أثبت العالِم العراقي، علي الوردي، أن شخصية الإنسان ليست من صنعه، وإنما هي وليدة عاملين اثنين، الوراثة والبيئة التي ينشأ فيها.
ومن هنا الخوف على العراق القادم الذي سيقوده أطفالُ اليوم الذين صنعت الحروب والحِصارات والحكومات اللاهية العابثة الفاسدة الفاشلة شخصياتِ الكثيرين منهم، أمس، وتصنعها، اليوم.
خذوها مني. لم يعد واقعياً من يتفاءل بأن يَخرج من أطفال اليوم علي ورديٌّ آخر أو معروف رصافي أو جواهري أو سياب أو جعفر أبوتمن أو جواد سليم أو محمد غني حكمت أو عزيز علي أو قبانجي أو زُها حديد أو فاضل جمالي أو عبدالرحمن بزاز أو طه باقر أو أحمد سوسة أو مصطفى جواد في المئوية الثانية من عمر العراق.
فقد أوصت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 1954 بأن تخصص الحكومات يوماً عالميا للطفل، وأن تجعله يوما للتآخي والتفاهم على النطاق العالمي بين الأطفال، والعمل من أجل تعزيز رفاه أطفال العالم.
وقد عبّرت مديرة مكتب رعاية الطفولة في العراق عن استغرابها من عدم تشريع قانوني يمنع العنف الأسري ويحمي الطفل العراقي. وبينت أن أكثر المناطق عنفاً ضد الطفل هي العاصمة بغداد، وذلك بسبب النزوح واختلاط الثقافات، خصوصا في المناطق الفقيرة.
وقد حاولت منظمات دولية عديدة مساعدة العراق وحثه على تشريع قوانين تهدف إلى حماية الطفولة دون جدوى.
وقد تعرضت مسودة قانون العنف الأسري التي وافق عليها مجلس الوزراء في أغسطس 2020 وتم رفضها من قبل الأحزاب الدينية الشيعية التي اعتبرته “خطراً” على المجتمع العراقي.
وقليلون منا ينكرون أن العراق، في ظل الملكية، كان الأكثر احتراما لحقوق الطفل بين دول المنطقة.
واستعرضوا معي طوابير العباقرة العراقيين من الأدباء والمفكرين والشعراء والعلماء والفنانين التشكيليين والنحاتين والمخترعين ورجال المال والاقتصاد والقانون والصناعة والزراعة الذين ظهروا في الأربعينات والخمسينات.
وذلك حين كانت سماء الوطن صافية نقية خالصة من العصبيات والخرافات والمشاكسات القومية والدينية والطائفية، وحين كان العراقيون، جميعُهم، “عراقيين أولا”، قبل أن يكونوا شيعة أو سنة، عربا أو كردا أو تركمانا أو صابئة، مسلمين أو مسيحيين.
ماذا ينتظر المتفائلون من طفل فتح عينيه على مسلحين يداهمون منزله ويأخذون أباه أو أمه أو أخاه أو أخته، ويغادرون ولا يعود يعرف عنهم شيئا؟
وحين لم يكن الحكم “مغتَصَبا” من طائفة دون أخرى، أو دين دون آخر، أو حزب دون حزب. وكما لم يكن وزراؤه ونوابُه وقُضاته ومدراءُ مؤسساته وسفراؤه جهلةً وعنصريين وطائفيين ومختلسين ومزوري شهادات ومهربين وأصحاب ميليشيات.
كان مجلس الخدمة العامة اختراعا عبقريا حفِظ للناس كراماتِهم وحقوقهم، إلى حد كبير، في الوظائف والرواتب، وجَعَل الشهادة والخبرة والكفاءة، وحدها، مقاييسه الثابتة في التوظيف والصرف من الخدمة، ولم يكن حتى رئيس الوزراء يجرؤ على تجاوز أحكامها الثابتة.
كان الفساد المالي في أدنى مستوياته، ومن يَثبت عليه قبول رشوة ولو بدينار يعاقب أشد عقاب.
وكان العراقي حين يسمع بحادثة قتل، نادرا، يظل يتناقل خبرها أشهرا عديدة. لم يكن العراقيون يعرفون المخدرات، من أيّ نوع، رغم أن شعوبا كثيرة حولهم، إيران ومصر مثلا، كانت تغرق في أهوالها المدمرة.
وكان جواز السفر العراقي محترما ومُهابا أينما حل حامله وارتحل. وكانت الشهادات الدراسية العراقية مُعتَرفا بها في أرقى جامعات الدنيا الواسعة.
نعم. في تلك الظروف والسياسات العاقلة العادلة نشأ الطفل الذي تحوَّل، بعد جيلين أو ثلاثة، إلى رجل سياسة أو ثقافة أو علم أو آداب أو فنون من الطراز الأول، يتغنى العراقيون بأمجاده وأفكاره وأخباره، جيلا بعد جيل.
أما في زمن الفوضى الحالي، زمن التقاتل والاستقواء بالأجنبي، فما زال هناك عراقيون متفائلون بالأجيال القادمة، إلا واحداً، هو أنا المسكونُ بالرعب من الغد القادم المخيف.
فماذا ينتظر المتفائلون من طفل فتح عينيه على مسلحين يداهمون منزله ويأخذون أباه أو أمه أو أخاه أو أخته، ويغادرون ولا يعود يعرف عنهم شيئا؟
وماذا عن الذي نشأ وترعرع في خيم المُهجّرين، أو في البراري القاحلة، أو البحار الباردة، فلم يعرف سوى الخوف والعوز والجوع؟
وماذا عن الطفل الذي ولد وترعرع في أحضان داعش وماعش فأتقن فن الذبح بالخنجر والسكين؟
وماذا عن الطفل الشيعي الذي علموه أن يكره السني، وعن الطفل السني الذي أرضعوه الكراهية والحقد وطلب الثأر من الشيعي؟
ثم ماذا عن الألوف من الشباب اليافعين الذين يحملون المدافع والقنابل والمسدسات، ويعملون حرّاسا ومرافقين وفدائيين في مواكب نوري المالكي وعمار الحكيم وقيس الخزعلي ومقتدى الصدر وهادي العامري وخميس الخنجر ومحمد الحلبوسي وأحمد الجبوري أبو مازن ومشعان؟
إن الذين يولدون، اليوم، في أواخر العام 2021، سيأتي منهم، بعد ثلاثين أو أربعين عاما رئيسُ الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء والمدراء والسفراء ورؤساء الجامعات والمدرّسون والقضاة والقادة العسكريون والأمنيّون.
وتخيلوا شكل الدولة العراقية القادمة التي لن تكون إلا أسوا مما هي عليه اليوم، بمئات المرات.
وخلاصة القول، أخيرا، هي أن عراق الغد لن يتعافى ولن يستعيد حياته الآمنة الرائقة المترفة المبدعة إلا بأن يفيق الشعب العراقي، كلُه، ويدرك خطورة المسألة، فينتفض بوجه الحكومة والبرلمان وشلل النصابين والمهربين والمختلسين، ويجعل جهادَه من أجل صناعة طفل عراقي سليم ومعافى هو جهاده الأكبر من كل انشغالاته بلقاءات الشيعة والسنة والكرد، وتفاهماتهم، وصراعاتهم على تشكيل حكومة لن تكون إلا بائرةً لا تلد ولا تولد، والعياذ بالله.
العرب