الولايات المتحدة أرسلت إشارات متناقضة وضبابية بشأن السودان، ما اعتبر دعما للانقلاب الذي قادته المؤسسة العسكرية، وهو ما هز من صورة إدارة جو بايدن كقوة داعمة للديمقراطية. والآن تحاول هذه الإدارة إظهار ميلها إلى المدنيين وممارسة ضغوط على الانقلاب، لكن الأمر لا يؤخذ على مأخذ الجدّ حتى من داخل المدنيين.
يبدو أن الإدارة الأميركية تعلمت من درس الانقلاب العسكري في السودان بعد أن جاء رد فعلها رماديا عليه، والذي شجع قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان على عدم الاستجابة مبكرا للتراجع عن إجراءاته بحق القوى المدنية.
بدأت عملية الاستدارة تتوالى من قبل واشنطن وتصبح أكثر حسما باتجاه دعم المدنيين، وصرامة مع العسكريين، ما يعني أن الأيام المقبلة ستشهد تحولات واضحة في التعامل الأميركي مع السودان، لأن المنطق الرمادي أثر سلبا على خطاب إدارة جو بايدن في مجال دعم الديمقراطية الدائم.
دعا وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في بيان صحافي الجمعة، السلطات السودانية إلى رفع حالة الطوارئ في البلاد، مشيرا إلى أن بلاده تتضامن مع دعوات الآلاف من المتظاهرين في الشوارع، مطالبا بأن تكون المؤسسات الانتقالية تحت قيادة مدنية.
وتنظم القوى المدنية في السودان مظاهرات حاشدة الأحد بمناسبة الذكرى الثالثة لانطلاق الانتفاضة على نظام الرئيس السابق عمر حسن البشير، التي أدت إلى إزاحته بعد حوالي أربعة أشهر من احتجاجات مستمرة أيدها قادة كبار في الجيش السوداني.
اختار بلينكن هذه المناسبة ليؤكد عدم تخلي الإدارة الأميركية عن دعم المتظاهرين، وأنها لن تتوقف عن دعم المدنيين في استلام السلطة وفقا لتوقيتاتها المعلنة، ولن تكلّ عن توفير الضمانات الكافية لتحول السودان إلى دولة ديمقراطية، وتحويلها إلى نموذج في منطقة تعج بصراعات وأنظمة قمعية، والتشديد على الرسالة المركزية للولايات المتحدة في دعم الحكومات المدنية.
عززت واشنطن هذا التوجه بإصدار بيان رباعي الخميس الماضي وقعت عليه بريطانيا والسعودية والإمارات بجانب الولايات المتحدة، خاص بالسودان ودعم الحكم المدني فيه، يضاف إلى بيان أول صدر في أوائل نوفمبر الماضي، أي بعد أيام قليلة من حدوث الانقلاب العسكري في الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي والذي لم يرق للدول الأربع، وفهم قادة الجيش السوداني أن إصرارهم على عدم التراجع سوف يؤدي إلى المزيد من الضغوط الواقعة على المؤسسة العسكرية.
وكما كان البيان الرباعي الأول نقطة تحول في التراجع عن الانقلاب يمكن أن يكون البيان الثاني مفصليا في تأكيد أن المجتمع الدولي لن يقبل بالتفافات سياسية بديلة عن الانقلاب العسكري، في ما يتعلق بتعهدات الجيش حول تسهيل مهمة الحكومة الجديدة التي يقودها عبدالله حمدوك، والتي لم تتشكل حتى الآن، على الرغم من مضي نحو شهر على اتفاقه السياسي مع البرهان، وهو ما يزعج الإدارة الأميركية.
ترى واشنطن أن عدم استخدامها المزيد من الخشونة السياسية والاقتصادية مع عسكريي السودان بعد انقلابهم في أكتوبر الماضي كاد أن يكبد الإدارة الأميركية خسائر باهظة في توجهها المحوري حيال دعم الديمقراطية، فقد كشف موقفها من الانقلاب عن حذر وتردد كبيرين بما لا يتناسب مع خطابها العام الذي تتبناه.
أثرت الرمادية الظاهرة في التعامل الأميركي على صورتها، وفسرت على أنها تمثل دعما لعسكريي السودان وتخليا عن القوى المدنية، والأخطر أن قادة الجيش فهموها رسالة تأييد للتمادي في إجراءاتهم الإقصائية، لأن توقيت الانقلاب لعب دورا مهما، حيث جاء بعد ساعات قليلة من زيارة قام بها إلى الخرطوم المبعوث الأميركي للقرن الأفريقي جيفري فيلتمان واجتماعه مع البرهان.
وقتها خسرت الإدارة الأميركية جولة كان من المفترض أن تكسبها وتظهر من خلالها قدرتها على الضبط والربط بالطريقة التي تتسق مع خطابها في دعم القوى المدنية، ولا تريد الآن أن تتكبد خسارة جديدة في الجولة الثانية التي تبدأ الأحد، وهي الرسالة التي حملها بيان بلينكن الجمعة، الذي يعني أن تصرفات الجيش السوداني ستكون تحت الأضواء الأميركية، بما يدفع المتظاهرين إلى التدفق بغزارة في الشارع.
وعندما عدلت واشنطن موقفها في الجولة الأولى لجهة دعم القوى المدنية لم تكسبها، لكن بموجبها بدأ الجيش يضبط بوصلته لتجنب الصدام معها، وتعويله على المناورة بورقة روسيا لم يجلب له مكاسب حقيقية وقتها، بل دفع الولايات المتحدة إلى التكشير عن أنيابها حاليا، وتأكدت أن مراعاة الحالة السودانية المضطربة التي دفعتها إلى عدم ممارسة ضغط كبير على الجيش قد يدفع بالأخير إلى خانة بعيدة تتناقض مع حساباتها.
يأتي التحول في الموقف الأميركي من المؤسسة العسكرية في السودان من مجموعة محددات أسهمت بدور كبير في تغيير الآلية التي لجأت إليها واشنطن في البداية، أبرزها ردود الفعل السلبية على موقفها المتراخي من الانقلاب الذي أوحى بوجود انفصام بين خطابها في دعم الديمقراطية في العالم ومصالحها في السودان، ما أحبط القوى المدنية وعدم ثقتها في إدارة بايدن، إذ بدت كأنها بطة عرجاء في جزء أساسي في هوية الحزب الديمقراطي الحاكم.
في ظل الخسائر التي منيت بها واشنطن في منطقة الشرق الأوسط وجدت أن خسارة ورقتها الناعمة المتعلقة بدعم القوى المدنية سوف تكون مكلفة إذا تكرر الإخفاق، وتصبح غير قادرة على التدخل العسكري وفاشلة في ترتيباتها السياسية، ما يفقدها ما راكمته من سياسات وتصرفات في المنطقة، وتذهب حصيلتها إلى منافسيها.
وقوبلت الإدارة الأميركية خلال الفترة الماضية بردود فعل سلبية عديدة في الداخل، أجبرتها على تعديل منهجها في التعامل مع السودان، وهو ما جعلها مرتاحة لمشروع الكونغرس الأخير بشأن فرض عقوبات فردية على المتسببين في عرقلة المسار السياسي في السودان.
تسبب تساهل الإدارة الأميركية النسبي مع قادة الانقلاب بالسودان في توصيل إشارات بأنها لن تمانع أي خطوات مماثلة في دول المنطقة، الأمر الذي يمنح الراغبين في القيام بانقلاب علامة إيجابية لتنفيذ مخططاتهم، كما يوصل إلى الأنظمة الدكتاتورية رسالة أمان والمضي قدما في إجراءاتهم التعسفية في مجال الحريات وحقوق الإنسان.
بدت النتائج التي أفرزتها الانطباعات حول وجود تقاعس أميركي في التعامل مع انقلابيي السودان خطيرة، من زاوية الارتدادات التي تنطوي عليها، فخسارة هذا البلد تتجاوز حدود النموذج الديمقراطي إلى منح صك لروسيا والصين للتحرك في مجال دعم الأنظمة التي تحقق لهما مصالحهما أو جزءا منها.
ولعل استغلال الخارجية الأميركية لمظاهرات الأحد في السودان كمناسبة تعزز بها دعمها للقوى المدنية والفوز بهذه الجولة يؤكد أنها لن تتوقف عن دعم المتظاهرين السلميين، أملا في تصحيح ما وقعت فيه من ارتباكات سابقة، وإعادة الثقة فيها من قبل القوى المدنية التي واصلت طريقها، على الرغم من أن الضغوط الخارجية، وفي مقدمتها الأميركية، لم تكن على المستوى المطلوب، أو أقل من الطموحات.
يشير تصميم القوى المدنية على تحدي المؤسسة العسكرية في السودان والصمود في مواجهة الإجراءات القاسية التي اتخذت إلى أن حماسها لم يفتر، وأهدافها لم تتأثر، والحرص على الوصول إلى حكم مدني لن يكون بعيد المنال، ما يفرض على واشنطن عدم التفريط في فرصة قد تعيد إليها الاعتبار وتنهي اللغط حول تفسير موقفها السابق.
العرب