مرّ أكثر من شهر منذ أن اعتقدت روسيا أنها تستطيع الاستيلاء على العاصمة الأوكرانية كييف في غضون 48 إلى 72 ساعة، حيث تصف العديد من التقارير الإخبارية العملية العسكرية الروسية بأنها توقف، لكن التحليلات التفصيلية تقول عكس ذلك، فالقوات الأوكرانية تهاجم، ويبدو أن روسيا تخسر قواتها في العديد من الأماكن.
في مقال كتبه بول كروغمان، ونشرته صحيفة “نيويورك تايمز” (New York times) الأميركية، قال فيه إن روسيا تمكنت من الدفاع عن شيء واحد بشكل فعال للغاية، وهو قيمة عملتها، فقد انخفض الروبل في الأيام التي أعقبت بدء الحرب على أوكرانيا، لكنه استعاد كل خسائره منذ ذلك الحين تقريبا، ويبدو أن المسؤولين الاقتصاديين الروس أكثر كفاءة من جنرالاتها.
ويبين الكاتب أن إلفيرا نابيولينا، محافظ البنك المركزي الروسي، تحظى بتقدير نظرائها في الخارج بشكل خاص، فبحسب ما ورد حاولت نابيولينا الاستقالة بعد بدء الحرب، لكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يسمح لها بالمغادرة، لذلك بذلت نابيولينا -مجبرة- وزملاؤها كل ما في وسعهم للدفاع عن الروبل، حيث رفعوا سعر الفائدة الرئيسي من 9.5 إلى 20%، لحث الناس على الاحتفاظ بأموالهم في روسيا، كما فرضوا قيودا واسعة النطاق لمنع هروب رأس المال، ومنع المستثمرين الأجانب من الخروج من الأسهم الروسية.
ويضيف الكاتب أنه ليس من المحير رؤية الروبل يتعافى في ظل هذه الإجراءات الصارمة، لكن السؤال هو لماذا روسيا مستعدة للدفاع عن عملتها على حساب كل الأهداف الأخرى؟ فبعد كل شيء، من المحتمل أن تؤدي الإجراءات الصارمة المتخذة لتحقيق الاستقرار في الروبل إلى تعميق ما يبدو بالفعل وكأنه تراجع على مستوى الكساد في الاقتصاد الحقيقي لروسيا.
سلط الكاتب الضوء على أحد المقترحات الكلاسيكية في علم الاقتصاد الدولي المعروف بـ “الثالوث المستحيل”، حيث قال إن الفكرة هي أن هناك 3 أشياء قد تريدها الدولة من عملتها:
أولا قد ترغب في استقرار قيمة العملة مقابل العملات الأخرى، لخلق قدر أكبر من اليقين للشركات.
ثانيا قد ترغب في حرية حركة الأموال عبر حدودها، لتسهيل الأعمال التجارية.
ثالثا قد ترغب في الاحتفاظ بحرية التصرف النقدي، والقدرة على خفض أسعار الفائدة لمحاربة الركود أو زيادتها لمحاربة التضخم.
قيود صارمة
ويوضح الكاتب أن “الثالوث المستحيل” يقول إنه لا يمكنك الحصول على كل شيء، وعليك اختيار اثنين من ثلاثة، معطيا المثل ببريطانيا، حيث توجد أسواق رأسمالية مفتوحة وسياسة نقدية مستقلة، لكن هذا يعني السماح بتقلب قيمة الجنيه الإسترليني، أو مثل البلدان التي تبنت اليورو، والتي يوجد فيها حرية حركة رأس المال واستقرار العملة، ولكن من خلال التخلي عن الاستقلال النقدي، أو مثل الصين، حيث العملة مستقرة وهناك سياسة نقدية خاصة، ولكن من خلال الحفاظ على ضوابط رأس المال.
ويشير الكاتب إلى أن المحير في روسيا أنها قررت أن تأخذ واحدة فقط، على غير عادة بقية البلدان التي تأخذ اثنين من ثلاثة، لقد فرضت قيودا صارمة على رأس المال، لكنها ضحت أيضا بالاستقلال النقدي، ورفعت أسعار الفائدة بشكل كبير في مواجهة الركود الذي يلوح في الأفق.
وافترض الكاتب أن روسيا، ستشهد ارتفاعا هائلا في التضخم وانخفاضا في الناتج المحلي الإجمالي في الأشهر المقبلة، ومن المرجح أن لا تعترف حكومة روسيا بذلك، فغالبا ما تحاول الأنظمة الاستبدادية قمع البيانات الاقتصادية غير المواتية، فإذا تدهور الاقتصاد الروسي بشكل سيئ كما يتوقعه معظم الناس في المستقبل القريب، فيبدو من المرجح جدا أن وسائل الإعلام المكبوتة في البلاد ستنكر ببساطة حدوث أي شيء سيئ.
ويشير إلى أن هناك شيئا واحدا لا يمكن إنكاره وهو انخفاض قيمة الروبل بشكل كبير، لذا فإن الدفاع عن الروبل، بغض النظر عن الاقتصاد الحقيقي، أمر منطقي كإستراتيجية دعائية.
وأكد الكاتب -في النهاية- أن دفاع روسيا عن الروبل، رغم أنه أمر مثير للإعجاب، فإنه ليس علامة على أن نظام بوتين يتعامل مع السياسة الاقتصادية بشكل جيد، بل يعكس -بدلا من ذلك- اختيارا غريبا للأولويات، وقد يكون في الواقع علامة أخرى على الخلل في السياسة الروسية.
المصدر : نيويورك تايمز