وقفت مسوّغات العدوان الإسرائيلي المتصاعد في الأراضي المحتلة، لاسيما القدس منها، وغياب الأفق السياسي، وضعف الدعم العربي الإسلامي للقضية الفلسطينية، وتواريها في المشهد الدولي، وراء استلال “جيل” ما بعد اتفاق “أوسلو” لزمام الانتفاضة “الشبابية”، بعيداً عن الناصية التنظيمية الفصائلية إزاء تراكم الأزمات الفلسطينية بدون إيجاد البدائل والحلول الناجعة لها.
وإذا كانت الأحداث الجارية في عموم فلسطين المحتلة، والتي يختلف كثيرون حول مسمّاها بين “الانتفاضة”، و”الهبّة الشعبية”، و”الحراك الغاضب”، قد أوجدت قلقاً وإرباكاً كبيرين في الداخل الإسرائيلي، فإن استمرار مسارها يقود إلى آثار سياسية، واقتصادية، ونفسية، وإعلامية سلبية إسرائيلية، فضلاً عن تبعات مختلفة الجوانب على المستويين الإقليمي والدولي، شريطة توافر مقومات ديمومتها.
إلا أن التنسيق الأمني بين الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية وسلطات الاحتلال، وغياب الإرادة الجمعّية الوطنية الموحدة، واستمرار الانقسام، والمعاكسة الإسرائيلية الأمريكية المضادّة، قد تشكل عوائق وازنة في مفاصل المقاومة الفلسطينية. وتبعا لذلك، فإن المسارات المحتملة للانتفاضة “الشبابية” الفلسطينية قيد المرحلة المقبلة تشير إما نحو الشمولية الوطنية الموحدة، أو “التقويض” بمحددات الداخل الفلسطيني والمشهد الإقليمي العربي والدولي، وبجهود استئناف المسار التفاوضي، أو انطفاء الشعلة حيناً دون توقفها كلياً.
دوافع الغضب الفلسطيني
شكلت الانتهاكات الإسرائيلية المتواترة للمسجد الأقصى المبارك الشرارة الحاسمة لإشعال وتيرة الغضب الفلسطيني العارم في القدس المحتلة، ومن ثم امتداده إلى باقي الأراضي المحتلة في عامي 1948 و1967، بعدما ترسخت قناعة فلسطينية بدأب الاحتلال، فعلياً، على تنفيذ مخطط التقسيم الزماني والمكاني للأقصى، وذلك من خلال تخصيص أوقات محددة لليهود لأداء صلواتهم فيه، مقابل منع الفلسطينيين من دخوله أثناءها، وتحديد الفئات العمرية لدخول المصلين إليه، مع وضع ما يسمى “القوائم السوداء” المدرجة بأسماء الفلسطينيات الممنوعات من الصلاة فيه. أضف إلى ذلك حماية اقتحامات المستوطنين المتكررة للمسجد، والاعتداء على المصلين، ووضع مخطط تقسيمه مكانياً بين المسلمين واليهود، إزاء تقاطر مختلف التيارات الإسرائيلية الرئيسية حول أفضلية الوقت الراهن لنفاذه، تمهيداً لإحكام السيطرة على الأقصى، في ظل المشهد الإقليمي العربي الراهن، والانحياز الأمريكي المفتوح للاحتلال.
إلا أن تفجرّ الأحداث الجارية في الأراضي المحتلة لا يعود إلى مطلع الشهر الحالي، بل إلى وقت مضى، إزاء تصعيد عدوان الاحتلال ضدّ الشعب الفلسطيني، عبر التهويد، والتنكيل، وهدم المنازل، ومصادرة الأراضي والاستيطان، الذي رفع عدد المستوطنين لأكثر من 800 ألف مستوطن في الضفة الغربية، بما فيها القدس المحتلة، وتسبب في تقويض المساحة المخصصة لإقامة الدولة الفلسطينية، ضمن حدود عام 1967 بالمستوطنات، والشوارع الالتفافية، والحواجز العسكرية، وما تبع ذلك من تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المعيشية للفلسطينيين، تزامناً مع حصار قطاع غزة، وإحكام السيطرة على الاقتصاد والموارد الطبيعية الفلسطينية، وشلّ حركة التنقل، وضرب الحركة التجارية في القدس المحتلة.
وزاد من ذلك غياب الأفق السياسي، بعد فشل مسار المفاوضات الممتد منذ قرابة 22 عاماً من دون أن يحرز شيئاً على صعيد الحقوق الوطنية الفلسطينية المشروعة في إنهاء الاحتلال والتحرر، وتقرير المصير، وحق عودة اللاجئين، مقابل استمرار الانقسام منذ عام 2007 بدون أي مؤشرات إيجابية تلوح في فضاء المصالحة، ومضيّ الاحتلال فيما يعتقده فعلاً عدوانياً بعيداً عن ضغط المساءلة والمحاسبة في ظل الانحياز الأمريكي له، وضعف الدعم العربي الإسلامي للقضية الفلسطينية، وتواري حضورها عن المشهد الدولي، مثلما تجلى في أغلبية الخطب المقدمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفي مقدمتها خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي غابت عنه القضية الفلسطينية غياباً تاماً، ولم تتم الإشارة إليها من قريب أو بعيد.
أمام تراكم الأزمات الفلسطينية، فقد غابت البدائل والحلول الناجعة من قبل القيادات الفلسطينية، وحلت مكانها “أنصاف” الخطوات غير المكتملة، كما تجسد عند اعتراف منظرّي المفاوضات بفشلها، ووصولها إلى طريق مسدود من دون وضع رؤية استراتيجية لمستقبل المشروع الوطني، عقب التقويض الإسرائيلي لحل الدولتين، بما يشابه تأكيد الحرص على عدم تطور الأوضاع الراهنة إلى انتفاضة وعدم عسكرتها، من دون الحديث، أيضاً، عن البدائل الممكنة لمواجهة عدوان الاحتلال.
لقد أنضجت هذه الأزمات الظروف المواتية لاندلاع التحرك الفلسطيني الغاضب، الذي تتجاذب حول تسميته الآراء بين “الانتفاضة”، و”الهبّة”، من دون استبعاد ظلال الانقسام القاتمة عنه، وسط محاولات التقليل من قدرته على إحداث تأثير “ما” في معادلة الصراع العربي – الإسرائيلي، وطرح تساؤلات حول أفق مساره وجدواه عما إذا كان خطوة نحو إنهاء الاحتلال وتقرير المصير، أم تحسين ظروف الاحتلال، أو أداة ضاغطة لتعديل البيئة التفاوضية في ظل الجهود الأمريكية الراهنة لاستئناف المفاوضات.
وفي ظل المشهد الإقليمي العربي الصعب، وانشغاله بقضاياه الداخلية، والتجاهل الدولي للقضية الفلسطينية، وتراكم الأزمات في الساحة المحتلة، فقد خرج الشبان الفلسطينيون إلى الشارع، وهم من الجيل الذي ولد في غالبيته ما بعد اتفاق “أوسلو” (1993)، حيث يقع معظمه في الفئة العشرية الثانية من العمر، ويصل عمقاً حدّ 13 سنة، بما يستدل على ذلك، مثلاً، من لوائح الشهداء التي وصلت حصيلتها حتى الآن إلى أكثر من 53 شهيداً، من بينهم 11 طفلاً، وأم حامل، منذ بداية أكتوبر 2015، وذلك لتذكير العالم بأن قضيته حيّة ونابضة لم تمت، ولإعلان غضبه من كل ما يجري في الداخل، وعلى المستويات العربية والإقليمية والدولية.
لقد أخذ هؤلاء الشبان زمام مبادرة التحرك ضدّ عدوان الاحتلال، من دون أن يقف خلفه أي تنظيم أو فصيل معين، حيث يلاحظ أنهم من مختلف التوجهات والتيارات، كما يستدل على ذلك من لوائح الشهداء الذين يسقطون على يدّ قوات الاحتلال، فأعلن انتفاضته الشبابية العفوية بأدواته المتوافرة من الدهس، والسلاح الأبيض، للمقاومة ضدّ آلة الحرب الإسرائيلية العدوانية.
ضعف “الحاضنة” الرسمية
إن الفجوة التي تعمقت منذ سنوات ما بعد “أوسلو”، وتجذرت في الآونة الأخيرة، ما بين القيادات السياسية الفلسطينية، والشعب الفلسطيني، وتحديداً فئة الشباب منه، قد تجلت بشكل واضح في هذا التحرك، حيث لم تستجب القيادات الفلسطينية للنداءات الشعبية، وبقيت تدور في إطار البحث عن حلول لا أفق لها، مما أدى إلى غياب الرؤية الاستراتيجية الوطنية الموحدة للقيادات الفلسطينية لتجاوز الأزمات، والانفتاح على إرادة الشعب باتجاه انتفاضة شاملة.
من هنا، يقع الاختلاف البائن بين هذه الانتفاضة “الشبابية” وانتفاضتي عام 1987 و2000، من دون تجاوز الظروف المصاحبة لها، حيث لم تكن هناك سلطة في الانتفاضة الأولى، التي سميت بانتفاضة الحجارة، وبالتالي كان هناك احتكاك مباشر مع قوات الاحتلال، خلافاً للثانية، التي اندلعت في عهد الرئيس (الشهيد) ياسر عرفات، وللانتفاضة الحالية، التي تقع في عهد الرئيس محمود عباس.
فبينما سعى الرئيس عرفات، في مواضع كثيرة، للأخذ بناصيتي التفاوض والمقاومة معاً، وتعزيز التنسيق مع الفصائل الفلسطينية، الذي تجسَّد في أثناء انتفاضة الأقصى 2000-2005، التي أعادت تغذية الخطاب السياسي الفلسطيني بلغة حركة التحرر الوطني في مقاومة الاحتلال، وولّدت أشكالاً من الوحدة التنظيمية القاعدية، عبر عقد اجتماعات دورية، وإصدار بيانات مشتركة، افتقدتها ساحة انتفاضة 1987، فضلاً عن دعم الرئيس للمقاومة، تسليحاً وتدريباً وتمويلاً، ودعم الحوار الوطني مع مختلف الفصائل، بما فيها حركتا حماس والجهاد الإسلامي، فقد ظلّ في الوقت نفسه يعلن إصراره على الالتزام بمسار التسوية السلمية كخيار استراتيجي.
أما الرئيس عباس، فقد أصرّ على الالتزام بمسار التسوية السلمية، ودعم “المقاومة الشعبية السلمية”، وتأكيد التفاوض، بحسبانه “خياراً استراتيجياً وحيداً لإحلال السلام في المنطقة”. غير أن الخطاب الذي تقدم به أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، في 30 سبتمبر 2015، كان حاسماً عند الإعلان بأن “الجانب الفلسطيني لا يمكنه الاستمرار بالالتزام بالاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل، ما دامت مصرة على عدم الالتزام بها، وترفض وقف الاستيطان، والإفراج عن الأسرى”. إلا أن المراقبين الفلسطينيين يشيرون إلى استمرار التنسيق الأمني، وغياب النقاش الجاد حول مصير السلطة، وبدائل حل الاتفاقيات مع الاحتلال.
مسارات محتملة
تشير الانتفاضة “الشبابية” الفلسطينية، الجارية في الأراضي المحتلة، لمسارات محتملة قيد المرحلة المقبلة، والتي إما أن تأخذها نحو الشمولية الوطنية الموحدة، أو تقوّضها بمحددات الداخل الفلسطيني، والمشهد الإقليمي العربي والدولي، وبجهود استئناف المسار التفاوضي السياسي، أو تطفئ شعلتها حيناً دون وقفها كلياً.
– استمرارية الانتفاضة: قد يكتب للانتفاضة الاستمرارية، في ظل العدوان الإسرائيلي المتواصل ضدّ الشعب الفلسطيني، وغياب الأفق السياسي، وعدم توافر البدائل والحلول الناجعة للأزمات الفلسطينية المتراكمة، واستمرار الانقسام الفلسطيني.
لقد أحدثت الانتفاضة “الشبابية” قلقاً وإرباكاً كبيرين لدى المؤسسة العسكرية والسياسية الإسرائيلية، نظير مفارقة حسابات تقدير الاحتلال الأمنية للوقائع الميدانية المتفجرّة، مما يعكس نفسه في صور ارتفاع وتيرة التوتر والاحتقان في الداخل الإسرائيلي، واستدعاء الاحتياط من جنود الاحتلال، واتخاذ الإجراءات الأمنية المشددة في الشوارع وأماكن النقل والحافلات تحسباً لتنفيذ عمليات “طعن” جديدة باتت تشكل مصدر هلع وفزع عند الإسرائيليين، مما أسفر عن وقوع بضعة قتلى بين صفوفهم على يد قوات الاحتلال والمستوطنين أنفسهم الذين كانوا يعتقدونهم من الفلسطينيين.
إن استمرارية الانتفاضة ستؤدي إلى آثار سياسية، واقتصادية، ونفسية، وإعلامية سلبية على الجانب الإسرائيلي، بعيداً عن الرؤية الأحادية في التقييم التي تأخذ بحصيلة عدد الشهداء من الجانب الفلسطيني، وعدد القتلى من الجانب الإسرائيلي.
وقد لاحت بوادر تلك التأثيرات السلبية، من خلال المعطيات الإسرائيلية التي تبين تراجع الحركة السياحية منذ مطلع الشهر الحالي، مع إيراد بواعث القلق من تراجع معدل النمو الاقتصادي عند استمرار الانتفاضة، فضلاً عن زعزعة صورة الجانب الإسرائيلي في الرأي العام الدولي، إزاء تراجع نسبة التأييد لدى أغلب شعوب العالم، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، وتزايد مطالبات مقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، وتزايد وتيرة المقاطعة الأكاديمية والثقافية الغربية لنظيرتها الإسرائيلية.
إن ذلك من شأنه أن يقود إلى إعادة النظر في العملية السياسية وفق الاستحقاقات الفلسطينية، ومراجعة مخطط تقسيم المسجد الأقصى المبارك، واستعادة القضية الفلسطينية لمكانتها في مساحة الاهتمام العربي والدولي، بعدما أحيت حراكاً عربياً ودولياً كان مفقوداً منذ فترة، شريطة توافر محركات ديمومتها، بما يتطلب وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، وإيجاد رؤية استراتيجية وطنية موحدة، وتشكيل قيادة سياسية للانتفاضة، تضمّ في صفوفها الفئة الشابة، ضمن برامج وأهداف محددة، تقوم بتوجيهها وتنظيمها، تزامناً مع ضرورة إنهاء الانقسام، وتحقيق الوحدة الوطنية، وليس الاستفادة من الظروف التي أوجدها الحراك من أجل تحسين ظروف الاحتلال، أو لأجل استئناف المفاوضات بشروط فلسطينية.
وذلك يقتضي، أيضاً، عدم الاستجابة للضغوط الغربية، خاصة الأمريكية منها، والضغوط الإسرائيلية من أجل إجهاض الانتفاضة، مقابل المطالبة بعقد جلسة عاجلة لمجلس الأمن الدولي، يتم فيها تحديد موعد لإنهاء الاحتلال.
– تقويض الانتفاضة: قد يؤدي التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال، وغياب الإرادة الجمعية الوطنية الموحدة، والمعاكسات الإسرائيلية الأمريكية المضادّة، إلى عرقلة استمرارية الانتفاضة و”تقويضها”، وسط محاولات التقليل من قدرتها على إحداث تأثير “ما” في معادلة الصراع العربي – الإسرائيلي، وطرح تساؤلات حول أفق مسارها وجدواها عما إذا كانت خطوة نحو إنهاء الاحتلال، وتقرير المصير، أم تحسين ظروف الاحتلال، أو أداة ضاغطة لتعديل البيئة التفاوضية في ظل الجهود الأمريكية الراهنة لاستئناف المفاوضات.
وقد تسهم تلك الإشكاليات المضادّة، والظروف الراهنة في المشهد الإقليمي العربي والدولي، إلى إطفاء شعلة الانتفاضة “الشبابية”. غير أنه ليس شرطاً أن تستمر المقاومة على الوتيرة ذاتها، فقد تخبو أحياناً، وقد تنشط في أحايين كثيرة من دون أن يعني ذلك توقفها، حيث تـُظهر خبرات التحرر الوطني، والنماذج التاريخية السابقة أن الخلل في التوازن القائم بين قوى الاستعمار والشعوب المناضلة ضدها لمصلحة الأولى لم يحلْ دون مآل المحصلة الاستراتيجية النهائية إلى مصلحة قوى الشعوب الساعية إلى التحرر، وتقرير المصير.
د. نادية سعد الدين
مجلة السياسة الدولية