لم يكن في تصور قادة دول الاتحاد الأوروبي الذين أقروا قبل عقدين اعتماد عملة موحدة، أنه بعد سنوات طويلة لن يكون سكان دول الاتحاد راضين عن أداء العملة والوضع الاقتصادي عامة، حتى أن العديد منهم مازالوا يتذكرون كيف تغيّرت حالتهم الاجتماعية بمجرد البدء باعتماد اليورو، بينما يحتفظ الألمان على سبيل المثال بعملتهم المحلية القديمة ويقومون إلى الآن بتبديلها.
بروكسل – قبل عشرين عاما تخلى الملايين من الأوروبيين في اثنتيْ عشرة دولة عن عملتهم الوطنية من فرنك وليرة ودراخما، لاعتماد اليورو في حدث اعتبره جاك شيراك الرئيس الفرنسي آنذاك “انتصارا لأوروبا” التي تؤكد بذلك “هويتها وقوتها”.
وأتى اليورو ثمرة تسوية مؤلمة بين ألمانيا التي قبلت بالتخلي عن المارك الألماني رمز نهوضها في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية في مقابل دعم فرنسا لإعادة توحيد البلاد بعد سقوط جدار برلين.
ولكن إلى اليوم مازال العديد من الأوروبيين -سواء في باريس أو روما أو مدريد أو أثينا- يعتبرون اليورو سبَبَ ارتفاع الأسعار عند بدء اعتماده، على عكس ما تكشفه الإحصاءات الرسمية.
غونترام فولف: مفتاح نجاح اليورو مرتبط في المقام الأول بالنمو الاقتصادي
وتشكو ماريا نابوليتانو الإيطالية الأصل والبالغة من العمر 65 عاما قائلة “مع مئة دويتش مارك كان بإمكانك ملء عربة بالبضائع. الآن لا تكفيك مئة يورو لكيسين فقط”، مؤكدة “اليورو كارثة، كارثة”.
وبعد مُضيّ عشرين عاما على اعتماد العملة الموحدة مازال فيكتور إرون، المدرس الإسباني البالغ من العمر 53 عاما، يذكر شعوره بأنه “انضم إلى نادٍ للأثرياء دون أن يمتلك الملابس المناسبة”.
ويوضح فيكتور المقيم في مدريد “كان لدينا انطباع بأننا غير جاهزين للقيام بهذه الخطوة”، مضيفا “كنّا كما لو أننا نعيش في إسبانيا لكننا ندفع بالعملة الهولندية أو الفرنسية”.
ووصل الأمر بالألمان إلى حد ابتكار تسمية “تورو” للعملة الموحدة، وهو مزيج بين اليورو وكلمة “توير” التي تعني “باهظ”.
ورغم مضي عشرين عاما على اعتماد هذه العملة الأوروبية الموحدة تفيد تقارير بأن العملات الوطنية التي سبقت اليورو مازالت بعيدة عن التلاشي، ويمكن أن يُعثر عليها تحت مرتبة مُلّة السرير أو في قطعة أثاث الجدّة أو أثناء ترميم شقة.
ففي برلين ومنطقة براندنبورغ المجاورة لها وحدهما تم تبديل 2.63 مليون مارك ألماني بين يناير ونهاية نوفمبر من عام 2021، أو ما يوازي نحو 1.35 مليون يورو.
ويفترض البنك المركزي الألماني أن هناك حيازات نقدية على مستوى البلاد بنحو 12.35 مليار مارك ألماني (6.31 مليار يورو).
ويحتفظ بجزء من هذه الأوراق النقدية هواة جمع العملات والباقي موجود بالتأكيد في الخارج، فقد كان المارك لفترة طويلة عملة احتياطية تحظى بشعبية.
ولا توجد في ألمانيا مهلة زمنية لتبديل العملات المعدنية والأوراق النقدية من العملة الوطنية السابقة إلى اليورو، تمامًا كما هو الحال في النمسا أو إيرلندا أو دول البلطيق الثلاث، فيما لم تعد إيطاليا منذ عام 2011 تستعيد العملة القديمة كما هو الشأن بالنسبة إلى فرنسا واليونان منذ عام 2012.
وتحدث الأستاذ الجامعي الألماني هانس براشينغر في تحليل يعود إلى عام 2006 عن ارتفاع حاد في مؤشر “تصوّر” الألمان للأسعار بنسبة 7 في المئة بين 2001 و2002، مقابل حوالي 2 في المئة في الظروف العادية، في حين أن الإحصاءات في تلك الفترة لا تعكس أي تسارع في التضخم في ألمانيا.
وقال جوفاني ماستروبووني، أستاذ الاقتصاد في جامعة تورينو الذي وضع دراسة مفصلة حول هذا الموضوع، “كان هناك انطباع قوي بأن الأسعار ارتفعت، غير أن الأرقام كانت رغم كل شيء تقول لنا عكس ذلك”.
ولتوضيح المسألة أحصى أسعار بضائع ولوازم يومية في منطقة اليورو، فتبين أن تكلفة العديد من المنتجات متدنية الأسعار ازدادت فعلا عند الانتقال إلى اليورو. ويتركّز استياء الأوروبيين بالطبع على هذه المنتجات بسبب إقدام التجار على تعديل أسعارها لمطابقتها مع أقرب وحدة نقدية إليها، وفي غالب الأحيان يتم رفعها.
ومن بين هذه المنتجات بعض أنواع الفواكه والخضروات والخبز والمشروبات ووجبات الطعام في المقاهي والمطاعم وغيرها، ولو أن زيادة الأسعار تتباين في ما بينها. وأوضح ماستروبووني قائلا “إنها منتجات نستهلكها كل يوم، أشياء لا تكلف كثيرا، لكنها هي التي تحدّد التصوّر لأنها المشتريات الأكثر شيوعاً”.
وفي فرنسا على سبيل المثال ازداد سعر فنجان القهوة في المقاهي بشكل غير اعتيادي بين نهاية 2001 ومطلع 2002، بحسب معهد الإحصاءات الوطني “إنسي”، فارتفع من متوسط 1.19 يورو إلى 1.22 يورو (بزيادة 2.52 في المئة).
ولفت ماستروبووني إلى أن هذه الظاهرة سجلت بصورة خاصة في الدول حيث قطاعات التوزيع غير محصورة في شركات كبرى، إذ أن صغار التجار لديهم حرية أكبر في زيادة أسعارهم. وتراوحت الزيادة “التلقائية” المرتبطة بالانتقال إلى اليورو بين 0.1 في المئة و0.3 في المئة وفق المفوضية الأوروبية.
غير أن الإحصاءات العامة المتعلقة بالتضخم لم تتأثر بذلك، لأن المنتجات الأغلى لم تسجل في المقابل أي زيادة في الأسعار، لا بل تراجعت أحيانا ولاسيما بفضل زيادة الإنتاجية.
وبلغ التضخم 2.3 في المئة في 2001 و2002 بالنسبة إلى دول منطقة اليورو الاثنتي عشرة الأوائل، بحسب هيئة “يوروستات” الأوروبية للإحصاءات. ولئن بلغت النسبة في إسبانيا 2.8 في المئة عام 2001 و3.6 في المئة عام 2002 فقد بقيت بمستواها في معظم الدول في تلك الفترة، لا بل تباطأت في بلجيكا وألمانيا ولوكسمبورغ وهولندا.
ويشدد بيار جايي، الباحث في معهد جاك دولور الأوروبي ومعهد “إيريس” للعلاقات الدولية والاستراتيجية، على أن مسألة تحديد “مواصفات” المستهلكين مهمة لفهم التباين بين تصوّر الناس لارتفاع الأسعار والتطور الفعلي للتضخم.
وقال إن “سلة الاستهلاك المتوسطة تناسب الميزانية المتوسطة لموظف إداري متوسط يعيش في مدينة، وهذا ما لا يتناسب مع ميزانية معظم المستهلكين”.
أما الفئات الأدنى دخلا والتي تكرس قسما أكبر من ميزانياتها للمواد الغذائية فقد تكون شعرت بالمزيد من الغبن على حد قول الباحث الذي يشير إلى أن المستهلكين يتذكرون بصورة عامة الزيادة في الأسعار أكثر مما يتذكرون التراجع.
اقرأ أيضا: تغيير تصاميم أوراق اليورو يثير جدلا في أوروبا
من جهته يرى خبير الاقتصاد البلجيكي فيليب دوفيه أن الزيادة المرتفعة في أسعار المنتجات النفطية والخضروات والفواكه خلال الأشهر التي سبقت اعتماد اليورو، والتي لا يمكن بالتالي نسبها إلى العملة الموحدة، ساهمت في هذا التصور العام السلبي.
وحين طرحت العملة الجديدة -وهي رمز للوحدة الأوروبية- قبل عقدين كان من أهدافها أن تكون أيضا منافسا للدولار الأميركي القوي.
لكن رغم مرور عقدين من الزمن لا يزال الدولار ملكا متوجا وأكثر العملات أمانا في العالم؛ فعندما توقفت عجلة الاقتصاد العالمي بعد انتشار جائحة كوفيد – 19 تهافت المستثمرون على تحويل أصولهم إلى العملة الأميركية ما عزز قيمة الدولار.
ويتم راهنا تداول أكثر من 2100 مليار دولار فيما 60 في المئة من احتياطي العملات الصعبة في البنوك المركزية هو بالدولار.
ويشكل اليورو حوالي 20 في المئة تقريبا من هذا الاحتياطي حسب ما يفيد به البنك المركزي الأوروبي.
ورغم أن العملة الأوروبية الموحدة لا تهدد بتاتا هيمنة الدولار الأميركي إلا أنها أصبحت منافسا يحسب له حساب.
ويرى غونترام فولف، مدير مركز بورغل للأبحاث ومقره في بروكسل، أن مفتاح النجاح لليورو مرتبط في المقام الأول بالنمو الاقتصادي. ويؤكد “إذا كان الاقتصاد يتمتع بالحيوية فهو سيستقطب الاستثمارات إلى أوروبا ما سيعزز اليورو أيضا”.
العرب