في كتابه المميز “الإيطاليون” الصادر عام 1991، يقدم لنا المؤلف، لويجي بارزيني، صورة مسلية متبوعة بالاستغراب عن الطريقة التي كان يحيا بها الدوتشي (بينيتو موسوليني) وسط وهم أخّاذ وجميل صنعه له أقرب مساعديه الذين كانوا يخشون غضبه ويأملون في رضاه. إن ميل الدكتاتور الذي حكم إيطاليا بالحديد والنار لرؤية إيطاليا مزدهرة وعامرة كان يدفع مساعديه إلى بذل جهود محمومة في سبيل العناية بالمدن والأماكن التي كان يخطط موسوليني لزيارتها، فيتم إخفاء كل العيوب العمرانية بمهارة وإظهار جمالها الوقتي المصطنع، وعندنا يتجول موسوليني لا تقع عيناه إلا على الأشياء والأشخاص الذين يبعثون في نفسه الرضا والارتياح.
بلغ هذا الخداع الجميل السلس ذروته في زيارة الفوهرر (أدولف هتلر) عام 1938 عندما أظهرت إيطاليا وجهاً جديداً ومحدثاً ليست له علاقة بالقرن التاسع عشر، حيث تمت إعادة تصميم الشوارع وبناء واجهات البنايات مثل ديكورات الأفلام، والاهتمام بطلاء المنازل وتزيينها على طول خط السكة الحديد من برينر إلى روما. ولعل هذه التقنية السلسة التي أثارت نتائجها إعجاب الفوهرر الألماني قد جعلت من موسوليني ضحية الوهم والإيمان أنه محمي من كل شيء سلبي من حوله.
هذا الوهم الذي يلازم بعض القادة لم يحيَ في ظله موسوليني فحسب، بل مرّ من بعده على سجل التاريخ العديد من الزعماء الذين يُفتنون بالصورة التي يشاهدونها، وهي في الحقيقة من صنع مساعديهم، ولا نعتقد أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يُعد استثناء عن هذه القاعدة، بل وقع تحت سطوة هذه المتلازمة وإن كان بشكل جزئي. ولعل ما كشف عن هذا الوهم الذي كان يعتقد به، النتائج غير المتوقعة للحرب الروسية على أوكرانيا. فهذه النتائج لا ريب تدفعنا للاعتقاد أنّ الصورة التي رسمها أركان القيادة الروسية عن الحرب وردّ الفعل المتوقع من الجانب الأوكراني كانت تعتورها الكثير من الأخطاء وتكاد تكون مثل ديكورات الأفلام التي كان مساعدو موسوليني يتفننون ببنائها لكنها مجرد مظهر رقيق يحوي وراءه الكثير من الفراغ ومن السهل إسقاطه. ولنفترض جدلاً أنّ الموقف الدولي تجاه هذه الحرب لم يكن مفاجئاً لروسيا بل كان ضمن حدود التوقعات المرسومة، إلا أنّ ما شكّل مفاجأة كبرى لها هذا التعثر في العملية العسكرية ومرور أسابيع دون تحقيق الهدف الذي كان من المتوقع له أن ينجز خلال 72 ساعة حسب تقديرات مسؤولين غربيين؟
ربما ما يؤكد وهم الرئيس بوتين الذي أغرقه فيه مساعدوه الحقائق التي نشرتها مجلة “نيو لاينز” من أن بوتين قيل له إن لديه ما يقرب من 10 آلاف صاروخ، والواقع أنّ لديه ألف صاروخ فقط
إذ لم يُحرز الروس أي تقدم استراتيجي ينسجم مع مستوى القوات وأنواع الأسلحة التي تم الزج بها في المعركة لاسيما ما يتعلق بالسيطرة على المدن الكبرى، على العكس من ذلك، نجد أنّ الإخفاقات العديدة التي تعرضت لها القوات البرية الروسية ومشاهد الدبابات والعربات المحترقة والمهجورة على الطرق الخارجية تقدم صورة واضحة عن عدم خوضها لقتال كبير بل تعرضها للكمائن والهجمات المضادة المرنة من قبل القوات الأوكرانية، ما يُعطي الانطباع عن العيوب التي أخذت تتكشف في جيش كانت روسيا تُبالغ في إظهار مدى قوته في الوقت الذي كانت تحط فيه من شأن خصمها الأوكراني، ولا نعني هنا أن الجيش الروسي هو نمر من ورق أو طبل أجوف، بقدر ما نريد لفت الانتباه إلى أن حسابات المعركة تختلف عن تصورات الجنرالات لما قبلها.
وحسب دراسة مؤسسة البحوث الاستراتيجية الفرنسية التي قامت بتقييم أداء الجيش الروسي في هذه الحرب، يعاني الجيش عموماً من صعوبة في ممارسة القتال المشترك بأنواع الأسلحة المختلفة ونقص في المناورات التكتيكية مع أوجه من القصور التي لا يُمكن إخفاؤها في الاستطلاع القتالي أو في دعم النيران الجوية، فضلاً عن المشاكل التي رافقت إدارة عمليات الدعم اللوجستي. ووفقاً لهذه العيوب، باتت خسارة الجيش على مستوى عناصره القتالية البشرية تقترب من نسبة 10 في المئة من مجموع قواته التي دخلت أرض المعركة، وهذه الخسائر البشرية غير المتوقعة كانت السبب وراء قرار موسكو البحث في خيارات بديلة، ليس من ضمنها حالياً إعلان التعبئة العامة واستدعاء قوات الاحتياط، بل استقدام متطوعين من الخارج بهدف الحد من التكلفة البشرية الروسية لتجنب أيّ انفجار للرأي العام الداخلي.
ولو قارنا الاحتلال السوفييتي في أفغانستان خلال الثمانينات من القرن الماضي مع الغزو الروسي لأوكرانيا سنجد فروقاً مذهلة بين الحدثين. لقد قضى السوفييت في أفغانستان ما يُقارب 3340 يوماً بدءاً من الخامس والعشرين من ديسمبر 1979 وإلى غاية انسحاب آخر جندي في الخامس عشر من فبراير 1989، وخلال هذه المدة خسر السوفييت ما يُقدر بـ14453 جنديا، ولو اعتمدنا الأرقام الصادرة عن الكرملين لأعداد خسائرهم البشرية خلال الأسبوع الأول من الحرب في أوكرانيا سنجد أنها تزيد بستة عشر مرة عن معدل خسارتهم في أفغانستان، أما في حال اعتماد أدنى التقديرات الصادرة عن البنتاغون لأعداد القتلى، فإن الخسائر في هذه الحالة تزيد بمقدار 49 مرة عن حالة أفغانستان.
ربما ما يؤكد وهم الرئيس بوتين الذي أغرقه فيه مساعدوه الحقائق التي نشرتها مجلة “نيو لاينز” من أن بوتين قيل له إن لديه ما يقرب من 10 آلاف صاروخ، والواقع أنّ لديه ألف صاروخ فقط، ومن الغريب أن بوتين نفسه نسي كيف كان يكذب على رؤسائه عندما كان ضابطاً شاباً في الاستخبارات السوفيتية (كي جي بي) وهذا الكذب على ما يبدو شائع في الثقافة السوفييتية، أما أندريه سولداتوف وإرينا بوروجان، وهما صحافيان روسيان يعملان في مجال الصحافة الاستقصائية ومتخصصان في شؤون الاستخبارات الروسية، فقد أشارا إلى أن بوتين، وبعد مرور أكثر من عشرة أيام على الحرب بات يشعر بالإحباط الشديد من ذراع الاستخبارات الخارجية التابع لوكالة الأمن الفيدرالي الروسي، ما دفعه إلى أن يضع رئيس الوكالة، سيرجي بيسيدا ونائبه قيد الإقامة الجبرية بسبب من حنقه على الأنشطة الاستخبارية الضعيفة التي سبقت عملية الحرب، وأنه يشعر بأنه ضُلل تماماً بمعلومات مغلوطة.
باعتقادنا أن وكالة الأمن الفيدرالي الروسي، مثلما هو الحال في الأنظمة السلطوية، كانت تُمرّر له معلومات مغلوطة أو مبالغا فيها بخصوص قوات الخصم وإمكاناته، لأنهم يعلمون تماماً ما يود سماعه وما يُغضبه، لذا أخبروا الرئيس بما يريد أن يسمعه لخوفهم من ردة فعله.
العرب