شبّه محللون التصعيد الإعلامي الذي تقوده الولايات المتحدة بشأن غزو روسي قريب لأوكرانيا بحملة الكذب التي رافقت غزو العراق سنة 2003، حيث حشدت واشنطن حلفاءها خلف دعايتها الإعلامية حينها، وضخّمت قوة الجيش العراقي وامتلاكه أسلحة كيمياوية.
ولا يزال خطاب وزير الخارجية الأميركي كولن باول آنذاك أمام مجلس الأمن، والذي عرض فيه صورا لأقمار صناعية قال إنها تثبت امتلاك نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين أسلحة كمياوية محظورة، عالقة في الأذهان، إذ تبين إثر الغزو أنها مجرد أكاذيب في سياق بروباغندا لتبرير الغزو.
وذهب الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن إلى أبعد من ذلك، عندما صرّح بأن “الرب يأمره بمحاربة هؤلاء”، في إشارة إلى النظام العراقي السابق.
وتتعامل الولايات المتحدة مع الأزمة الأوكرانية تقريبا بنفس تلك الطريقة، إذ تعمل على تضخيم الخطر الروسي المحدق بأوكرانيا وأوروبا، وذهبت إلى حد تحديد مواعيد مختلفة لبدء الغزو الروسي لكييف، حيث قال مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان إنه سيكون الأربعاء وفي بحر هذا الأسبوع على أقصى تقدير.
ووصفت أوكرانيا نفسها وحلفاء واشنطن الأوروبيون التصريحات الأميركية المتكررة باقتراب الغزو بالتهويل، وقالوا إن ذلك السيناريو لا يزال مستبعدا، وإن الدبلوماسية قادرة على إبعاد شبح حرب مدمرة ستكون تداعياتها أكبر وأقسى على الأوروبيين منها على الأميركيين.
ولم ينخرط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الدعاية الأميركية مثلما فعل النظام العراقي السابق، الذي بات يستعرض جيشه ومعداته العسكرية على التلفزيون الرسمي بمجرد توجيه الاتهامات له، ما ساعد في تثبيت صحة البروباغندا الأميركية.
ولا يزال بوتين متمسكا بالحل الدبلوماسي للأزمة ويخوض مفاوضات مع عدد من القادة الأوروبيين بالتزامن مع مواصلة التحشيد على خطوط الجبهة، ما يمنحه أفضلية في المفاوضات الجارية.
ويؤكد محللون أن كلا من روسيا والأوروبيين سيتوصلون إلى حل دبلوماسي في نهاية المطاف، يبدو أن الولايات المتحدة لا تريده.
ويشير هؤلاء إلى أن مصلحة واشنطن في اندلاع الحرب وبالتالي استنزاف روسيا خصمها اللدود، وهو ما تعيه جيدا موسكو كما الأوروبيين، الخاسرين الأكبر من سيناريو الحرب.
وقال بوتين الثلاثاء إن بلاده لا تريد الحرب في أوروبا، لافتا إلى أن موسكو قدمت مقترحات أمنية لتجنب هذا السيناريو. وجاء ذلك خلال لقاء جمعه مع المستشار الألماني أولاف شولتس بالعاصمة الروسية موسكو.
وقال بوتين إن الردود الغربية على مقترحاتنا لا تستجيب لمطالباتنا بخصوص ضمانات أمن روسيا. وأضاف “بالطبع لا نريد حربا في أوروبا، وهذا هو سبب قيامنا بتوجيه مقترحاتنا إلى واشنطن و(حلف شمال الأطلسي) الناتو”.
وسحبت روسيا الثلاثاء عددا من قواتها من على الحدود الأوكرانية، ما اعتبره المستشار الألماني أولاف شولتس خلال مؤتمر صحافي مشترك مع الرئيس الروسي في موسكو “إشارة جيدة”.
وقال شولتس “كوننا نسمع الآن أنه تم سحب بعض القوات هو في أي حال إشارة جيدة. نأمل أن يكون هناك المزيد”، مؤكدا أن الجهود الدبلوماسية الرامية إلى تجنب نزاع “أبعد من أن تكون قد استنفدت”.
وتابع “الإمكانات الدبلوماسية لم يتم استنفادها بعدُ إلى حد كبير. والمهم الآن هو العمل بشكل حازم وشجاع على حل سلمي لهذه الأزمة”.
وقال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ الثلاثاء “إن الإشارات الصادرة عن روسيا لمواصلة السبل الدبلوماسية بشأن أزمة أوكرانيا أمر إيجابي، لكن لا تتوافر أي مؤشرات على أن موسكو تسحب قواتها من الحدود”.
وأضاف للصحافيين “ثمة إشارات صادرة من موسكو على ضرورة مواصلة السبل الدبلوماسية، هذا يدفع إلى تفاؤل حذر. لكن حتى الآن لم نلمس أي مؤشر على خفض التصعيد على الأرض”.
وأكد ستولتنبرغ “نريد أن نرى سحب المعدات”، محذرا من أن “الإمكانات الموجودة في المكان تسمح بغزو شبه فوري”.
وتضع المؤشرات على الأرض والتصريحات المتفائلة للمسؤولين الأوروبيين، التضخيم الإعلامي الأميركي على الهامش.
وبينما تحذر الولايات المتحدة من غزو روسي الأربعاء أو في بحر هذا الأسبوع، توجه وزير دفاعها لويد أوستن إلى بروكسل الثلاثاء لإجراء محادثات مع أعضاء حلف شمال الأطلسي، ولتفقد قوات الولايات المتحدة في بولندا.
وتأتي زيارة أوستن في الوقت الذي قالت فيه روسيا إن بعض وحداتها العسكرية عادت إلى قواعدها بعد مناورات عسكرية بالقرب من أوكرانيا. ولم يتضح بعدُ عدد القوات التي سُحبت وإلى أي مسافة.
وبينما تنفي موسكو التخطيط لغزو أوكرانيا، قالت إنها من الممكن أن تتخذ إجراءات “عسكرية” لم تحددها، إذا لم تُلب مطالبها، ومنها تعهد حلف شمال الأطلسي بعدم السماح لأوكرانيا بالانضمام إلى عضويته مطلقا، وسحب القوات من شرق أوروبا.
ولمّح القادة الأوروبيون وأوكرانيا نفسها إلى مثل هذه التنازلات الاثنين على لسان المستشار الألماني، الذي قال “لا توجد حاليا أي خطط لقبول أوكرانيا في أحلاف غربية، مثل حلف شمال الأطلسي”.
وأوكرانيا ليست عضوا في حلف شمال الأطلسي، لكنها تلقت وعدا منذ عام 2008 بأنها ستمنح فرصة للانضمام، وهي خطوة من شأنها أن توصل الحلف الذي تقوده الولايات المتحدة إلى حدود روسيا.
ويقول بوتين إن علاقات أوكرانيا المتنامية مع الحلف قد تجعلها منصة إطلاق لصواريخ الحلف لتستهدف روسيا. ويقول إنه يتعيّن على روسيا وضع خطوط حمراء لمنع ذلك.
وقبل نحو ثماني سنوات، أدت احتجاجات ضخمة في ساحة الميدان بالعاصمة كييف، للمطالبة بتوثيق العلاقات مع الغرب، إلى إقصاء الرئيس الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش. وفي مواجهة صعود موجة من الساسة الموالين للغرب بوعود بتعزيز الديمقراطية ومحاربة الفساد، استولت روسيا على شبه جزيرة القرم الأوكرانية، مقر أسطول البحر الأسود الروسي ثم ضمّتها إليها.
ودعمت موسكو متمردين موالين لها استولوا على جزء من شرق أوكرانيا يغلب عليه النشاط الصناعي ويتحدث معظم سكانه باللغة الروسية، في حرب سقط فيها 14 ألف قتيل ولا يزال يسقط فيها المزيد من الضحايا.
ويقول محللون وخبراء عسكريون إنه لا يمكن سحب سيناريو الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم سنة 2014 على التصعيد الحالي مع كييف.
ويؤكد هؤلاء أن لا أحد من الأطراف، ما عدا الولايات المتحدة، مستعد للدخول في حرب تكلفتها باهظة على الجميع، بما في ذلك روسيا التي ستواجه عقوبات اقتصادية قاسية ولا “مثيل لها” وفق الغرب.
صحيفة العرب