شكل إعلان وزارة التربية في تونس عن بلوغ نسبة الأمية الـ17.7 في المئة أي ما يُعادل حوالي مليوني تونسي صدمة لدى الشارع وأثار تساؤلات حول المسؤول عن الوضع الذي آلت إليه الأمور، خاصة مع تدهور التعليم الذي ينتظر عملية إصلاح ستكون شاقة خاصة في ظل التباين في المواقف والرؤى إزاء هذا الإصلاح بين النقابات وسلطة الإشراف.
تونس – خلف الإعلان عن معدل الأمية في تونس الذي بلغ 17.7 في المئة صدمة لدى الشارع، لكنه فتح أيضا باب التساؤلات عن المسؤول والأسباب الكامنة خلف هذا الرقم.
منذ سنوات تتبادل الهياكل المعنية بالتربية والتعليم في البلاد الاتهامات بشأن أزمة المنظومة التربوية، لكن لم تخط تلك الهياكل والحكومات المتعاقبة أي خطوة نحو إصلاحها، لكنّ بعض الفاعلين يربطون أيضا أسباب هذا الرقم بسياسات الحكومات المتعاقبة التي جعلت رمزية المدرسة كمصعد اجتماعي تتراجع لدى التونسيين.
وشدّد وزير الشؤون الاجتماعية مالك الزاهي السبت، على ضرورة بذل المزيد من الجهود للحد من انتشار الأمية والحد من ظاهرة التسرب المدرسي، مؤكدا أن محاربة الأمية “مسؤولية وطنية مشتركة بين كل الأطراف”.
مسؤولية الحكومات المتعاقبة
فخري السميطي: الحكومات المتعاقبة همشت التعليم بشكل متعمد لتطويعه
في التطرق لمعدلات الأمية المرتفعة، التي تشمل حوالي مليونين في البلد الذي يُحصي أكثر من 11 مليون نسمة، تُحمل أوساط تربوية المسؤولية للحكومات المتعاقبة متهمة إياها بتعمد تهميش التعليم.
وطغت في العشرية التي تلت الثورة التي أطاحت الرئيس الراحل زين العابدين بن علي في الرابع عشر من يناير 2011 المعارك السياسية بين الأحزاب المهيمنة على المشهد على بقية القضايا على غرار التعليم والاقتصاد وتنمية المناطق المهمشة.
وأقر وزير التشغيل والتكوين المهني نصرالدين النصيبي خلال الاحتفال باليوم العربي لمحو الأمية الذي انتظم السبت تحت شعار “التعلّم مدى الحياة: أيّ فرصة للقضاء على الأمية متعددة الأبعاد؟” بفشل السياسات العمومية في مجال نشر المعرفة، وهو ما يتطلب إعادة تقييم تلك السياسات وتصويبها.
يقول فخري السميطي عضو جامعة التعليم الثانوي، إن “التعليم تعرض لعملية تهميش متعمدة، وهذا في الواقع يعود إلى حتى ما قبل الثورة، منذ المراجعة الهيكلية سنة 1986 وطالت الإصلاحات التربوية التوجيه وتسييس المدرسة لتطويعها لخدمة الأجندات الاقتصادية والسياسية من ذلك التاريخ إلى اليوم أدى إلى وصولنا إلى هذا الوضع”.
وتابع السميطي في تصريح لـ”العرب” أن “المدرسة فقدت ميزات مرتبطة بالتشغيل حيث لم تعد تمثل وسيلة للترقي الاجتماعي، ولم تعد بوابة المستقبل، أصبح النموذج المهرب والمهن الحرة وهي المنفذ إلى المستقبل، باتت المدرسة يُنظر إليها على أنها سبب في الفقر يجب أن تُهجر وغيرها، هذه نتيجة السياسات الحكومية”.
مالك الزاهي: محاربة الأمية مسؤولية وطنية مشتركة بين كل الأطراف
وأضاف النقابي التونسي أنه “تم تشجيع الاقتصاد الحر وفي المقابل تم تهميش المدرسة العمومية بهدف ضربها وإدانتها ما أدى مباشرة إلى تشجيع المدارس الخاصة، تم المساس بالمكانة الاجتماعية والاقتصادية للمدرس، تم التغاضي عن صيانة المؤسسات التربوية حتى أنها أصبحت عنوانا للتداعي وترك البرامج التربوية محنطة، للأسف أغلب التونسيين ليسوا واعين بما حدث ويتم تحميل المدرسة العمومية المسؤولية والحال أن المؤسسة تم إغراقها ببرامج محنطة وتم إغلاق باب الانتداب وفتح أبواب التشغيل الهش وغيره من الممارسات التي جعلتنا اليوم نواجه هذه النتيجة”.
وفي ظل اقتصار عملية إصلاح التعليم العمومي على الشعارات لدى أغلب الحكومات المتعاقبة بات التعليم الخاص ملاذ العديد من العائلات التي تشهد تمددا للمدارس والمعاهد والجامعات الخاصة ولم يقتصر على المدن الكبرى بل أصبح واقعا حتى في الجهات الداخلية النائية.
وازدهر بالفعل قطاع التعليم الخاص حيث تُشير إحصائيات نُشرت في العام 2018 إلى أن عدد المدارس الخاصة ارتفع إلى 650 مدرسة تحتضن أكثر من 50 ألف تلميذ في المدارس الثانوية فقط.
ويأتي ذلك في وقت تتعالى فيه المطالبات بإصلاح التعليم وهي في الواقع مطالبات ليست وليدة اللحظة لكن هذه العملية تعثرت وظلت تمثل ملفا تتوارثه الحكومات المتعاقبة التي مسكت بزمام الأمور في البلاد وذلك رغم تبني برنامج للإصلاح سنة 2015.
عواقب وخيمة
محمد صالح العبيدي: عواقب تفشي الأمية وخيمة، الحكومات والنقابات تتحمل المسؤولية
مع تعثر عملية الإصلاح التربوي والإعلان عن أرقام عن الأمية أثارت مخاوف، يُحذر متابعون من تداعيات ذلك خاصة أن البلاد لطالما عُرفت بتصدير الكفاءات إلى عدة مناطق في العالم.
وأفضت هجرة الأدمغة منذ سنوات إلى حدوث نقائص في عدة قطاعات حساسة على غرار الصحة وهو ما يجعل أوساطا تونسية تدق ناقوس الخطر إزاء التدهور الكبير للتعليم في البلاد الذي يتزامن مع تدهور اقتصادي حاد يدفع بالكفاءات إلى المغادرة.
واعتبر المحلل السياسي محمد صالح العبيدي أن المشهد يزداد تعقيدا فلا الإصلاح تمت مباشرته بصفة تشاركية تمكن من فهم ما يحدث في هذا القطاع الحساس ولا الأحوال الاقتصادية تحسنت بما يسمح بوضع حد لنزيف هجرة الكفاءات التونسية.
وأضاف العبيدي لـ”العرب” أن “عواقب هذه الأرقام ستكون وخيمة، أن يكون لديك مليونان لا يُجيدون لا القراءة ولا الكتابة فهذا يعني أن فيهم من هو مشروع منحرف أو متطرف أو عاطل عن العمل وغيرها، وهذا ما حدث تماما بعد 2011 لقد استغلت الجماعات المتطرفة هشاشة البعض ليقع استقطابهم وتم ترحيل الآلاف إلى بؤر التوتر سواء في سوريا أو العراق أو غيرهما”.
وستؤدي هذه الأرقام إلى جعل الرئيس قيس سعيّد الذي يقود كل السلطات حاليا منذ الخامس والعشرين من يوليو، تاريخ اتخاذه إجراءات استثنائية، أمام تحدّ آخر إلى جانب التحديات السياسية التي تنتظره هذا العام.ورأى المحلل السياسي التونسي أن النخبة السياسية التي حكمت البلاد بعد الثورة تتحمل المسؤولية، قائلا “لقد تم منح هؤلاء فرصة للإصلاح لكنهم اكتفوا بالمناكفات السياسية، أيضا النقابات رأينا إضرابات عشوائية هزت صورة المدرسة بشكل كبير، علاوة على البطالة التي يعانيها خريجو الجامعات ما يجعل البعض ينفر المدرسة، هذا خطير ويُحتم إقامة حوار حقيقي يقود إلى تغير ملموس وجدي على مستوى السياسات”.
نصرالدين النصيبي: السياسات العمومية فشلت في نشر المعرفة في تونس
وأكد العبيدي أن “هذا ملف آخر سيُختبر فيه رئيس الجمهورية وحكومته برئاسة نجلاء بودن، عليه تحريكه وبحث سبل معالجته، حلحلة هذا الملف تعني الكثير ومن خلاله ستُرسم ملامح مستقبل تونس”.
وكان الرئيس سعيّد قد أطلق في السابق وابلا من الانتقادات إزاء السياسات التي تم اتباعها خلال العشرية الماضية بشأن التعليم.
وخلال استقباله وزير التربية فتحي السلاوتي قال سعيّد إن من أكبر الجرائم التي ارتكبت في حق تونس ضرب التعليم، داعيا إلى القيام بإصلاح جذري للمنظومة التعليمية وهي من المرات النادرة التي يتطرق فيها الرئيس سعيّد إلى هذه العملية بعد توليه الحكم عام 2019.
وتراجعت تونس على مستوى مؤشر جودة التعليم للعام 2020، وصنفت في المرتبة السابعة عربيا وفي المرتبة الـ84 عالميا بعد أن كانت في مراتب أفضل لسنوات في جودة التعليم وتصنيف الجامعات، ما يجعل هذا الملف اختبارا جديا للرئيس سعيّد وحكومته.
العرب