لم يلب الدستور العراقي الذي صوّت عليه العراقيون في استفتاء شعبي عام 2005 الطموحات وكثيراً من المتغيرات التي كان يطمح إليها المواطن بعد المرحلة الانتقالية التي عاشها العراق إثر سقوط النظام السابق في 2003، بل ازداد وضع المواطن والبلد من سيئ إلى أسوأ نتيجة الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية وغيرها التي عصفت ببلاد الرافدين خلال السنوات الـ 18 الماضية، وحتى خروج تظاهرات شعبية غاضبة في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، كان من بين أبرز مطالبها تعديل الدستور.
وعلى الرغم من وجود دعوات سياسية وشعبية إلى تعديل الدستور الذي أنجز مهمته خلال المرحلة الانتقالية وتشريع قوانين تواكب مرحلة ما بعد الانتقالية، إلا أن تلك الدعوات أصبحت اليوم أسيرة الوضع السياسي المتأزم في البلد.
ثورة تشريعات لمواكبة تطورات العصر
وذكر الرئيس العراقي برهم صالح أن أحد أكبر تحديات الحكم الرشيد هي الخلل البنيوي في منظومة الحكم بعد العام 2003، فهي لا تفي بمتطلبات العراقيين، ولا جدال في حاجتها إلى إصلاح حقيقي وجذري، وما تحقق بعد عام 2003 لا يمكن الاستخفاف به، إذ تعاقبت ست حكومات وخمسة مجالس نيابية بشكل سلمي، وتابع أن “ترسيخ الحكم الرشيد يبدأ باستعادة ثقة الشعب في النظام السياسي، وإنهاء التجاوز على الدولة وإضعافها واختراقها وانتهاك سيادتها”، كما أن المرحلة المقبلة يجب أن تعمل على تعديلات دستورية لبنود أثبتت الممارسة السياسية مسؤوليتها عن أزمات مُستحكمة تقف عائقاً أمام تطور العملية السياسية، ولا بد من ثورة تشريعات بما يحفظ الثوابت ويضعنا مواكبين لتطورات العصر، فالتحولات الكبرى التي شهدها البلد بقيت أسيرة منظومة قانونية لم تواكب التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مثل قانون العقوبات، وفقاً للرئيس العراقي.
وفي وقت سابق، أعلن مستشار الرئيس العراقي إسماعيل الحديدي إنجاز المقترحات المتعلقة بتعديل الدستور، وذكر في تصريح صحافي أنه تم اختيار لجنة التعديلات الدستورية من شخصيات قانونية ودستورية معنية بالشأن العراقي ومن الأطراف كافة، وأن المحافظات أسهمت في عملية اقتراح التعديلات الدستورية، مشيراً إلى أن هذه اللجنة تم تشكيلها في رئاسة الجمهورية، وبين أن اللجنة استكملت المقترحات وعملت على المواد الخلافية وقدمت المقترحات التي تم تثبيتها برئاسة الجمهورية، وأشار إلى أن هناك لجاناً أخرى في رئاسة الوزراء معنية بالأمر ذاته.
تعديل الدستور لا مجال لذكره في الوقت الحالي
بدوره، رأى الخبير القانوني طارق حرب أن “تعديل الدستور لا مجال لذكره خلال الوقت الحالي لأن مجلس النواب الحالي انتهى، والبرلمان الجديد كما هو معلوم سيكون منشغلاً بأمور أهم”، وتابع أن “من الممكن مناقشة التعديلات على الدستور في السنة الثانية من عمر البرلمان، فضلاً عن أن التشكيلة البرلمانية الجديدة تختلف كلياً عمّا هو موجود سابقاً وتحتاج إلى وقت طويل للوصول إلى أمر جامع لكل الأطراف”، وأشار إلى أن “من يتولى التعديل على الدستور لجنة برلمانية من أعضاء مجلس النواب ذلك”.
الدستور العراقي من الدساتير الجامدة
من جهته، عد الخبير القانوني ماجد مجباس الدستور العراقي “من الدساتير الجامدة، وليس من الدساتير المرنة التي يمكن إجراء التعديل عليها، وأن الدساتير الجامدة لا يمكن تعديلها بالطريقة ذاتها التي تعدل فيها القوانين، وإنما تشترط شروطاً خاصة”، وأضاف مجباس في تصريح صحافي أن “المواد الانتقالية التي نص عليها الدستور العراقي هي مسألة إناطة العمل بتعديل المواد الدستورية والتي نلاحظ أن هذه المدد الانتقالية قد انتهت، وهي تشترط الأغلبية المطلقة من مجلس النواب، وعرض الموضوع على الاستفتاء الشعبي، وتعتبر التعديلات مجازة في ما لو لم ترفض من قبل ثلثي سكان ثلاث محافظات في العراق”، وبيّن أن “هذه المواد الانتقالية بصراحة انتهت كونها كانت محددة بزمن معين، ولكن المادة 126 من الدستور العراقي نصت على إمكان أن لرئيس الجمهورية ومجلس الوزراء مجتمعين أو لخمس أعضاء مجلس النواب اقتراح تعديل الدستور، مجرد اقتراح”، مؤكداً أن “التعديل صعب جداً في دستور العراق كونه جامداً”.
نصوص عامة مبهمة لا يمكن تطبيقها أو تفسيرها
وفي السياق، قال الباحث السياسي صالح لفتة إنه “بعد إقرار الدستور العراقي الجديد في 2005 تضمنت معظم مواده نصوصاً عامة مبهمة لا يمكن تطبيقها أو تفسيرها إلا بتشريع قوانين من قبل مجلس النواب لتنظيم جوانب الحياة كافة، وقوانين اقتصادية تواكب التطور في حركة الأسواق والتجارة العالمية وتنويع السياسية الاقتصادية للدولة وتنظيم الواردات، وقوانين تنظم العلاقة بين المركز والأقاليم والمحافظات ونوعية تلك العلاقة، وتداخل الصلاحيات بحاجة إلى قوانين تنظم عمل الأجهزة الأمنية وصلاحياتها والقرارات العسكرية، والعلاقة بين القوات الاتحادية وحرس الإقليم، ومستوى التسلح بحاجة إلى قوانين تنظم تقاسم الثروات الطبيعية بين السكان وقوانين لإدارة الدولة وخصوصاً قانون النفط والغاز”.
لكن الحقيقة أن مجلس النواب طوال الدورات الانتخابية السابقة لم يكن بالمستوى المطلوب من ناحية تشريع القوانين، بخاصة المهمة منها، ويتوجه لتشريع أمور بسيطة وغير ذات أهمية كبرى للدولة، ويمكن تأجيلها وتقديم الأهم على المهم، لكن الخلافات والمناكفات وانشغال معظم أعضاء مجلس النواب بأمور ليست ضمن اختصاصاتهم أو سفرهم للخارج، أصبحت حائلاً دون إقرار تلك القوانين، بحسب لفتة الذي شدد على أن “مجلس النواب المقبل يجب أن يشمر عن ساعديه ويتجاوز تلك المعرقلات ويكون على قدر المسؤولية، ويعرف حاجة الدولة العراقية إلى كم هائل من التشريعات التي تسهم في زيادة الاستقرار والرخاء والتحول نحو دولة عصرية تنافس الدول المتطورة في العالم”.
الأداء التشريعي ضعيف بسبب الضغط السياسي
في الأثناء، أشار الباحث السياسي علي البيدر إلى أن كثيراً من المؤسسات الحكومية ما تزال تدار من طريق قرارات مجلس قيادة الثورة المنحل، وهناك قوانين نافذة تتعارض مع حقوق الإنسان. وأضاف، “الأداء التشريعي ضعيف جداً بسبب الضغوط السياسية وحال الفوضى التي تشهدها العملية السياسية، فضلاً عن غياب النضج القانوني والتشريعي داخل العملية السياسية، ويجب أن تكون هناك مؤسسة خاصة بتشريع القوانين بعيدة من مجلس النواب الذي تكبله الأزمات السياسية”. وقال إن “الوعي السياسي في البلاد ما زال لا يفكر بالقوانين التي تتعلق بحياة المواطن، بقدر سعيه إلى إقرار قوانين تخدم الطبقة السياسية والحكومة، حتى لو تم تشريع قوانين معينة بعضها لا يطبّق بسبب غياب الرقابة وضعف الأداء الحكومي في هذا الجانب، وهناك قضايا حديثة تتعلق بالتكنولوجيا تحتاج إلى تشريع قوانين جديدة”.
وأشار إلى أن “كثيراً من الأحزاب الدينية ترى أن تشريع قوانين مدنية تضر مصالحها، وهي تعطل تشريع تلك القوانين، كما أن هناك خللاً مفصلياً يتمثل بالدستور العراقي، وتؤكد المادة الثانية من الدستور الحالي أن الإسلام دين الدولة، وهو مصدر أساس للتشريع، ومنعت هذا المادة الثانية سنّ قانون يخالف ثوابت أحكام الإسلام، وهذا ما يقوض تشريع قوانين أكثر حداثية”.
اندبندت عربي