يشهد مركز الهجرة والجوازات في العاصمة السورية دمشق منذ أسابيع، أكبر موجة تدفق من السوريين الراغبين في الهجرة، حيث تصطف أرتال المنتظرين بالآلاف منذ ساعات الصباح الأولى وإلى منتصف الظهيرة بفارغ الصبر، للحصول على جواز سفر يمكّنهم من الخروج من البلاد في أقرب فرصة.
ويشكّل الشباب الفئة الكبرى من السوريين الراغبين في الهجرة، ويأتي ذلك نتيجة للانهيار الاقتصادي الذي تشهده البلاد وتفشي البطالة وتردي الخدمات الحيوية التي تقدمها حكومة النظام من كهرباء وإنترنت، مما ينعكس سلبا على مستوى معيشتهم وتعليمهم وعملهم.
الفساد والمحسوبية
لا تقتصر أسباب الازدحام الذي يشهده مركز الهجرة والجوازات على ازدياد أعداد الراغبين في الهجرة تزامنا مع مضي العام العاشر من الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها البلاد فحسب، وإنما تضاف إليه الأعطال الفنية التي تصيب المطابع المسؤولة عن طباعة أوراق جواز السفر، والمحسوبيات التي تنعم بها قلة قليلة من السوريين، والفساد المستشري في مؤسسات الدولة.
يقول محمد (27 عاما) وهو مدير لأحد المقاهي في دمشق -للجزيرة نت- “لو كان بحوزتي 150 ألف ليرة (40 دولارا) لتمكنت من الحصول على جواز السفر خلال أيام”، ويضيف “تمكنت الشهر الماضي من الدخول إلى مركز الهجرة والجوازات بصعوبة بالغة، وسجلت طلبي على جواز مُستعجل، وقال لي الموظف عُد بعد أسبوع، وها أنا ذا أعود بعد شهر ولا يزال جوازي غير جاهز”.
يجاهد محمد منذ شهرين تقريبا لاستكمال الأوراق اللازمة لاستصدار جواز السفر، وحين جاء إلى مركز الهجرة والجوازات استوقفه أحد “المتعاونين” -وهو شخص يقوم بدور الوسيط بين كبار الموظفين في دائرة حكومية ما والمراجعين لها- وسأله إن كان يحتاج إلى مساعدة، وعندما سأله محمد عن نوع هذه المساعدة، أبدى الرجل استعداده لتسيير أوراق محمد واستصدار جواز سفر له خلال أيّام مقابل مبلغ 50 ألف ليرة (15 دولارا)، وعندما استهجن الشاب العشريني المبلغ عاجله المتعاون بالقول “هذه الخمسون ستطعم 10 أفواه غيري”، بحسب محمد.
اضطر محمد إلى زيارة مركز الهجرة والجوازات 3 أيام متتالية حتى تمكن من إدراج بصمته وإتمام التواقيع اللازمة ضمن المبنى، ولا يزال منذ شهر ينتظر إصدار جواز سفره “المستعجل” الذي يفترض أن يصدر خلال أسبوع، ويقول “حين كنا في الصفّ ننتظر وصول دورنا، كان يخرج إلينا موظف من داخل المبنى ويطلب من أشخاص بأعينهم الدخول معه لإتمام أوراقهم، دون أن يأبه لغضب المصطفين واستنكارهم، وكنا نرى أولئك الأشخاص يخرجون بعد نصف ساعة باسمين من المبنى”.
وينتظر آلاف الشبان -كما ينتظر محمد- مدة طويلة تتراوح بين شهر وشهر ونصف لاستصدار جوازاتهم، في حين تنعم قلة قليلة من السوريين “المدعومين” بالحصول على أوراقهم فور طلبها، بما في ذلك جواز السفر.
شام مصطفى_ الجزيرة. نت_ أمام مبنى الهجرة والجوازات في دمشق(3)الآلاف من الشبان السوريين في مناطق سيطرة النظام يعيشون تحت وطأة الفقر والبطالة (الجزيرة)
تبريرات حكومية
لم تكن هذه المرة الأولى التي يزدحم فيها السوريون أمام مركز الهجرة في دمشق، فقد شهدت الدائرة الحكومية في منتصف أغسطس/آب من العام الماضي مشهدا مماثلا استمر أسابيع، وأرجع حينها وزير الداخلية في حكومة النظام اللواء محمد الرحمون ذلك الازدحام إلى أسباب فنية خارجة عن إرادة الوزارة، تمثلت في صعوبة الحصول على الأوراق والأحبار اللازمة لطباعة جوازات السفر، والتي يتمّ استيرادها من الخارج.
وبعد وعود عديدة بانفراج أزمة الجوازات، عاد وزير الداخلية ليعلن الشهر الماضي عن إمكانية الحصول على جواز سفر مستعجل في يوم واحد مقابل 100 ألف ليرة (28.5 دولارا)، بعد أن كان سعره يساوي 31 ألف ليرة (9 دولارات)، بينما تم رفع السعر القنصلي للحصول على جواز مُستعجل في الخارج إلى 800 دولار، ليصبح بذلك جواز السفر السوري أغلى جواز سفر في العالم.
وتشير تقارير في صُحف ومواقع مقربة من النظام إلى أن العقوبات الأوروبية والأميركية واحدة من العقبات التي تواجهها وزارة الداخلية فيما يتعلق باستصدار جوازات السفر، كون العقوبات تعرقل استيراد الأحبار والأوراق من الدول المصدرة، وهو ما يؤخر عملية الطباعة.
في حين يرى المعارض والناشط السوري أيسر (40 عاما) أن حكومة النظام افتعلت هذه الأزمة بعد زيادة الطلب على وثائق السفر وإقبال السوريين على الهجرة بشكل متزايد في الآونة الأخيرة، لتحتوي الحكومة هذه الأعداد بانتظار حلول العام الجديد وما يحمله من دعم اقتصادي للنظام، وإمكانية تحقيقه جزءا من وعوده التي أطلقها العام الماضي تحت شعار “الأمل بالعمل”.
ويقول أيسر للجزيرة نت “إن تقديم دول كالإمارات ومصر تسهيلات لقدوم السوريين إليها، بما في ذلك الصناعيين ورؤوس الأموال، يشكل ضغطا على النظام الذي يعاني أساسا من أزمة اقتصاديّة خانقة وأزمة بطالة غير مسبوقة في مناطق سيطرته، وهو ما يدفعه لعرقلة هذه الهجرة بشتى الوسائل المتاحة”.
ويأتي هذا الإقبال على الهجرة تزامنا مع دعوات وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد اللاجئين السوريين للعودة إلى سوريا، مؤكدا أن الحكومة ستقدم كل التسهيلات التي تضمن عودة آمنة وحياة مستقرة لهم، في حين لا تزال معظم المناطق التي هجّر منها اللاجئون مدمرة ولا تصلها الخدمات الرئيسية.
وبحسب تقارير لمنظمة الأمم المتحدة، فإن هناك ما يزيد على 5.5 ملايين لاجئ سوري في دول الجوار فروا من البلاد منذ عام 2011، بينما نزح أكثر من 6.7 ملايين سوري داخل البلاد.
الملاذ الأخير
يعيش الآلاف من الشبان السوريين في مناطق سيطرة النظام تحت وطأة الفقر والبطالة وتردي الخدمات الضرورية لمتابعة دراستهم الجامعية أو أعمالهم اليومية كالكهرباء والإنترنت والمواصلات، وهو ما حوّل أدنى حقوقهم في الدراسة والعمل إلى مشقة ومكابدة يومية، وفي بعض الحالات إلى حلم بعيد المنال.
وتقول منار (25 عاما)، الخريجة من كلية التجارة والاقتصاد بجامعة دمشق، وهي واحدة من الشابات اللاتي ضقن ذرعا بالأوضاع المعيشية المتردية في البلاد -للجزيرة نت- “مضى على تخرجي عامان، وما زلت أبحث عن وظيفة مقبولة تغطي الحد الأدنى من مصروفي الخاص، ولم أترك شركة في البلاد إلا قدمت على وظيفة فيها، ولم أوفق في العثور على وظيفة مناسبة حتى اليوم”.
وبالرغم من أن منار تعمل اليوم محاسبة في إحدى شركات الاستيراد والتصدير بدمشق، غير أن مرتبها الشهري لم يعد يغطي مصاريفها لأكثر من أسبوع.
وقد خسرت الليرة السورية منذ عام 2019 حوالي 750% من قيمتها، عقب فرض عقوبات قيصر الأميركية على النظام والتداعيات الاقتصادية الناجمة عن جائحة كوفيد-19، لتسجل بذلك أكبر انخفاض لها منذ عام 2011، وليساوي الدولار الواحد اليوم 3600 ليرة سورية.
وتفكر منار بالهجرة حلا جذريا لمشكلتها، وتبحث بجد عن فرصة للعمل في إحدى الدول الخليجية أو الأوروبية عبر الإنترنت، مستعينة بشبكة علاقاتها على مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن إلى الآن لم توفق في الحصول على واحدة.
وفي حين أن منار وغيرها من الشباب السوري تمكنوا من الحصول على وظائف ولو بمرتبات هزيلة، فإن الآلاف غيرهم لا يزالون عاطلين عن العمل منذ تخرجهم من جامعاتهم.
يقول مهند (26 عاما)، الخريج من كلية العلوم السياسية بجامعة دمشق -للجزيرة نت- “لا حاجة في البلاد لخريجي جامعات العلوم الإنسانية والاجتماعية، فمنذ أن تخرجت في عام 2018 قدمت أوراقي لوزارة التربية للحصول على وظيفة، وإلى اليوم لم يتصل بي أحد ولم أتلقَ أي رسالة”.
وتشير تقارير لمنظمة الأمم المتحدة إلى أن 90% من السوريين يعيشون منذ عام 2020 تحت خط الفقر، في حين يعاني 12.4 مليون فرد سوري من انعدام الأمن الغذائي.
شام مصطفى_ الجزيرة. نت_ أمام مبنى الهجرة والجوازات في دمشق_ الطابور في الخلف12.4 مليون فرد سوري يعانون من انعدام الأمن الغذائي (الجزيرة)
محاولة النجاة
منذ اندلاع الحرب في سوريا عام 2012 ودخول البلاد في أزمة اقتصادية، أضحى جواز السفر السوري من أضعف جوازات السفر في العالم، وبالرغم من وجود بعض الدول التي لا تزال تستقبل السوريين بشروط صعبة، فإن العقبات الناتجة عن شروط الاستقبال والاستضافة، سواء للدراسة أو للعمل أو تلك المتعلّقة بارتفاع تكلفة السفر مقارنة بدخل المواطن في الداخل السوريّ، لا تزال تحول بين الشباب وحلم الهجرة.
ويضطر الكثير من الشبان والشابات للتفكير في خيار الهجرة غير النظامية عبر مسالك وطرق تنطوي على مخاطر جمة تصل في بعض الأحيان إلى مرحلة الموت غرقا أو تجمدا، ومع أن زيد (28 عاما) الخريج من كلية الهندسة المعلوماتية بجامعة دمشق، يدرك مسبقا ما قد يكون في انتظاره لو اتخذ خيار الهجرة “تهريبا”، فإنه بقي مصرا على خياره، ويقول للجزيرة نت “قررت مراسلة عدد من الجامعات الأوروبية، لكن نفقات الدراسة المحدّدة من قبل الدول والجامعات لم تكن بمتناولي، مما دفعني للتخلي عن الفكرة”.
لكن مع تردي الأحول المعيشية والخدمية في مناطق سيطرة النظام، وصل زيد إلى قناعة مفادها أن “السفر عبر طرق التهريب التي يمكن أن تؤدي إلى الموت لكنّها قد تحتمل النجاة، أفضل ألف مرّة من الموت جوعاً وقهراً في سوريا”، بحسب رأيه.
ولا تختلف حال زيد عن حال آلاف من الشباب السوريين الذين لا يتوانون عن ركوب المخاطر وتعريض أنفسهم للويلات في طرق التهريب، هربا من واقع معيشي وخدمي هو الأسوأ على الإطلاق منذ بداية الحرب السوريّة.
وبعد اتخاذ تركيا واليونان إجراءات صارمة للحدّ من تدفّق اللاجئين عقب موجة الهجرة الواسعة التي شهدها البلدين في عام 2015، بات طريق السفر إلى بيلاروسيا ومنها إلى بلدان الاتحاد الأوروبي واحدا من أبرز طرق الهجرة غير النظامية التي يختارها السوريون، حيث تدفق نهاية العام الماضي آلاف المهاجرين إلى الحدود البيلاروسية البولندية، وقد وصل عدد الوفيات في صفوفهم إلى 11 وفاة، كان من بينهم سوريون.
المصدر : الجزيرة