الدوحة – جاءت المواقف التي تم إعلانها خلال مؤتمر الغاز الذي احتضنته العاصمة القطرية معبرة عن التناقضات في المشهد السياسي والاقتصادي الدولي؛ فالكل يتحدث عن معطيات وخطط لا يقدر على تجسيمها على أرض الواقع. وفيما يريد الغرب تحويل ورقة الغاز إلى جزء من المناكفة الدبلوماسية مع روسيا، أظهرت التصريحات أن من الصعب الآن توظيف هذه الورقة في تلك المناكفة، فأوروبا لا تمتلك بدائل وخططا في حين أن موسكو هي التي تتحكم في الصنبور.
وفي الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة وأوروبا للرد على قرار روسيا الاعتراف باستقلال مقاطعتين تابعتين لأوكرانيا بتوظيف الغاز كورقة ضغط على موسكو، ظهر بالكاشف أن تلك الورقة قد لا تتجاوز مستوى التلويح الدبلوماسي والإعلامي في ظل استحالة تحويلها إلى قرار قابل للتنفيذ بسبب تشابكات في المصالح وصعوبة الاستغناء عن الغاز الروسي ولو مرحليا.
وكشف التصعيد الروسي -الذي كان متوقعا منذ أشهر- محدودية حرب الغاز التي كان الغرب يلوح بها في وجه روسيا محذّرا إياها من مغبة أن تخطو أي خطوة ضد أوكرانيا، لكنه عجز عن خلق البدائل الكافية التي تجعله يتخذ قرارا يقضي بوقف استيراد الغاز من موسكو بشكل كامل.
ورقة الغاز لا تتجاوز مستوى التلويح الدبلوماسي والإعلامي في ظل استحالة تحويلها إلى قرار قابل للتنفيذ
ويعتقد مراقبون أن إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اعترافه باستقلال مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك يهدف إلى إظهار محدودية الخيارات الخاصة بالعقوبات الغربية على بلاده من بوابة الغاز، وأن لا خيار أمام الجميع سوى تقبل الوضع الناشئ عن رغبة روسيا في استعادة نفوذها في الجمهوريات المحيطة بها، والتي كانت جزءا من الاتحاد السوفييتي.
وإلى حد الآن اكتفت ألمانيا بإعلان تعليق المصادقة على تشغيل خط أنابيب الغاز “نورد ستريم 2” المصمم خصيصا لنقل الغاز الطبيعي الروسي مباشرة إلى أوروبا، وهو في الأصل لم يبدأ العمل بعد، والمشروع متوقف منذ مدة بسبب ضغوط أميركية ولا يمكن اعتبار تعليق العمل به عقوبة طالما أنه لا يعمل ولا ينقص من الكميات الروسية التي تمر باتجاه أوروبا كما لا ينقص من العائدات.
وأعلن المستشار الألماني أولاف شولتس الثلاثاء أنه طلب من الهيئة الألمانية الناظمة المسؤولة عن المشروع تعليق عملية مراجعته. وقال إن هذه المسألة “تبدو تقنية، لكنها خطوة إدارية ضرورية تمنع أي مصادقة على خط الأنابيب. ومن دون هذه المصادقة لا يمكن بدء تشغيل نورد ستريم 2”.
وأثار حديث الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون عن “حوار مثمر” بين منتجي الغاز ومستهلكيه تساؤلات حول قدرة الجزائر على التوصل إلى نتيجة من هذا الحوار، وهي التي قطعت خط أنابيب ينقل الغاز إلى أوروبا ويزود المغرب بجزء من احتياجاته دون التفكير أساسا في فتح حوار معه، ولا التفكير حتى في مصالحها.
ويقول مراقبون إن رغبة السلطات الجزائرية في إلحاق الأذى بالمغرب سياسيا دفعتها إلى المقامرة باستثماراتها في مجال الغاز، وإن وقف التصدير عبر هذا الخط يمكن أن يسبب خللا في التزام الجزائر تجاه إسبانيا بدرجة أولى ثم أوروبا، فما بالك بأن توفر بديلا للتغطية على وقف تصدير الغاز الروسي نحو أوروبا سواء بقرار من موسكو أو من أوروبا كورقة ضغط في المعركة الدبلوماسية.
وقال تبون إن بلاده تعتبر أن لدى “منتدى الدول المصدرة قدرة على لعب دور أكثر فاعلية لترقية استخدامات الغاز الطبيعي وإقامة حوار بنّاء ومثمر بين مختلف الفاعلين في أسواق الغاز”.
أما قطر التي تحرك الأميركيون لإقناعها بضرورة ضخ كميات هامة إلى أوروبا فقالت إنها لا تقدر على زيادة أكثر من 15 في المئة مما تضخه الآن لحلفاء قارّين.
وقال وزير الدولة القطري لشؤون الطاقة سعد الكعبي الثلاثاء إن قطر يمكنها تحويل ما بين 10 و15 في المئة من صادراتها من الغاز إلى عملاء مختلفين عن أولئك الذين تعاقدوا معها في البداية على البيع.
وقال في مؤتمر صحافي بالدوحة في ختام مؤتمر الغاز إن بعض كميات الغاز التي تم التعهد بها بالفعل لبريطانيا يمكن تحويلها، مشددا على أن غالبية كميات الغاز التي تصدرها بلاده مرتبطة فعلا بعقود طويلة الأجل.
رغبة السلطات الجزائرية في إلحاق الأذى بالمغرب سياسيا دفعتها إلى المقامرة باستثماراتها في مجال الغاز
وأضاف هؤلاء المراقبون أن قطر تبيّن لها أنه لا يمكن إغضاب المستهلكين الكبار مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية. وكذلك من الصعب عليها الدخول في معركة لي ذراع مع روسيا كشريك رئيسي في منظمة الغاز لأجل مصالح ظرفية.واعتبر المراقبون أن كلام الكعبي جاء مخيبا لآمال الأوروبيين، وخاصة الولايات المتحدة التي سعت لأن تدفع الدوحة إلى مضاعفة إنتاجها وتوفير كميات مهمة يمكن من خلالها الضغط على روسيا، مشيرين إلى أن الموقف القطري أظهر كذلك أن الدوحة لم تستطع الإيفاء بالوعود التي قطعها أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني خلال زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة، وأن الكلام شيء والأفعال شيء آخر تماما.
وبالتزامن مع الصعوبة التي تعترض قطر في سعيها لتعديل خططها من أجل توفير بدائل لأوروبا، لم يجد الأوروبيون بدائل أخرى جاهزة لاستيراد الغاز، خاصة أن دولا مثل الجزائر -التي يفترض أن تكون واحدة من هذه البدائل- تعيش أوضاعا خاصة يسيطر فيها الارتباك السياسي على قضية توريد الغاز.
وتأسس “منتدى الدول المصدرة للغاز” في ديسمبر 2008 كمنظمة حكومية دولية مقرها الدوحة، وتُعنى بوضع إطار لتبادل الخبرات والمعلومات بين الدول الأعضاء ورفع مستوى التعاون والتنسيق بينها.
ويضع المنتدى ضمن أهدافه آلية لإقامة حوار بنّاء بين منتجي الغاز ومستهلكيه بغرض تحقيق الاستقرار والأمن بالنسبة إلى العرض والطلب في أسواق الغاز الطبيعي على المستوى العالمي.
ويضم المنتدى في عضويته 11 دولة؛ هي الجزائر وبوليفيا ومصر وغينيا الاستوائية وإيران وليبيا ونيجيريا وقطر وروسيا، وترنيداد وتوباغو، وفنزويلا، بينما تحمل دول أنغولا وأذربيجان والعراق وماليزيا والنرويج وبيرو والإمارات صفة عضو مراقب.
العرب