أول السيناريوهين هو استمرار الحال على ما هو عليه أو تفاقمه، الأمر الذي يمكن أن يقود إلى احتمالات أخرى، وثانيهما سيناريو التوحيد، خصوصا إذا ما توفرت إرادة سياسية موحدة وظرف موضوعي وذاتي مناسب. ما الذي يمكن أن يحصل؟ وأي السيناريوهات المستقبلية سيكون أقرب إلى الواقع؟
سيناريو التفتت
1- التفتت الواقعي، وذلك بتحول الدولة إلى كانتونات أو فيدراليات أو “دوقيات” أو مناطقيات لا يربطها رابط وثيق بينها سواء كانت معلنة أم غير معلنة، معترفا بها أو غير معترف بها رسميا، داخليا أو إقليميا أو دوليا، لكنها قائمة بالفعل ويمثل إقليم كردستان نموذجا لها، من حيث السلطة والإدارة والموارد والخدمات، وهكذا تضمحل وتتقهقر الدولة تدريجيا.
2- التفتت الرسمي (الفعلي) وهو الشكل الفعلي للانقسام أو الانشطار وقد يتحقق بالقوة وبعد احترابات ونزاعات مسلحة، أو بالاتفاق سلميا، وقد يحصل على اعتراف دولي وإقليمي، وقد تأخذ الأقاليم المنقسمة أسماء أخرى غير الدولة القائمة أو تضيف شيئا إلى اسمها السابق.
وسيكون لهذه الدولة نشيدها الخاص وعلمها ورموزها، إضافة إلى مؤسساتها وتمثيلها الخارجي، ومن المحتمل أن يكون هذا التفتت الفعلي هو نتيجة أو مرحلة أخيرة للأمر الواقع، خصوصا إذا ما استمرت سلطات محلية بصلاحيات موسعة ونفوذ سياسي وعسكري واقتصادي، ناهيك عن امتيازات، حينها سيكون من الصعب تخلي النخب الحاكمة الإقليمية عنها.
3- الانضمام والإلحاق، وهو وسيلة أخرى للتفتت، تضاف إلى التفتت الواقعي والتفتت الرسمي (الفعلي)، إذْ من المحتمل أن تسعى بعض دول الجوار إلى ضم ما تبقى من الدولة أو شطرها عند الانقسام، سواء باستخدام القوة لفرض واقع جديد أو بدعوة من أطراف سياسية أو جماعات مسلحة وتحت عناوين التحالف والمصالح المشتركة “القومية” أو “المذهبية” أو غير ذلك.
وأعتقد أن الجارين الكبيرين والمحتربين تاريخيا على الأرض العراقية (بلاد ما بين النهرين) وهما تركيا وإيران يمكن أن يكونا جاهزين لاحتواء التفتت العراقي، خصوصا بالتمدد الجيوبوليتيكي.
ومن العوامل التي تساهم في تزايد التحدي وعدم الاستجابة الفعالة لحلول ممكنة الإخفاق في مواجهة الأزمات والمشكلات الحادة وعدم التمكن من تلبية المطالب الشعبية، بالقضاء على الفساد ومحاسبة المفسدين، وكذلك عدم التمكن من تحسين الخدمات، إضافة إلى استمرار التفاوت الشاسع بين الفئات الاجتماعية في الدخول والموارد، وعدم تحقيق المشاركة السياسية الحقيقية بما فيها المصالحة والتخلي عن مساعي الانتقام والثأر ومحاولة كسر شوكة الآخر، ناهيك عن شح موارد الدولة ووصول نموذجها التنموي إلى طريق مسدود، واقتراضها من البنوك الدولية وغير ذلك.
سيناريو الاستمرارية
وهذا يعني بقاء الوضع على ما هو عليه دون إحراز تقدم يُذكر، وذلك سيعني فشل الخطط المعلنة للإصلاح، بسبب عوامل الكبح والمعارضة من جانب الجماعات المتضررة من الإصلاح، خصوصا أن هناك تحالفا سريا بين مختلف الكتل والجماعات على عدم فتح ملفات الفساد.
وحين تجرأ العبادي -وإن كان تحت ضغط شعبي- على إعلان ذلك استنفر جميع الفرقاء (من الفاسدين) لوقف هذا المسلسل. وإذا توقف ولم يستطع الاستمرار فعلا، فإن ذلك سيكون سببا في الخيبات والمرارات التي سيعيشها العراقيون، وإن استمرار مثل هذا الأمر لفترة غير قصيرة سيؤدي إلى تعميق فشل الدولة الفاشلة والرخوة، ويساهم في تفتيتها وتشظيها.
ومن احتمالاته عدم بقاء رئيس الوزراء في موقعه، وانفتاح الأزمة على مصراعيها، فالأمر لا يتعلق بالعبادي، بل بمستقبل الدولة العراقية ومسألة مكافحة الفساد وملاحقة الفاسدين: فهل يمكن استمرار الدولة وهي غارقة حتى رأسها بالأزمات والمشاكل، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، خصوصا بفشل إدارتها وفشل إدارة حل الأزمة؟
هل سنذهب إلى انتخابات مبكرة؟ أم أن العبادي سيستخدم صلاحياته بإعلان حالة الطوارئ وتعطيل الدستور وحل البرلمان وتشكيل حكومة إنقاذ وطني جديدة انتقالية من كفاءات عراقية تحدد بعد سنتين مثلا الذهاب إلى انتخابات؟
إن استمرار الحال لم يعد ممكنا، وفي أحسن تقدير: إما الإطاحة بالعبادي، ولا سيما إذا بقيت الاصلاحات فوقية، وهو ما يذكر برغبة الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف في العام 1956 بإجراء إصلاحات لمعالجة آثار الحقبة الستالينية، لكن طاقم ستالين وجهازه ظل هو الحاكم والمتنفذ. وتدريجيا عادت الأمور كما كانت إلى حدود غير قليلة، وفي نهاية المطاف أزيح خروتشوف عن موقعه وحل ليونيد بريجينف محله وحكم بالبيروقراطية الاستبدادية ذاتها لعشرين عاما.
ثم جاء ميخائيل غورباتشوف إلى السلطة في العام 1985 فأعلن عن رغبته في إجراء إصلاحات جذرية، أطلق عليها “البريسترويكا والغلاسنوست” أي “إعادة البناء والشفافية”، لكنه واجه مشكلات جمة، فلم يكن لديه أدوات للإصلاح والتغيير، وكان جهاز الدولة منخورا والحزب مترهلا، ناهيك عن أنه لم يلتجئ إلى خطوات متدرجة وتراكمية وطويلة الأمد، ولهذه الأسباب لم يكن بإمكانه الاحتفاظ بالسلطة، ولكن هذه المرة لم يزح هو فحسب، بل أطيح بالاتحاد السوفياتي في العام 1991، بعد إسقاط الأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية بانهيار جدار برلين في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1989 .
صحيح أن العبادي ليس خروتشوف ولا غورباتشوف ولا يمكن مقارنته بأي منهما، كما أن العراق ليس الاتحاد السوفييتي، لكن هذا الاستطراد مع الفارق في التشبيه والحالة والزمان والمكان، يستهدف إلفات النظر إلى أن أمام العبادي طريق واحد للاستمرار، أو أنه إما أن ينحر أو ينتحر وقد يطاح بالعراق، إنْ لم يتخذ خطوات عاجلة وسريعة لتدارك ذلك.
ونقصد هنا بناء تحالفات جديدة خارج الطاقم الحاكم، لأن أعداءه يمثلون حيتانا كبيرة من داخل حزبه ومن خارجه، وليس معه أحد، لا السنية السياسية ولا الكرد، وحتى الحشد الشعبي فإن ولاءه الأساسي ليس له. وإن لم يستطع العبادي الإطاحة سريعا برؤوس الفساد، فسيطاح برأسه وقد تنهار الدولة العراقية.
سيناريو التوحيد
إذا كان هناك سيناريو التفتيت وسيناريو بقاء الحال دون تغيير، فالدراسات المستقبلية لا تهمل سيناريوهات أخرى أيضا، فهل هناك سيناريو توحيد؟ هذا السؤال هو مقدمة لحوار حول دور النخب بشأن مستقبل البلاد، فحتى موجة الاحتجاج هذه، هناك من يحاول ركوبها والاستفادة منها وتوظيفها بما فيها قوى تعاونت مع الاحتلال ومخرجاته، وكانت جزء من أسباب الخراب التي تعاني منها البلاد.
إن النخب الفكرية والثقافية والأكاديمية في العراق لا تزال ضعيفة ومستلبة وملحقة لحساب النخب السياسية التي بيدها القدح المعلى ولها سطوة عليها، بل إن لها القابلية على الاستتباع حسب توصيف المفكر الجزائري مالك بن نبي “القابلية للاستعمار”، ولا سيما أن النخب السياسية تملك المال والسلطة أو جزءا منها والنفوذ وأحيانا معها مليشيات وبعض دول الجوار أو القوى الدولية، ولذلك فإن أي استعادة لدورها يتطلب استعادة الوعي أولا واستعادة الإرادة. ويحتاج مثل هذا إلى التحدي والاستجابة الخلاقة لمتطلبات التغيير ونتائجه.
كما إن إجراء إصلاحات واستجابة لمطالب المتظاهرين قد يفتح آفاقا جديدة لنشوء كتل وجماعات سياسية تسهم في عملية التغيير. ويمكن القول إن القوى الدافعة للتوحيد والتغيير تمثل طيفا واسعا من القوى، ولكنها قد لا تكون منسجمة أو موحدة مع أن الكثير من المشتركات تجمعها، ولا تزال القوى المهيمنة، ولا سيما الدينية والطائفية والإثنية، تمنع وتعرقل أي لقاء بينها، بل وتضع العصا في دولاب أي تحرك باتجاه الحوار.
وهذه القوى هي: جماعات المصالح الاقتصادية والأحزاب والقوى السياسية المهمشة من داخل العملية السياسية أو من خارجها، إضافة إلى المجموعات الثقافية المتنوعة والتي تشعر بالغبن بسبب الإقصاء أو العزل أو التهميش أو حتى احتساب بعضها على النظام السابق، فجرى اجتثاثها، وبعضها من أصحاب الكفاءات والخبرات التي لا يستهان بها.
يضاف إلى ذلك مؤسسات المجتمع المدني من داخل وخارج العملية السياسية، ومراكز الأبحاث والدراسات والجامعات، فضلا عن أن البيئة الدولية والإقليمية قد تكون مشجعة للتوحيد لأسباب تتعلق بالخوف من انتقال عدوى التفتيت إليها، ناهيك عن فيروس الإرهاب.
وسيكون على عاتق الطبقة الوسطى، خصوصا المثقفين والأكاديميين والمفكرين دور مهم على صعيد التوحيد والتغيير، ويحتاج الأمر إلى جهود فكرية وثقافية وسياسية لتشكيل قوة ضغط لإعادة النظر بالدستور واعتماد قواعد اللامركزية الإدارية على صعيد الأقاليم الفيدرالية أو المحافظات على نحو صحيح ودون صفقات سياسية باعتبارها نظاما لتوزيع الثروة والسلطة، كما لا بد من اعتماد آليات توحيد ديمقراطية الأسلوب واجتماعية المضمون.
يبقى هناك أسس للتوحيد ولقيام دولة عصرية دستورية لا يمكن التجاوز عليها، وأولها الحرية وثانيها المساواة وثالثها العدالة، ولا سيما الاجتماعية ورابعها المشاركة، وكل هذه تصب في مبادئ المواطنة، التي تشكل جوهر الهوية الجامعة، مع احترام الهويات الخصوصية.
عبد الحسين شعبان
المصدر : الجزيرة