عوامل الإخفاق والفشل، التي قادت إلى تشظي الاتحاد السوفييتي، وهزيمة القطب الاشتراكي، الذي كان يقوده الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة، أمام القطب الرأسمالي المضاد، الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، تتعلق بالأيديولوجيا، التي تم بها ووفق موجهاتها وتوجهاتها في الاقتصاد والتجارة والمال والصناعة والسياسة والثقافة والمجتمع؛ إقامة، أو تأسيس وبناء الهيكل البنيوي للنظام السوفييتي.
هذه العوامل ما هي إلا حقائق تؤشر وبوضوح تام، إلى أخطاء الحقبة السوفييتية، في خريطة البناء بدءا، وتاليا، بعد عدة عقود، كان لها تأثير عميق في قلة القدرة على المطاولة والتباري والمنافسة، في السباق أثناء المواجهة مع الخصم، وعلى وجه التحديد؛ في عقود الحرب الباردة، التي قادها عجائز الكرملين، فكان من نتيجتها، أن قام غورباتشوف بطرح خريطة طريق لإعادة البناء والانفتاح، في محاولة منه، إلى إعادة الحيوية والحياة إلى الجسد السوفييتي العملاق، الذي أصابه الوهن والترهل. فقد كانت النتائج كارثية، إذ تم على يديه، وبخريطة الطريق هذه؛ تفتيت الاتحاد السوفييتي، بفعل ما نتج عن عملية إعادة البناء والانفتاح، التي رسم هو هندستها وقادت إلى ما قادت إليه؛ من انهيار قطب توازن دولي. لتنتهي الحرب الباردة؛ بانتصار القطب الآخر.
التجربة السوفييتية؛ فشلت في إعادة تشكيل مواطنها، فقد اكتشف الروس كم كانوا مخدوعين، عندما آمنوا بسرديات ساكني الكرملين
في جميع التحليلات العميقة التي درج الخبراء والمحللون الروس؛ عليها لتبيين عوامل انهيار الاتحاد السوفييتي، وهي تحليلات رصينة، في نقد وتحليل عوامل الفشل والإخفاق في الإطار الأيديولوجي للتجربة، وهي عوامل مؤثرة، ومهمة، لكنها ليست العامل الأساسي الحاسم، الذي قاد إلى تفكك هذه الدولة العظمى، أو هذا الكيان العملاق، بل إن العامل الحاسم لجهة التفكك حصريا؛ هو جدل الصراع الخفي بين الهوية والمواطنة. إن المكلومين من الروس وبقية شعوب الاتحاد السوفييتي؛ بما تعرضوا له، من ضغط وتضييق، على حياتهم، في الاقتصاد والتجارة والسياسة والثقافة والحرية في صورها كافة، فجروا؛ عندما فتحت الأبواب والنوافذ لهم؛ ما كان مطمورا في دواخلهم، بفعل الخوف والتوجس والرعب، الذي زرعته في نفوس الناس، أصابع رجال الأمن السوفييتي، و»كي جي بي»؛ ليظهر واضحا إلى العلن؛ رفض القسم الأكبر منهم (شعوب الاتحاد السوفييتي) لسياسة النظام السوفييتي في العقد الأخير من عمر التجربة السوفييتية، أو الأصح الحقبة السوفييتية بأكملها؛ حين اكتشفوا أنهم خدعوا بالسردية الكبرى. التجربة السوفييتية؛ فشلت فشلا واضحا، في إعادة تشكيل مواطنيها، فقد اكتشف الروس كم كانوا مخدوعين، عندما آمنوا بالسرديات الكبرى، التي درج ساكنو الكرملين، على تسويقها إلى الشعوب السوفييتية، كونها تمثل الحقيقة الوحيدة في الوجود، وأن العالم، ومهما طال الزمن سوف يتحول؛ إلى عالم حر تسود فيه العدالة، والحياة الكريمة، والمواطنة فيه؛ للإنسان الكوني، وأن اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية؛ ستكون قاعدة لإعادة صياغة العالم. يقول الروس الذين كانوا يعملون في الدول التي استقلت، حين انهار الاتحاد السوفييتي؛ لقد طردونا، كان يقولون لنا، لماذا أنتم إلى الآن هنا، ارحلوا، لم يعد لكم عمل هنا. يقول هؤلاء، لم نكن نتوقع أن هذا سيحصل لنا ذات يوم. لقد عشنا سوية لعقود، كنا نعتقد أننا نؤمن جميعا بوطن واحد، اسمه الاتحاد السوفييتي، في لحظة تغير كل شيء، وكأن هذا الذي كان أو كنا نتصور أننا جميعا نؤمن به، لم يكن له وجود أصلا، لا في العقل ولا في النفوس. هذا هو بالمعنى وليس بالنص؛ ما دونته الكاتبة البيلاروسية، سفيتلانا بسرديتها، في كتبها؛ «آخر الشهود» و»صلاة تشرنوبل» و»فتيان الزنك» و»ليس للحرب وجه أنثوي» التي فيها، كانت تؤرخ لتاريخ الحقبة السوفييتية، بلسان الشعوب، الذين اكتووا بنارها، أو من كانوا أداوتها، أو من كانوا أبطالها. هنا من المهم أن لا نهمل التأثير الحاسم للصراع الدولي في القرن العشرين، بين العملاقين، الاتحاد السوفييتي وأمريكا؛ على السيادة والمصالح في مناطق النفوذ لمجاليهما الحيوي في جميع أركان المعمورة، وفي الداخل، والتي كان لها دور كبير في انهيار الاتحاد السوفييتي، ولا أقول التفكك؛ فالتفكك له مسببات وموجبات ونتائج تختلف كليا عن الانهيار. لقد تميزت الإجراءات التنفيذية للكرملين، أو القسم الكبير منها، بالتصلب والجمود، وانعدام البراغماتية والمرونة، حتى تستجيب لتطورات الداخل والخارج، ومقتضيات وضرورات واشتراطات، المجال الحيوي للاتحاد السوفييتي، وتطورات ومشاريع وخطط الند، الذي تمكن من التغلغل في الداخل، سواء في داخل الاتحاد السوفييتي، أو في داخل المنظومة الموالية له، ونجح في صناعة رأي عام مضاد. لقد كانت جميع المؤشرات، تشير إلى أن الاتحاد السوفييتي؛ سائر إلى التفكك، بصورة أو بأخرى، فقد تخلف في الإنتاج الصناعي، وجميع مناحي الحياة الأخرى، كما أن هناك أصواتا، وهذا هو العامل المهم الأول في الانهيار؛ كانت تنادي؛ ببناء علاقات مع المعسكر الغربي، هذه الأصوات لم تكن من خارج منظومة الحكم، بل كانت من داخلها، ومن مراكز صناعة القرار والسياسة، كما قال عنها خبراء التحليل السياسي الروس، لاحقا بعد سنوات، وبالذات الخبراء الذي فككوا عوامل التفكك والانهيار لدولة عظمى، كانت تشكل قطبا موازيا في التوازن الدولي في حينها. لكن في المقابل هل هذه هي جميع الحقائق التي قادت، أو أنتجت الأوضاع التي بها ومن خلالها؛ تفككت وانهارت هذه الدولة العظمى؟ من وجهة نظري؛ هناك خلل بنيوي في الأيديولوجية، وفي التطبيق الذي أنتجته هذه الأيديولوجية الأممية، العابرة للجنسيات والحدود. تسرد سفيتلانا في «آخر الشهود» وعلى لسان الروس، الذي كانوا هناك في الجمهوريات، التي كانت جزءا من اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، للعمل في الإدارة والمسؤولية، قال لنا مواطنو هذه الجمهوريات: اذهبوا من هنا، لم يعد لكم مكان بيننا، أو لم يعد لكم عمل هنا، لقد حصلنا على الاستقلال. قبل انهيار الاتحاد السوفييتي بسنوات؛ كان هناك صراع على الحدود إلى حد استعمال السلاح، بين جمهوريات الاتحاد السوفييتي، وبالذات بين أرمينيا وأذربيجان. هذا يعني في جوهره؛ أن هناك في هذه الجمهوريات، قوة رفض، أو طموحا نائما في العقول والنفوس، بفعل مطرقة الرعب السوفييتية؛ إلى الانفصال والاستقلال، حتى في أوج قوة وعظمة الاتحاد السوفييتي. هذه القوة لم تأت من فراغ، بل إنها قوة تستند إلى أرضية صلبة، من الشعور الشعبي بالهوية المستقلة، المقموعة بفعل قوة الدولة السوفييتية، والرعب من أذرعها الأمنية والمخابراتية، أي أيديولوجية مصيرها الفشل، إذا لم تتمتع بالمطاطية البيئية، على صعد السياسة والاقتصاد والثقافة، أي أنها تصر على أنها الحقيقة الوحيدة. بينما الواقع؛ يشير إلى عكس هذا الاتجاه في التفكير تماما، كل شعب وأمة في العالم، له هوية مُعرّفة، هي التي تحدد سماته، وخصائصه، وخصوصيته؛ التي تكونت عبر سفر طويل، وطويل جدا، في أعماق التاريخ من خط الشروع والبداية والتكوين؛ من لغة وتقاليد وعادات، وتاريخ، ودين، امتدت صيرورتها عبر آلاف السنوات، لتصبح على ما هي عليه، أي (أمة) تُعرّف نفسها إلى العالم؛ كأمة واحدة، لها حق العيش بكرامة وسيادة واستقلال، غير قابلة للذوبان والمحو لهويتها في كيان مهما كان عظميا وقويا، لأنه مهما كان نوع وشكل وعمق الطروحات الفكرية، التي تبرر، أو تصنع القاعدة المشتركة للفهم والاقتناع والقبول؛ تظل قاعدة للتنازل عن الهوية والتاريخ الذي صارت بهما الأمة، كيانا محدد المعالم، واضح الهوية، سلب هذه الهوية، يُعَدُ استبدادا وطغيانا وظلما، مهما قيل عن أصالة وصدق المواطنة في الاتحاد السوفييتي (الإنسان العالمي)؛ هذا القول، أو هذا الطرح الأيديولوجي، المترجم واقعا على الأرض؛ لا يلغي ظلم الاستلاب هذا، وحتى لا يخفف هذا، من شعور المظلوم (الأمة المستلبة) بوطأة الظلم الواقع عليها. عليه، ما أن ضعفت القبضة الحديدية لساكني الكرملين على هذه الجمهوريات؛ حتى باتت الأصوات ترتفع حتى قبل الإعلان الرسمي، عن تفتت هذا الكيان العملاق. لو كان الوضع، أو الأمور على غير هذه الصورة، أو هذا الاستعداد النفسي، على صعيد الشعوب، وقيادات هذه الشعوب الذين كانوا جزءا من النظام السوفييتي القائم حينها، قبل تفككه؛ لما وقعوا مع يلتسين المأخوذ بالنمط الغربي، على بيان حل هذا الكيان العملاق، الذي كان يشكل قطبا عظيما، يتحكم في نصف الكرة الأرضية على أقل تقدير. هنا، من المهم للصورة كي تكون أكثر وضوحا؛ أن رؤساء الجمهوريات الاشتراكية، هم أيضا، أعضاء في اللجان المركزية للأحزاب الشيوعية في تلك الجمهوريات، أي جمهوريات آسيا الوسطى (أوكرانيا وروسيا البيضاء وجورجيا ودول البلطيق) إذ لم يكونوا على قمة هرمها الحزبي والسلطوي، وجميعهم من جيل الثورة البلشفية، أي الجيل الذي نشأ وتربى ودرس وتثقف في فضاءاتها. أن جميع رؤساء هذه الجمهوريات التي استقلت عن جمهورية الاتحاد الروسي، عندما تربعوا على عرش الحكم في دولهم؛ تنصلوا تماما مما كانوا ذات يوم يؤمنون به.
القدس العربي