نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريرا لديفيد سانغر قال فيه إن استراتيجية إطلاق التحذيرات الأمريكية من غزو روسي محتوم في روسيا تهدف إلى دفع موسكو لكي تثبت خطأ الأمريكيين، وهي استراتيجية تقوم على فكرة “اكشف أننا مخطئون” وتحمل معها مخاطر فقدان الولايات المتحدة مصداقيتها.
إلا أن مساعدي وزير الخارجية أنطوني بلينكن عبروا عن رغبة أمريكا في السير بهذا الطريق المحفوف بالمخاطر. وقالوا إنهم يفضلون اتهام المبالغة ونشر الرعب أكثر من صدق توقعاتهم باندلاع حرب قد تؤدي إلى مقتل عشرات الآلاف من الأوكرانيين في الساعات الأولى وتعيد العالم إلى أمر يشبه الحرب الباردة. وهم مستعدون لهذا السيناريو إن كان يمنع بوتين من غزو جارته الأوكرانية والتي لن يتوقف عندها. وقال بلينكن أمام مجلس الأمن الدولي في الأمم المتحدة “لو لم تغز روسيا أوكرانيا فسنشعر بالراحة بتغيير روسيا مسارها وثبوت خطأ توقعاتنا” و”ستكون نتيجة أفضل من المسار الذي نسير عليه الآن وسنتقبل بسرور أي نقد سيوجه إلينا”. وقال بلينكن “جئت إلى هنا ليس لبدء حرب، ولكن لوقف واحدة”، في إشارة لكلام كولن باول، وزير الخارجية الأمريكي الذي جلس في نفس المقعد محذرا وبطريقة كاذبة من خطر أسلحة الدمار الشامل التي زعم أن صدام حسين يملكها ولتبرير غزو العراق.
ولا يخفي جوي بايدن وبلينكن أن محاولتهما لمنع اندلاع الحرب قد تفشل. وزاد تشاؤمهما يوم الخميس عبر سلسلة من التصعيد بين القوى التي تدعمها روسيا بمنطقة دونباس في شرق أوكرانيا والتي حملت مسؤولية قصف روضة أطفال، وزعمت لاحقا أنها ردت على قصف من القوات الأوكرانية، وهو نفس الحادث الذي حذر منه بايدن أي “تحرك مزيف” لتبرير الحرب على أوكرانيا.
وكجزء من محاولات جبهة دولية ضد الحشود الروسيةعلى حدود أوكرانيا سيعقد بايدن مباحثات مع قادة حلف الناتو كجزء من مواصلة دبلوماسية الردع. وأكدت روسيا يوم الخميس أنها طردت الرجل الثاني في السفارة الأمريكية بموسكو وأرسلت لواشنطن رسالة مزدوجة سخرت فيها من التصريحات المتكررة من أنها ستغزو أوكرانيا. وقالت إنها لا تخطط لغزو، ولكنها أكدت على استخدام إجراءات فنية مدروسة الطابع إن لم يستجب الغرب لمطالبها الأمنية و “بضمانات ملزمة قانونيا”، ومن الواضح ما تعنيه “الإجراءات الفنية” من الحرب السيبرانية إلى نقل الأسلحة النووية قريبا من أوروبا الغربية أو الولايات المتحدة، وفي الوقت الذي أكد بايدن أن “كل الإشارات التي وصلت إلينا أنهم يحضرون للذهاب إلى أوكرانيا”.
وقال الدبلوماسيون والقادة الذين تدفقوا على ميونيخ للمشاركة في مؤتمر الأمن السنوي إن كل ما يأملونه عدم حدوث غزو ولكن حصار طويل. وفي ضوء هذا السيناريو فلن يتوقف بوتين عن عمل كل ما بوسعه من إرسال قواته إلى الحدود والقيام بحملة اغتيالات وهجمات إلكترونية وقطع للتجارة على أمل الإطاحة بالحكومة في كييف وبدون أن يؤدي كل هذا لفرض عقوبات عليه. وقال دوغلاس لوت، النائب السابق لمستشار الأمن القومي والسفير السابق لحلف الناتو “ما أحدسه هو أنه سيحاول تجنب اجتياز الحدود بالقوات الروسية وسيبحث عن خيارات أقل من هذه”. و “هو يستمتع بهذا الموقف” و “كل واحد يركز الانتباه عليه بطريقة لم يفعلوها منذ سنوات ويشعر أنه في مقعد السيطرة”.
وكل هذا يجري على السطح، لكن مساعدي الرئيس بايدن يبحثون من خلف الأضواء عن أدلة في تعليقات بوتين وأنه بالغ هذه المرة في اللعبة وأن حشوده العسكرية أدت لتوحيد القوى المتشرذمة وأعضاء حلف الناتو الثلاثين. واستطاع بوتين إنعاش حلف الناتو الذي لم يعرف على مدى السنوات الماضية ما هو هدفه بعد خسارة الحلف العدو الذي وحده وشكلت من أجل احتوائه: الاتحاد السوفييتي. وعادت سياسة الاحتواء من جديد، واتحد الحلفاء الأوروبيون وإن على تردد خلف خطة العقوبات وقطع التكنولوجيا عن الصناعة الروسية وفصل مصارفه الكبرى عن الأسواق المالية العالمية. وفي الوقت الذي حاول فيه الزعيم الروسي تحصين اقتصاده لتحمل صدمة العقوبات -خزينة حرب ملآنة وديون قليلة- إلا أنه يحاول البحث عن تصدعات لاستغلالها بدون المخاطرة باقتصاده. وواصل بايدن يوم الخميس الاستفادة من التميز في المواجهة وحقيقة لعب أزمة جيوسياسية بشكل مفتوح واعتمادا على مصادر معلومات استخباراتية علنية بهدف كشف الخداع الروسي. ولم تكن هناك حاجة هذه المرة إلى صور التقطتها طائرات تجسس للصواريخ السوفييتية في كوبا كي يخبر جي أف كيندي الأمريكيين بوجودها ويجبر الزعيم الروسي نيكيتا خروشوف على توقيع صفقة سرية عام 1962.
وفي هذه الحالة أسهمت أفضل الصورة موجودة خارج العالم السري، على التلفاز ومواقع الإنترنت والتويتر والصور التي التقطتها الأقمار الاصطناعية لشركات خاصة مثل ماكسر، في تحديد النقاش حول ما إن كان بوتين يسحب قواته أم أنه، كما تدعي أمريكا يزيد العدد الذي وصل إلى 150.000 جندي، الذي قال بايدن إنه احتشد على الحدود إلى جانب دبابات مخيفة وصفوف من الصواريخ. ولهذا السبب لم يجر أي نقاش حول وجود القوات الروسية على الحدود، فهي هناك ليراها العالم وهي جزء من سياسة الضغط التي يمارسها بايدن.
لكن اللغز الباقي بدون حل هو عما يريد بوتين عمله مع هذه الحشود. وفي البداية اعتقد المسؤولون الأمريكيون أن بوتين يريد استخدامها لتخويف الحكومة الأوكرانية ودفعها للتخلي عن خططها للانضمام إلى الناتو وفي وقت غير محدد بالمستقبل، ومنع انحرافها بالضرورة نحو الغرب. ولكن الوضع تغير عندما اقترح بوتين في كانون الأول/ديسمبر “معاهدة” وبدا أن بوتين لديه خطة أكبر وهي إخراج الولايات المتحدة وحلف الناتو من الدول التي كانت جزءا من الكتلة السوفييتية وانضمت إلى الناتو وإلغاء النظام العالمي الذي أنشئ بعد انهيار السوفييت قبل 31 عاما.
وقبل أسبوعين غير المسؤولون الأمريكيون تقييماتهم، وقالوا إن بوتين يستهدف العاصمة كييف بعدما اكتشف أن الهجمات الإلكترونية ليست كفيلة بإسقاط الحكومة هناك وأنه لا منأى عن الهجوم العسكري الشامل. وعليه، تحاول إدارة بايدن فحص الحد الأدنى لمطالب بوتين، فإذا كانت هناك مساحة لحل الموضوع عبر المفاوضات والاتفاق على معاهدة تحكم بالسلاح تعالج مظاهر قلق بوتين حول نصب نظامي اعتراض للصواريخ في بولندا ورومانيا أو التوافق على قواعد بشأن المناورات العسكرية التي تنظمها روسيا وحلف الناتو، فعندها هناك فرصة للحل، وهناك أيضا فرصة لإعادة التفاوض على التزامات مينسك بين أوكرانيا وروسيا بعد ضم شبه جزيرة القرم، والتي تجاهل الطرفان المبادئ التي لا تناسبه.
وبالنسبة للمسؤولين الأمريكيين والدبلوماسيين الذين يتوافدون على ميونيخ فإن بوتين لم يذهب إلى هذا الطريق وأنفق كل هذه النفقات ووضع ميراثه على المحك لمجرد الحصول على تعديل في النظام، فهو يريد قلبه. وتقول أنجيلا ستينت من معهد بروكينغر “منذ وصول بوتين إلى السلطة قبل 20 عاما وروسيا تحاول تحدي ذلك النظام” و”الأزمة الحالية هي في النهاية عن إعادة رسم خريطة ما بعد الحرب الباردة ومحاولة تأكيد تأثيره على نصف أوروبا وبناء على زعم أنها ضمان لأمنه”.
كل هذا لا يعني عدم وجود مخرج. ففي أزمة الصواريخ الكوبية والتي قربت العالم لعملية إبادة نووية، سحب خروشوف صواريخه مقابل وعد سري، نفذه كيندي بعد عدة أشهر وهو سحب نظام صواريخ جوبيتر من تركيا حيث كانت روسيا في مرمى هدف الصواريخ.
وهو مثال تاريخي كان حاضرا في غرفة الأزمة بالبيت الأبيض حول كيفية إدارة المفاوضات مع بوتين، وذلك حسب مشاركين في النقاش طلبا عدم الكشف عن هويتهما. وعندما عرض بلينكن في مجلس الأمن لقاء نظيره الروسي في أوروبا وبحث عقد “قمة للقادة الرئيسيين في سياق خفض التوتر والتوصل إلى فهم مشترك لمظاهر القلق الأمني” فقد كان عرضا للبحث عن “حوار حديث”. وبايدن ليس غريبا عن المقايضات
القدس العربي