إن اضطرابات سلسلة التوريد ونقص العمالة وارتفاع أسعار النفط أدت إلى ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة إلى أعلى مستوياتها خلال 39 عاما، ولكن الاهتمام يتركز حاليا على توقعات الناس بشأن ما إذا كانت أزمة التضخم مستمرة أم مؤقتة.
وفي تقرير نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” (Wall Street Journal) الأميركية، قال الكاتبان نيك تيميراوس وغوين غيلفورد إن توقعات الناس بشأن التضخم يمكن أن تلعب دورا حاسما في تحديد كيفية إدارة الاحتياطي الفدرالي الأميركي لهذه الأزمة ومدى قدرته على رفع أسعار الفائدة.
في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أفاد 7% من المشاركين في الدراسة الاستقصائية التي أجرتها مؤسسة “غالوب” (Gallup) بأن التضخم كان يشكل أكبر مشكلة تواجهها البلاد، ويحتل التضخم الآن مكانة بارزة في النزاعات العمالية.
ووفقا لمسح أجرته جامعة ميشيغان، يتوقع المستهلكون ارتفاع الأسعار بمعدل سنوي قدره 4.9% خلال العام المقبل 2022، وهو أعلى مستوى مسجل منذ 2008.
وأثارت معدلات التضخم المرتفعة هذا العام جدلا في صفوف الخبراء الاقتصاديين حول كيفية قياس توقعات التضخم، ويجادل الكثيرون بأن التوقعات طويلة الأجل أكثر تنبؤا بالسلوك مقارنة بالتوقعات السنوية التي تتأثر بشدة بالأسعار الحالية، مثل سعر الوقود.
ويقول الخبراء إن الأدلة مطمئنة أكثر، فقد كانت توقعات التضخم في ديسمبر/ كانون الأول الجاري حول الأعوام الخمس المقبلة في حدود 3%، وذلك وفقا لاستطلاع أجرته جامعة ميشيغان.
وأشار الكاتبان إلى مقياس آخر للتوقعات وهو “معدل التضخم المتعادل” الذي يتمثل في الفرق بين العائد على سندات الخزانة العادية والسندات المرتبطة بمؤشرات التضخم، أي معدل التضخم الذي يتوقعه مستثمرو السندات.
وقد شهد معدل التعادل للأعوام الخمس المقبلة ارتفاعا بنسبة 3.17% في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، في حين كان في حدود 2.35% للأعوام الخمس التالية، مما يشير إلى أن المستثمرين يتوقعون عودة التضخم إلى مستويات ما قبل الوباء.
عهد جديد
يفترض الاحتياطي الفدرالي والعديد من المتنبئين من القطاع الخاص أن يعدل المستهلكون توقعاتهم تدريجيا وبثبات، مما يعني أنه سيكون لديهم ما يكفي من العلامات التحذيرية المبكرة قبل أن تصبح توقعات التضخم غير مستقرة بشكل خطير.
كان الخبير الاقتصادي في جامعة هارفارد ووزير الخزانة الأميركي السابق لورانس سامرز من بين الذين حذروا من أننا على وشك دخول حقبة جديدة من معدلات التضخم المرتفعة، وقال إن الطبيعة الثنائية المحتملة لتوقعات التضخم من العوامل التي تثير قلقه.
ووفق كارولا بيندر أستاذة الاقتصاد في كلية هافرفورد، فإن الأبحاث تظهر أن الناس يميلون إلى تجاهل التضخم عندما يكون منخفضا، ولكنهم يبدؤون في إيلائه المزيد من الاهتمام عندما يرتفع بشكل كبير، وربما كانت معدلات التضخم المنخفضة غير المعتادة والمستقرة خلال العقود الثلاثة الماضية من الأسباب التي تصعّب معرفة مدى ثبات التوقعات على أرض الواقع.
وأضافت كارولا بيندر أن ارتفاع معدلات التضخم بشكل ملحوظ يمثل اختبارا، لذلك، إذا انخفضت معدلات التضخم مرة أخرى، هل ستتراجع التوقعات وستظل مستقرة كما كانت من قبل، أم أن هذه التجربة ستخلف تأثيرا؟
وذكر الكاتبان أن هناك دليلا على إمكانية تطوير نوع من حساسية التضخم، فعلى سبيل المثال، أعلنت شركة “دولار تري” (Dollar Tree) هذا الخريف عن خطط لرفع أسعار منتجاتها إلى 1.25 دولار، علما أنها كانت لأكثر من 30 عاما تباع مقابل دولار واحد.
وتوصلت دراسة استقصائية أجرتها هذه الشركة إلى أن 77% من المتسوقين كانوا على دراية فورية بالتغيرات التي طرأت على الأسعار، وأشار 91% من المشاركين إلى أنهم سيستمرون في شراء منتجات الشركة رغم ارتفاع الأسعار.
وأضاف الكاتبان أن سوق العمل سيكون حاسما لمراقبة الإشارات التي تدل على أن العمال يتفاعلون مع التضخم من خلال كسب أجور أعلى، وفي ظل ارتفاع الطلب على اليد العاملة هذا العام، ارتفعت الأجور في الوظائف متدنية الأجر في البداية بشكل كبير، ثم شمل ذلك كل الوظائف.
النظرية الاقتصادية
حتى الستينيات، كان الخبراء الاقتصاديون ومحافظو البنوك المركزية يعتقدون أن التضخم يتأثر بالركود الاقتصادي، فعندما تكون معدلات البطالة مرتفعة، يتراجع التضخم، وعندما تكون منخفضة، يرتفع التضخم، وهي علاقة يطلق عليها اسم “منحنى فيليبس”.
ويمكن أن يؤدي التحفيز المالي إلى دفع معدلات البطالة إلى ما دون “المعدل الطبيعي”، ولكن بشكل مؤقت فقط، وبمجرد إدراك الناس للتضخم المرتفع الناتج عن ذلك، فإنهم يُعدلون توقعاتهم ويطالبون بزيادة في الأجور، مما يؤدي إلى ارتفاع معدل البطالة.
افترض روبرت لوكاس -الذي حاز فيما بعد على جائزة نوبل في الاقتصاد- أن العديد من العوامل تسهم في تشكيل التوقعات حول التضخم، مثل التخمينات حول التغيرات الاقتصادية والسياسية المستقبلية، وهذا الإصلاح الشامل للاقتصاد الكلي الذي ينطوي عليه التضخم، يحدده بالكامل تقريبا ما يتوقعه الجمهور بمرور الوقت، ويمكن للمشرعين التأثير على ارتفاع الأسعار من خلال تشكيل تلك التوقعات، مثل الإعلان عن هدف للتضخم.
ويبدو أن العقود التالية أثبتت صحة هذه النظرية الاقتصادية، فمن أجل كبح التضخم، تسبب بول فولكر رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي في ركود اقتصادي عميق في أوائل الثمانينيات، وبحلول منتصف التسعينيات، انخفض معدل التضخم الأساسي إلى حوالي 2%، ثم بقي يتذبذب في هذا النطاق رغم فترات الركود والازدهار والأزمة المالية والارتفاعات الحادة في أسعار النفط. ومن أجل تعزيز ثبات التوقعات، وضع الاحتياطي الفدرالي في عام 2012 هدفا رسميا للتضخم بنسبة 2%.
اكتسب هذا التاريخ أهمية أكبر منذ أن قام الاحتياطي الفدرالي بإصلاح إطار سياسته النقدية لرفع أهمية توقعات التضخم ودورها في وضع السياسة، وقد غير الاحتياطي الفدرالي إطار عمله جزئيا لأنه ثبت أن تحديد المعدل الطبيعي للبطالة أمر صعب للغاية وتسبب في وقوع أخطاء، مثل رفع المعدلات كثيرا بين عام 2017 و2018.
في المقابل، يصعب تحديد توقعات التضخم مما يثير خطرين كبيرين:
أولا، أن الاحتياطي الفدرالي محق في أن التضخم المرتفع سينحسر تلقائيا، ولكنه يرفع أسعار الفائدة بحدة على أي حال، مما يؤدي إلى تباطؤ الاقتصاد لتفادي تهديد غير موجود.
ثانيا، كان الاحتياطي الفدرالي شديد التفاؤل بشأن انخفاض الأسعار تلقائيا، وأخفق في المقابل في إدراك مدى ارتفاع التوقعات، مما أطلق العنان لدوامة ارتفاع الأجور والأسعار، في هذه الحالة، سيحاول الاحتياطي الفدرالي السيطرة على الوضع لكن بعد فوات الأوان من خلال التسبب في ركود من أجل خفض التضخم.
ويأمل الاحتياطي الفدرالي إنهاء برنامج التحفيز لشراء السندات بحلول مارس/آذار المقبل، مما يمنحه المرونة لرفع أسعار الفائدة عدة مرات في العام المقبل بينما ينتظر أدلة على مدى سرعة تراجع أسعار السلع.
المصدر : وول ستريت جورنال