جهاد العرب وداني خوري، المقربين من رئيس الوزراء السابق سعد الحريري ورئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل على التوالي، بتهم فساد مرتبطة بعقود مع الدولة. كذلك، فُرضت عقوبات على النائب جميل السيد بسبب سعيه إلى “الالتفاف على السياسات والأنظمة المصرفية المحلية” وتحويل 120 مليون دولار إلى الخارج، “وذلك لإثراء نفسه وشركائه”، وفق وزارة الخزانة.
وقد رحّب الشعب اللبناني بشكل خاص بهذه العقوبات لاستهدافها الفساد على نطاق واسع. غير أنه لا بدّ من فرض المزيد من العقوبات المماثلة قبل الانتخابات، لتكون بمثابة رسالة جيدة للشعب وتحذير من أعمال العنف على السواء. فضلًا عن ذلك، وفي ظل فرض الأوروبيين أخيرًا إطارًا للعقوبات خاصًا بلبنان، سيكون من المفيد أن تتعاون الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وتفرض المزيد من العقوبات المرتبطة بالفساد بالتزامن. فإذا انضم الاتحاد الأوروبي إلى هذه الحملة، ستصبح من دون شك أكثر فعالية.
رابعًا، تُعتبر المساعدة الأمنية الأمريكية المقدمة إلى الجيش اللبناني حيوية، ولكنها الميزة الفعلية الوحيدة للولايات المتحدة في لبنان. وصحيح أنه من الصعب فرض شروط على هذه المساعدة في هذه المرحلة، ولا سيما في وقت تواجه فيه المؤسسة العسكرية تحدياتها المالية الخاصة وترزح تحت وطأة ضغوط سياسية، إلا أنه من المهم ألا تستفيد عناصر محددة ضمن هذه المؤسسة من المساعدة، وبخاصة المحكمة العسكرية المسؤولة عن محاكمة صحفيين وناشطين وإعاقة العدالة والمساءلة.
وعلى المدى الطويل، لا بدّ من وضع سياسة خاصة بلبنان لاحتواء “حزب الله” وترسيخ الأمن في زمان ومكان يشهدان تقلبات كبيرة. ويتطلب هذا الأمر أكثر من مجرد مساعدة إنسانية وعقوبات. فتستلزم سياسة طويلة الأمد تغييرات جدية في الأدوات التقليدية المتاحة تعكس التغييرات الأساسية في المشهد السياسي في لبنان ومواقف وطموحات الشعب اللبناني المتغيرة، ولا سيما في أوساط المجتمع الشيعي.
وحتى إن استمرت واشنطن في محاولة التفاوض للتوصل إلى اتفاق نووي جديد مع طهران، تمثل نقاط ضعف “حزب الله” الحالية فرصة استراتيجية لتغيير ميزان القوة في لبنان وتعزيز التنوع السياسي. فالحزب يفقد سلطته وشرعيته بسبب العقوبات الأمريكية واتساع رقعة الاحتجاجات السياسية المحلية. كما يخسر قيمة خطاب المقاومة بسبب عدم قدرته على الردّ على الهجمات الإسرائيلية. ويخسر أيضًا دعم القسم الأكبر من شيعة لبنان الذين يخضعون له حاليًا بسبب الخوف وحسب وليس انطلاقًا من إيمانهم الفعلي بالحزب ومعتقداته. إن الأزمة اللبنانية والتحديات التي يواجهها الحزب مرتبطة ببعضها البعض، وتقدم كلتاهما فرصًا للتغيير.
معهد واشنطن