روسيا لغز يحيطه الغموض داخل مجهول”، قال تشرتشل قبل 33 سنة، ويخيل أنه قول ساري المفعول حتى اليوم. فالأجواء حول أزمة أوكرانيا بلغت نقطة غليان في الأيام الأخيرة، وليس واضحاً بعد، عند كتابة هذه الكلمات، إلى أين تتجه الأمور. ما زالت الحرب في هذه الأثناء نفسية. الرئيس بايدن، الذي يتخذ موقفاً حازماً بإلهام من اعتبارات عالمية وسياسة داخلية على حد سواء، أعلن “أنه مقتنع بأن بوتين قرر احتلال أوكرانيا”. أما بوتين فيواصل تحريك القوات هنا وهناك وفي الوقت نفسه يدعي بأنه معني بالسلام (مخططو الهجوم يدعون دوماً بأنهم معنيون بالسلام)، وإذا ما منعت الحرب عقب لقاء بينهما، فسيعرض بايدن وبوتين ذلك كإنجاز لسياستهما.
سواء أكان حسماً أم لم يكن، فالدوافع الروسية واضحة: فبالإضافة إلى الانفعالات التاريخية والقومية بوجود جذور أمة روسية في أوكرانيا بعامة وكييف بخاصة، فإن أوكرانيا تشكل لهم عمقاً استراتيجياً حيوياً (مثل المملكة الأردنية بالنسبة لإسرائيل). تعتقد روسيا بأن مطالبتها بعدم ضم أوكرانيا إلى الناتو يستند إلى تصريحات لوزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر للرئيس الروسي غورباتشوف، بأن حلف الناتو بعد توحيد ألمانيا، لن يتوسع شرقاً. واشنطن تنفي وجود تعهد كهذا، ولكن نية موسكو واضحة: إدخال أوكرانيا ومناطق أخرى في محيطها ضمن النطاق الروسي. ليس للأزمة الأوكرانية في هذه المرحلة آثار مباشرة على إسرائيل، لكن ميول روسيا الأوسع بدعم من الصين لإقامة “نظام عالمي جديد”، على حساب مكانة الولايات المتحدة العليا الحالية، من شأنها أن تؤثر علينا أيضاً.
تتخذ حكومة إسرائيل جانب الحياد العملي في الأزمة الحالية، وهذا صحيح من ناحية مبدئية ومن ناحية الواقعية السياسية على حد سواء. وعلى أي حال، تكاد تكون هذه هي الخطوة الدبلوماسية الإيجابية الوحيدة التي اتخذتها هذه الحكومة بمبادرتها منذ قيامها. ومع أنه ينبغي الترحيب بتوسيع العلاقات مع إمارات الخليج والبحرين، غير أنها كانت وليدة سياسة بنيامين نتنياهو لخلق شرق أوسط جديد يقوم على المصالح المشتركة بين دول المنطقة على نحو منفصل عن المسألة الفلسطينية، وليس ثمرة استراتيجية الحكومة الحالية. أما ما يتعلق بموضوع الاتفاق النووي الإيراني الذي قد يوقع في أي لحظة، فالحكومة تبدو عديمة الوسيلة وتجس خطاها في الظلام.
جاء في إحدى الصحف أن الحكومة قررت إدارة “سياسة خارجية ليبرالية”، دون أن تفسر المعنى: هل المقصود تبريد العلاقات في أوروبا الشرقية وربما مع الهند ودول معينة في أمريكا اللاتينية تؤيد إسرائيل، في صالح دول تجد “الليبرالية” لديها تعبيرها أساساً باتخاذ مواقف مناهضة لإسرائيل أو مؤيدة للفلسطينيين؟ أم أن العلاقات الخارجية والدبلوماسية موضوع مصالح وعلاقات للسياسة والأمن والاقتصاد، وليس للنزعات الأيديولوجية المزعومة. مركز سياستنا الخارجية هو في علاقاتنا مع الولايات المتحدة. ومؤخراً، نشرت المجلة الأمريكية “بوليتيكو” مقابلة مع نائب وزير الخارجية عيدان رول، بعنوان “هل يمكن إعادة بناء تأييد الديمقراطيين لإسرائيل؟”. يتخذ النائب رول صورة الشخص العملي والفهيم الذي يحاول التصدي للعقبات الواقفة في طريق العلاقات آنفة الذكر، والمرء يكون انطباعاً بأن بعض مفاهيمه حول الوضع المقلق الحالي مع الديمقراطيين يعتمد على سوء فهم الواقع السياسي الحالي في أمريكا. وأخطر من ذلك، يبدو في كلامه ميل للرقص مع اليسار الأمريكي.
في الماضي، قامت علاقات إسرائيل والولايات المتحدة على أساس القيم المشتركة، ولكن طرأ تدهور خطير في الولايات المتحدة حول هذه القيم، حيث تنتشر في أجزاء من الحزب الديمقراطي مواقف مناهضة لإسرائيل، ولاسامية بوضوح لا يمكن لأي كلمات لطيفة أن تجدي في تغييره. صحيح أن هناك مؤشرات أولية على بداية يقظة ما ضد اليسار المتطرف بين المصوتين للديمقراطيين، ولكن المجموعة آنفة الذكر المسماة “التقدمية” هي التي تعطي النبرة في قسم من مواقف الحزب كله، وهذا لا يرتبط بموقف إسرائيل هذا أو ذاك، بل بنهج مقصود مناهض لإسرائيل. هناك من يدعي أن حكومة نتنياهو كانت قريبة من طاولة الجمهوريين رغم أن هذا برر نفسه من حيث النتائج، وبالنسبة للحكومة الحالية، يبدو أن هذا تركز على حماسة زائدة للجيب الديمقراطي. أحياناً، قد يكون هذا التماثل أحادي المسلك مبرراً، ولكن على إسرائيل ألا تتحيز إلى جانب ما في الطيف السياسي الأمريكي، فما بالك أن هذا الطيف قد يتغير وربما في المستقبل القريب أيضاً. يمكن أن تلتصق الدبلوماسية الحكيمة بالإدارة الحالية، وأن نكون أيضاً منصتين للعلاقات مع الحزب الذي في المعارضة، ولدينا تجربة طيبة في هذا الشأن.
القدس العربي