فضائح شارع الدبلوماسية بين موسكو وواشنطن

فضائح شارع الدبلوماسية بين موسكو وواشنطن

تؤدي المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا وظيفة صعبة، تضطرها أن تبدو مثقفة. ولكن تضطرها، لمعظم الأوقات، أن تكون وقحة في الرد على كل من ينتقد السياسات الروسية.

وهي تستعين في ذلك بسلاح المعايرة في الفضيحة الذي تستخدمه كل من تسعى لتستر شيئا أسوأ. فإذا كشفت لها عيبا، ردت عليك بسيل من الفضائح.

هذا هو “التكنيك”. وزاخاروفا لا تملك غيره عندما تحشرها الضغوط في الزاوية. فتبدأ بقلع الحجارة من أقرب حائط لرميها على الخصم.

أحد أهم أوجه الصعوبة في وظيفة زاخاروفا هي أن علاقات روسيا بالولايات المتحدة وباقي العالم الغربي ترزح تحت ضغوط شتى منذ أن تعرضت روسيا للطرد من “مجموعة الثمانية” بسبب غزوها لأوكرانيا في العام 2014، ومن ثم فرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية ضدها.

حاولت روسيا على امتداد هذه السنوات أن تبدو وكأنها قوة متماسكة، وأنها لا تأبه بتلك العقوبات كما أنها لا تأبه بشيء أصلا. وظلت تفعل ما تريد، بما في ذلك اغتيالات المعارضين أينما كانوا، في إهانة صريحة للدول التي تستضيفهم.

الفرق الرئيسي بين زاخاروفا وبين جين ساكي، المتحدثة باسم البيت الأبيض، هو أنها تلعب دور المتحدث، وكأنها تنطق ليس بلسان سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي مباشرة فحسب، بل بلسان مشاعره أيضا.

لافروف الذي يبدو هادئ الطبع ويتحدث بلغة مرنة، ليس كذلك في الواقع. قسمات وجهه تدل على أنه غضوب وانفعالي وساخر، ولكن تضطره وظيفته أن يكون كتوما أيضا، مما يجعله عرضة لكل أمراض الضغط المرتفع. وبسبب حاجته الماسّة إلى التنفيس، فإنه عندما يختلي بالمتحدثة باسمه يكشف لها عن انطباعاته الحقيقية، فتضطر زاخاروفا أن تجاري تلك الانطباعات عندما تتحدث إلى الصحافيين، وتنقل انفعالاته، فتتصرف على المنصة كشخص غضوب وساخر.

آخر ما جاءت الولايات المتحدة لتحترمه في العراق هو القانون والقيم الإنسانية. وآخر ما جاءت روسيا لتحترمه في سوريا هو القانون والقيم الإنسانية. ومن المعيب بالتالي أن تتخذ موسكو وواشنطن من التاريخ دليلا على أي موقف أخلاقي.

ساكي، في المقابل، تحافظ على قدر كبير من طبيعتها الشخصية. تتحدث بلطف. وتنقل الموقف الرسمي للبيت الأبيض بمهنية لا تنطوي على انفعالات، حتى لتبدو باردة، وتكتفي بإشارات دبلوماسية، من دون أن تفارقها الابتسامة، حتى حيال فظائع.

ما يهم في المقارنة بين هذين الوجهين، هو المثل القائل “لم نرهم يسرقون، ولكن رأيناهم يختلفون على السرقة”. فنحن إزاء وجهين لقوتين عظميين ترتكبان الجريمة نفسها، ولكن يحدث أن يُعيّر أحدهما الآخر بما فعل، فيرد عليه الآخر بأنه فعل أقبح من ذلك.

العراك بين متحدثين من الذكور يمكن أن ينطوي على طبيعة حادة، وربما خطرة أيضا. ولكن العراك بين متحدثتين يظل يحمل طابعا “أنثويا” وبالتالي سلميا، حتى ولو انتهى إلى أن “تكفش” الواحدة منهما شعر الأخرى، عن بُعد.

زاخاروفا بعد جولة عراك سابقة مع ساكي انتقلت لتخوض معركة لكشف الفضائح مع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن مباشرة.

بعد المجزرة التي ارتكبتها سلطات الرئيس الكازاخستاني ضد المئات من المحتجين الذين انتفضوا بسبب ارتفاع أسعار الغاز إلى الضعف، وبعد الدعم العسكري السريع الذي قدمته موسكو لبقاء نظام الفساد القائم في كازاخستان، وجد بلينكن نفسه يحذر السلطات الكازاخستانية من مغبة طلب المساعدة العسكرية الروسية للتعامل مع الاحتجاجات.

بلينكن قال أيضا إن “أحد الدروس المستفادة من التاريخ الحديث هو أنه بمجرد وصول الروس إلى منزلك، يكون من الصعب جدا في بعض الأحيان إقناعهم بالمغادرة”.

فانبرت زاخاروفا لتكيل الصاع صاعين ولتقول إن بلينكن “مازح بطريقته الفظة المعتادة”، وإنه إذا كان مغرما جدا بدروس التاريخ، فعليه أن يعلم “إذا دخل الأميركيون إلى بيتك، سيصعب عليك البقاء على قيد الحياة وعدم التعرض للسرقة أو الاغتصاب”.

ومضت زاخاروفا لتتذكر جرائم وانتهاكات 300 عام، ابتداء من الهنود الحمر مرورا بفيتنام وصولا إلى العراق فضلا عن “العديد من الشعوب البائسة التي لم يحالفها الحظ في رؤية هؤلاء الضيوف غير المدعوين في منازلهم”.

الظهور بمظهر المثقف العارف بالتاريخ شيء يفترض أن يكون محرجا. ذلك أن تاريخ الفظائع الروسية ليس أقل سوءا. ابتداء من إعدامات ستالين الوحشية ضد مئات الآلاف من البشر، وتهجير الملايين من أراضيهم في تلك “الجمهوريات السوفياتية”، مرورا بالتدمير المنهجي والشامل لجمهورية الشيشان رفضا لسعيها للاستقلال، ومرورا أيضا بخيانة “معاهدة الصداقة والتعاون” مع العراق مقابل ملياري دولار بما أتاح للولايات المتحدة تدميره في العام 1991 ومن ثم غزوه في العام 2003، وصولا إلى أعمال القتل الوحشية التي أشرفت موسكو على رعايتها في سوريا ودعمها لنظام ارتكب من الفظائع ما لم يخطر على بال أكثر ما عرف التاريخ من وحوش.

ما مِن “متحدثة” في شارع الوقاحة والصلف يمكنها أن تدافع عن ذلك. الجريمة تظل جريمة. وهي لن تكون أخف، لمجرد أن الآخر ارتكب مثلها أو أسوأ منها

جميل أن يتنازع اللصوص. ولكننا نعرف أنهم لصوص. ولسنا بحاجة إلى ذاكرة طويلة لكي نتعرف على جرائمهم. فنحن نعيش بها، وندفع أثمانها كل يوم. ولكن ليس جميلا أن يتبارى أي منهم بموقف أخلاقي زائف. ولا أن تتحول المبارزات الصحافية اليومية إلى “تقليع” حجارة.

وهم عندما يتساخرون حيال أحدهما الآخر، فإنما يتساخرون على جثثنا مع الأسف.

آخر ما جاءت الولايات المتحدة لتحترمه في العراق هو القانون والقيم الإنسانية. وآخر ما جاءت روسيا لتحترمه في سوريا هو القانون والقيم الإنسانية. ومن المعيب بالتالي أن تتخذ موسكو وواشنطن من التاريخ دليلا على أي موقف أخلاقي.

هاتان القوتان العظميان لم تتصارعا من قبل، وهما لا تتصارعان الآن، ولن تتصارعا في المستقبل على أسس أخلاقية أو إنسانية. وتوظيف آليات القَذْع في الدفاع عن فجورهما لا يُغني عن الحقيقة شيئا.

لقد ارتكبت قوات قاسم جومارت توكاييف في كازاخستان إبادة جماعية ضد مواطنين يحتجون ليس على ارتفاع أسعار الغاز فقط، وإنما على نظام فساد مطلق، حكمه نور سلطان نزارباييف بالحديد والنار لثلاثين عاما، وظل يحكمه من وراء الستار حتى بعد تنحيه عن السلطة في العام 2019، كما ظل ينهب من ثروات بلاده، هو وعائلته، ما لم يعد خافيا على أحد.

بعض الفساد والفسق الكازاخستاني وصل إلى قصر الملكة في بريطانيا، فضلا عن فارسها الهمام توني بلير، كما كشفت صحيفة “تايمز” البريطانية.

أعمال القتل التي ما تزال تجري في هذا البلد، إنما تتم بأوامر من موسكو. والحصيلة التي تتحدث عن المئات من القتلى تبدو ضئيلة حيال مَنْ يهدد توكاييف بقتلهم. ولو اندلعت في البلاد حرب أهلية ضد النظام، فالكل يعرف إلى أي مدى يمكن للرئيس بوتين أن يذهب للمحافظة على نفوذه في مستنقع الفساد والطغيان هناك.

توكاييف يقول الآن “إن هناك 20 ألف إرهابي هم الذين يقفون وراء الاحتجاجات، ويجب قتلهم”. إنه يعد بمجزرة. وروسيا هي التي أصدرت له الأوامر.

وما مِن “متحدثة” في شارع الوقاحة والصلف يمكنها أن تدافع عن ذلك. الجريمة تظل جريمة. وهي لن تكون أخف، لمجرد أن الآخر ارتكب مثلها أو أسوأ منها.

العرب