تواجه أوروبا أزمة كبيرة في الطاقة بعد تقليص روسيا للإمدادات الغازية في السوق الأوروبية، كما تقلص المخزون الأوروبي من احتياطي الغاز إلى 47 في المئة، وفي نفس الوقت يلجأ الأوروبيون إلى الطاقة الكهربائية والشمسية نظرا للتكلفة الباهظة لفاتورة الغاز التي ارتفعت قبل بداية الأزمة.
هذا أول الغيث، من الأزمة الأوكرانية – الروسية، والتي وفي حال ما انتهت بغزو بوتين لكييف، سترفع الأسعار مجددا وتزيد من حدة التضخم الذي سيطال الولايات المتحدة، وسيعطل الاقتصاد العالمي في مرحلة التعافي من الجائحة. هذا التضخم الذي سيرفع التكلفة المعيشية في بلدان أوروبا والولايات المتحدة سيحرك الشارع ضد الحكومات ومن الأرجح أن يكون له أثر على تراجع شعبية الرؤساء.
يحاول الإعلام أن يوحي للجميع بأن بوتين في ورطة، وأن العقوبات الاقتصادية التي تتوعد بها أوروبا موسكو ستوقف تحركه عسكريا ضد أوكرانيا، ولكن في الحقيقة بوتين يملك أوراقا رابحة تجعله يمسك بزمام الأمور فهو يتحكم في تزويد أوروبا بما يعادل 40 في المئة من حاجتها من الغاز، الذي تعتمد عليه 3 دول مؤثرة في أوروبا بنسبة معتبرة؛ فألمانيا تعتمد على الغاز الروسي بنسبة تصل إلى 16 في المئة، وإيطاليا 12 في المئة، وفرنسا 8 في المئة.. ولن تكون المسألة سهلة لإيجاد بديل بأقصى سرعة، خاصة وأن مسألة اللجوء إلى الطاقة النووية فكرة تصطدم بالرفض الشعبي في بعض البلدان.
لن تستطيع أوروبا إيجاد البديل عن الغاز الروسي بسهولة، ولن تكون الولايات المتحدة أو قطر قادرتين على سد العجز إذا أقدمت روسيا على وقف إمداداتها من الغاز إلى أوروبا، فالبنية التحتية في أوروبا ليست مصممة لاستيعاب هذا التحول الكبير من الغاز الروسي إلى الغاز الطبيعي المسال، زيادة عن ذلك التكلفة الباهظة لنقل الغاز الأميركي لن تحل المشكلة، كما أن اللجوء إلى النرويج لسد جزء من الفجوة التي ستنجم عن توقف الإمدادات الروسية، لن يكون مجديا بسبب قاعدة الموارد المحدودة، فضلا عن تقديرات العديد من الخبراء بأن إنتاج الغاز النرويجي سينخفض اعتبارا من عام 2024.
كان بوتين ماكرا في اختياره لتوقيت التصعيد فأوروبا مع دخول فصل الشتاء وعز الحاجة إلى الطاقة، حيث أن شركة غاز بروم الروسية اتخذت قرار تقليص إمداداتها الغازية لأوروبا ابتداء من شهر أكتوبر الماضي، وبالتالي هو يتحكم في زمام الأمور اقتصاديا، ويجبر حلف الناتو على التعامل معه بمنطق القوي، ويهدد الولايات المتحدة برفع مستويات التضخم فيها إلى أكثر من 10 في المئة على أساس سنوي إذا ارتفعت أسعار النفط مجددا. إن حاجة أوروبا لغاز ونفط بوتين وحاجة الولايات المتحدة لاستقرار الأسعار دفعتهما إلى السقوط في فخ بوتين الذي لا يزال يصر على أن تبقى أوكرانيا بعيدة عن الناتو.
تبدو المعركة الاقتصادية متكافئة بين الروس والأوروبيين، فبالرغم من التلويح بالعقوبات الاقتصادية إلا أن الجميع بمن فيهم الولايات المتحدة يدركون أن ردة الفعل الروسية ستكون قاسية وستزيد من حاجة أوروبا للطاقة، الأمر الذي سيؤثر بشكل كبير على الاقتصاد العالمي في حال ما إذا استمر النسق التصاعدي لأسعار النفط والغاز، كما أن حلفاء روسيا مثل إيران وفنزويلا مستفيدون وبشدة من هذه الأزمة لأنها تنعش خزائنهم، وبالتالي فإن أي تحرك من جانبهم سيكون داعما للموقف الروسي.
الحديث عن العقوبات الاقتصادية ضد روسيا لن يثني بوتين عن المضي قدما في ما يصبو إليه، إذ أنه يدرك تماما أن الغاز ورقة رابحة وأن حاجة أوروبا إلى الطاقة ستجعل الدول والقادة يفكرون في إيجاد حل يرضي جميع الأطراف، ويجنب العالم الدخول في أزمة عالمية للطاقة ستزيد من الفقر والبؤس والغلاء، وقد تعصف بحكومات ورؤساء ولهذا فإن الحل السلمي للأزمة يخدم الولايات المتحدة وأوروبا أكثر من خدمته لبوتين.
العرب