تصاعد الحديث بقوة عن عودة عالم متعدد الأقطاب بعد بدء الحرب الأوكرانية الحالية، على الأقل من جانب مؤيدي روسيا ومناهضي الهيمنة الأمريكية. فتلك الحرب، بحسبهم، ستعيد ترتيب موازين القوى ومناطق النفوذ الدولي، كما ستكون لها آثارها الاقتصادية والثقافية، التي يمكن أن تصيب المركزية الغربية في مقتل.
إلا أن فكرة تعدد الأقطاب تبدو إشكالية للغاية، إذ يؤكد كثير من المؤرخين أن المنظومة الاقتصادية العالمية لم تكن يوماً “متعددة”. والاتحاد السوفييتي نفسه، في أوج قوته، لم يتمكن من فك ارتباطه بالاقتصاد السلعي والتجارة الدولية الرأسمالية، بل ظل دوماً على هامشها، يستفيد من عائداتها وريوعها.
كما أن الأزمة الاقتصادية، التي ساهمت في الإطاحة به، كانت جانباً من أزمة عامة في الاقتصاد العالمي، نجحت الدول الغربية بالخروج منها بفضل عوامل معقدة. إضافةً إلى أن الأشكال المتعددة للسلطة السوفييتية، التي انتقلت من “الدولة البوليسية” زمن ستالين، إلى “الدولة البيروقراطية الاجتماعية” في عهد خلفائه، لم تكن نموذجاً تنظيمياً وسياسياً فريداً، بل عُرفت لها نظائر سابقة ومعاصرة في دول كثيرة، على اختلاف أنظمتها، سواء كانت رأسمالية أو حتى عالمثالثية.
وبالتالي فإن ما جعل الاتحاد السوفييتي قطباً مضاداً لم تكن قدرته على ابتكار نموذج عالمي جديد لتسيير شؤون البشر، بقدر إمكانياته العسكرية ونفوذه الاستراتيجي، وربما بشكل أساسي سعيه للهيمنة الأيديولوجية، عبر نشر مجموعة من الأفكار والقيم على الصعيد العالمي. وإذا كانت روسيا المعاصرة ما زالت تحافظ على جانب كبير من الإرث العسكري السوفييتي، وتسعى إلى الدخول في لعبة الصراع الاستراتيجي مع الدول الغربية، فإن قدراتها على المستوى الثقافي/الأيديولوجي تبدو موضع تساؤل.
سبق للمنظرين والمثقفين السوفييت العمل بنشاط في كل المجالات، وعممت دور النشر والإذاعات ومؤسسات الإنتاج السينمائي والموسيقي السوفييتية الأفكار والجماليات، التي أرادت قيادة الاتحاد السوفييتي إيصالها للعالم بكل اللغات، ونجحت بتكوين قاعدة عالمية عريضة من المتابعين والمتعاطفين. مدعومةً بسلسلة من الأحزاب والتنظيمات الشيوعية، وحركات التحرر الوطني الموالية، ذات النفوذ الشعبي الكبير، اليوم يتحدث كثيرون عن أفكار جديدة تروجها روسيا، على رأسها أيديولوجيات الأنظمة التسلطية والحركات الشعبوية. ولكن هل هذا كافٍ لاعتبار روسيا بالفعل قطباً معارضاً للهيمنة الغربية؟
تتطلب مواجهة الهيمنة دوماً القدرة على إنتاج هيمنة بديلة، ليس فقط لمعارضة القيم التي ينشرها الخصم، بل لتحويل أي انتصار عسكري وقدرات استراتيجية إلى بديهيات أو “حقائق” في وعي أغلبية البشر، يتصرفون ويتخذون قراراتهم على أساسها. فما “الحس السليم” الذي يمكن أن تؤسسه روسيا عالمياً؟ ولماذا تبدو شديدة الضعف في مواجهة الأيديولوجيا الغربية المعاصرة؟
على الرغم من أن الاتحاد السوفييتي كان قطباً أيديولوجياً بمعنى الكلمة في مواجهة المعسكر الغربي، ونجح في مواضع وأزمنة كثيرة بالتفوق عليه قيمياً، إلا أنه يصعب الحديث عن “حس سليم” خاص بالهيمنة السوفييتية. فقد رفع السوفييت قيماً متفقاً عليها عالمياً، مثل الإنسانوية التفاؤلية، التي تحتفي بالتقدم والتحرر؛ الأخوة بين الشعوب، وحقها في تقرير مصيرها؛ المساواة بين البشر، ليس فقط على المستوى الطبقي، بل أيضاً عرقياً وثقافياً وجنسياً. لم يستطع أشد أعداء السوفييت النيل من قيمهم، وغالباً ما تم انتقادهم على أساس الفرق بين الشعارات المرفوعة والواقع المعاش للناس في الأنظمة الاشتراكية. ورغم الخلاف بين المعسكرين المتنافسين حول الفردانية والجماعاتية؛ والمساواة الاجتماعية المبدئية مقابل تكافؤ الفرص والسعي لاستغلالها، فلا يمكن اعتبار أن الاتحاد السوفييتي قد تجاوز المبادئ الكونية، التي رفعتها الدول الغربية نفسها منذ بداية الحداثة، بل ربما كان الطرف الأكثر أمانة لها.
بهذا المعنى فإن الصراع الأيديولوجي بين “الشرق” و”الغرب” قام على أساس تقاسم القيم الكونية. وادعاء كل طرف أنه الأكثر أمانة لها. تكلم السوفييت وخصومهم اللغة نفسها، وامتلكوا الحس السليم ذاته، إلا أنهم ربما أشاروا إلى أشياء وتفاصيل مختلفة. وعلى الرغم من أن روسيا الحالية لا تملك القدرة الأيديولوجية الهائلة للاتحاد السوفييتي، إلا أنها تبدو طامحة لما هو أكثر: انسلاخاً كاملاً عن الحس السليم الغربي، ومعظم قيم التنوير، لحساب نمط من التعددية القيمية. إذ يحق لكل دولة أن تمارس ما تشاء، وفقاً لثقافتها وعمقها الحضاري المترسخ. تدعم الحكومة الروسية عدداً من الأنظمة الاستبدادية في دول كثيرة، إلا أنها، على خلاف الاتحاد السوفييتي، لا توحي لها بالقيم التي يجب أن تتبعها. هكذا تتعدد الأقطاب في وجه “الغرب”، الذي يريد فرض كونيته بشكل قمعي وحتمي. ويمكن من هذا المنظور القول إنها حرب لأجل الحرية، من الغرب طبعاً، أما فحوى هذه “الحرية” فقد يكون تسلطاً أو ممارسات لا إنسانية. المهم أن الغرب لا حق له بتحديد ما “الإنسانية”. ولهذا فإن الروس، باستثناء بعض شبكاتهم الإعلامية المحدودة، التي يسهل فرض الرقابة عليها من قبل الدول الغربية، لا يجهدون كثيراً في نشر أي قيم أو ثقافات، حتى بين حلفائهم.
قد يتمكن الجيش الروسي من استغلال تفوقه لتحقيق أهدافه العسكرية المباشرة في أوكرانيا، إلا أن الواقع، الذي قد يفرضه على الأرض لن يكون انتصاراً، فأغلب البشر لن يروا فيه إلا اختلالاً لا معنى له على المسرح العالمي وخطأً يجب إصلاحه
إلا أن هذا الطموح الكبير يبدو، من منظور آخر، أقل بكثير مما كان يسعى إليه الاتحاد السوفييتي أيديولوجياً، فعندما تترك لحلفائك تحديد قيمهم بشكل منغلق، لن تنتج نمطاً من الولاء والتضامن بين رفاق في معسكر ذي قيم واحدة، بل فقط تحالفاً ظرفياً مؤقتاً، قابلاً للانهيار، بين أطراف لا تجمعها لغة مشتركة، أو حتى قيم محلية متعددة قابلة للترجمة عالمياً. لذا تبدو الأيديولوجيا الروسية المعاصرة ضعيفة وفقيرة، بل يصعب الحديث عن وجودها أصلاً، وبالتالي لا تمتلك سياسة موسكو ما هو أقوى من التهديد بالسلاح والقوة العارية. ربما كان التفكير من داخل أفق التنوير هو الطريقة الوحيدة لصياغة أيديولوجيات قادرة على الانتشار ما وراء الحدود الجغرافية والثقافية، وهذا ما يرفضه جذرياً المنظرون الروس المعادون للهيمنة الغربية، الذين يقولون للعالم فقط ما لا يريدونه في بلدهم، ولكنهم غير معنيين بترجمة ما يريدونه حقاً، ليفهمه كل البشر على اختلاف ثقافاتهم.
على الجانب الآخر يبدو الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي محاكاة، ساخرة بعض الشيء، لما تبقى من الحس السليم الكوني، أو الغربي. يتكلم الممثل الكوميدي السابق بلغة بلده، ولكن مخاطباً كل البشر: من حق الأوكرانيين الانضمام إلى المعسكر الأكثر نجاحاً وتقدماً، وعدم الخضوع للتخلف الروسي، وأن يقاتلوا دفاعاً عن وطنهم، ولأجل مبادئ القانون الدولي والاستقلال الوطني، حتى لو ورطوا العالم كله في حربهم. فهم يريدون، مثل غيرهم من الشعوب، أن يكون بلدهم منفتحاً ومتنوعاً. ليس مهماً هنا كثيراً الاتهامات الموجهة لنظام زيلينسكي باضطهاد مواطنيه من أصول روسية، أو استعانته بمقاتلين متطرفين قومياً، فما يهم هو الصورة التي يقدمها، وهي بالفعل، وبمساعدة كريمة من الإعلام والمؤسسات الثقافية الغربية، قادرة على جذب كثيرين حول العالم. أوكرانيا تدافع عن قيم كونية تعني الجميع، مهما اتُهمت بالخضوع لمركزية الغرب.
في المقابل يبدو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أقرب لوحش شرقي مستبد، يمكن ببساطة ترجمته إلى صورة “الذكورة السامة”: رجل قاسٍ تشغله تصورات قومية وجيوستراتيجية غامضة ومجنونة، ولا يوجد ما يقدمه للبشرية إلا العنف والتسلط. يصعب تفهم هذا الوحش، أو التعاطف معه إلا بالنسبة لمن شاركوه سلفاً أحلامه المنغلقة. وبهذا المعنى فمن الظالم تشبيه بوتين بستالين، فالأخير كان أثناء حياته رمزاً كونياً لملايين البشر حول العالم، من الشيوعيين والمناضلين العماليين، والمتعاطفين الكثر معهم.
قد يتمكن الجيش الروسي من استغلال تفوقه لتحقيق أهدافه العسكرية المباشرة في أوكرانيا، إلا أن الواقع، الذي قد يفرضه على الأرض، لن يكون انتصاراً، فأغلب البشر لن يروا فيه إلا اختلالاً لا معنى له على المسرح العالمي، وخطأً يجب إصلاحه. ولن تتمكن روسيا من تحويل نصرها إلى مجموعة علامات ورموز يمكن تداولها في كل مكان، تؤثر في الناس، وتدفعهم للتسليم بالمنطق الروسي. ولذلك فإن الهزيمة السياسية والأيديولوجية قد تكون حتمية. رغم هذا فإن انتصار “الغرب”، الذي يبدو حتمياً بدوره، سواء كان عسكرياً أو سياسياً وأيديولوجياً، لن يغطي على الأزمات الكبرى التي تعاني منها الكونية المعاصرة: ليست روسيا وحدها من يفكك كل لغة مشتركة لحساب خصوصيات معينة، بل أيضاً حس الغرب السليم بات قابلاً للتغاضي عن كثير من الممارسات والأفكار، غير القابلة بدورها للترجمة. مثل إغلاق الحيز العام لحماية الخصوصيات الفردانية والثقافية؛ الاستعانة بالمتطرفين لمد المعسكر الغربي؛ إقصاء المعارضين لحالة الاستثناء، السياسي والصحي، التي تفرضها الحكومات الغربية. وبالتالي فقد تكون روسيا، هذه المرة أيضاً، على هوامش قطب واحد، متعثر على كل الأصعدة.
القدس العربي