إن الوضع السياسي العراقي المعقد الحالي كشف أن إيران ليست القوة القاهرة القادرة على ضبط الحركة السياسية العراقية وفق رؤيتها وإرادتها ومصالحها العليا، كما كانت على مدى سنين.
فقد جاء لجوؤها إلى الإيعاز لوكلائها العراقيين بتعطيل جلسات مجلس النواب لانتخاب رئيس الجمهورية، إضافة إلى اضطرارها لقصف أربيل باثني عشر صاروخا باليستيا، واجتماع النقب بين وزراء خارجية إسرائيل وأربع دول عربية بالإضافة إلى الولايات المتحدة لمناقشة الملف الإيراني برهان على أن النظام الإيراني لا يجيد سوى صناعة الأعداء وزيادة عوامل عزلته الإقليمية والدولية. كما أنه دليل فاقع على أن العنجهية الإيرانية وصلت، أخيرا، إلى أرذل عمرها الافتراضي، وأن إيران كانت صغيرة وظلت صغيرة وستبقى صغيرة، حتى لو ارتدت عباءة أكبر الكبار.
فحكامها لم يتعلموا من تاريخ البشرية الطويل أن أي أمة لا يمكن أن تبني إمبراطورية ما دامت تحتاج إلى غيرها لتأمين أي حاجة من حاجاتها الأساسية الضرورية، صغيرة أو كبيرة.
فلم تلبس واحدةٌ من الدول “الناقصة” لبوس الإمبراطوريات، وهي تحتاج إلى ماء أو دواء أو مال أو رجال أو سلاح أو عتاد من خارجها، إلا وهوت بسرعة كمن طار بأجنحة من شمع أذابتها الشمس وهي في الفضاء.
والأمثلة على ذلك كثيرة من أيام الإسكندر المقدوني وإلى أيام الحرب العبثية الحالية الروسية – الأميركية – الأوروبية على أرض أوكرانيا التي يريد فلاديمير بوتين أن يجعل خصومه الأميركيين وحلفاءهم الأوروبيين يؤمنون بأنه يقود إمبراطورية عظمى ينبغي أن يحسبوا لها ألف حساب.
ولنا من الصين، اليوم، مثال على ذلك. فقد كان من مصلحتها وتطلعاتها القومية والاستراتيجية، وهي إمبراطورية بمقاييس العصر الجديد، أن ينتصر الرئيس الروسي بوتين. وكان عليها أن تمد له يديها الاثنتين بالمال والسلاح والسياسة، وأن تنخرط معه في منازلة الولايات المتحدة وأوروبا على أرض أوكرانيا، وانتزاع قيادة النظام العالمي الجديد.
ولكن، لأنها لا تملك الطاقة، ولأن الطاقة، بشكل أو بآخر، محتكرة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، ولأن أهم مصادر قوتها الاقتصادية في الأسواق الأميركية والأوروبية، فقد اضطرت إلى الوقوف على التل، لا مع هذا ولا مع ذاك.
يعني أنها لم تستطع أن تتصرف بكامل إرادتها كأية إمبراطورية أخرى، وذلك بسبب حاجتها إلى شيء حيوي وضروري يأتيها من خارج الحدود. وحتى بوتين، بصيغة أو بأخرى، له ما يبرر طموحه الإمبراطوري. فلروسيا ثروات هائلة، وقوة بشرية متحضرة متقدمة ضخمة، وتكنولوجيا وسلاح تقليدي ونووي، وحق نقض (فيتو) في مجلس الأمن أسوةً بالدول الأربع الكبرى الأخرى.
إيران، وبشهادة منظمات عالمية محايدة عديدة، دولةٌ غارقة في همومها ومشكلاتها الداخلية الخانقة والخارجية التي تشلُّ قدرتها على الحفاظ على وجودها في الدول العربية الأربع التي تحتلها
ولكن ماذا لدى النظام الإيراني من مؤهلات وطاقات ليُصاب بداء العظمة، وليَحلم بمحاكاة الدول الكبرى ذات الطموح الإمبراطوري، ولكي يتملَّك قادتَه العسكريين والمدنيين وَهْمُ القوة وغرورُها، وتُعميهم عنصريتُهم وطائفيتهم عن الصراط المستقيم؟
مناسبة هذه المقدمة بيان نشره الحرس الثوري على موقعه على الإنترنت قال فيه إن “براعة إيران الصاروخية ونفوذها الإقليمي خطوط حمراء”، و”سيُواجه أدنى خطأ من أعداء الوطن الإسلامي في أي مكان بإجابات حاسمة ومدمرة”.
وبنفس العنجهية تحدث أكثر من محلل ومعلق إيراني وعراقي ولبناني من ذوي الولاء المطلق لولاية الفقيه فهددوا، علنا، على شاشات التلفزيون، بدخول الحرس الثوري الإيراني إلى العراق، عسكريا، وجعل كردستان العراق أوكرانيا ثانية.
مثال آخر، لقد تحدث قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني إسماعيل قاآني عن صواريخ الحرس الثوري الأخيرة التي لم تصب أحدا في أربيل، فقال إن “الولايات المتحدة تشعر اليوم بالهلع من فصائل المقاومة في العراق”، و”الكيانُ الصهيوني المجرم الذي كان يرفع يوما شعار من النيل إلى الفرات أصبح الآن ذليلا، إذ ينام الصهاينة برعب وهلع، ويشعرون بالقلق من أن يستيقظوا”.
فلو كانت هذه العنتريات صادرة عن الولايات المتحدة أو الصين أو الهند أو روسيا، أو عن أية دولة أوروبية كبرى، مثلا، لكان لها معنى. ولكن حين تصدر عن إيران المنهكة المتهالكة المتكئة على أكتاف روسيا والصين وكوريا الشمالية وفنزويلا، وعلى أموال العراق وأسواق سوريا، فتلك مسألة تدعو إلى الاستغراب.
فإيران، وبشهادة منظمات عالمية محايدة عديدة، دولةٌ غارقة في همومها ومشكلاتها الداخلية الخانقة والخارجية التي تشلُّ قدرتها على الحفاظ على وجودها في الدول العربية الأربع التي تحتلها، الآن، بدون مساعدة دول أخرى، أو بدون استمرار حالة الضعف والتمزق والتشرذم في هذه الدول، وهو أمر لا يمكن ضمان استمراره.
ومن اللازم هنا أن نتذكر نظريةً أطلقها روبرت ماكنمارا الذي كان وزير الدفاع في عهد الرئيس جون كينيدي عام 1962 تقول “لنجعل الاتحاد السوفييتي قلعة مسلحة، ولكن لا تملك الزبدة”.
وحكومة الولي الفقيه اليوم واقعة في نفس اللعبة الخادعة. فقد اضطرت لأن تنفق ثلاثة أرباع أموال الشعب الإيراني على مشاريعها النووية والتسليحية، وعلى تدبير المؤامرات هنا وهناك، وعلى تمويل المنظمات والميليشيات، وتضاف إلى ذلك انعكاسات العقوبات الأميركية والدولية التي أوهنت اقتصادها، وأفقرت شعبها وعزلته عن محيطه الإقليمي وعن العالم إلى الحد الذي اضطر معه وريثُه علي خامنئي لأن يطأطئَ رأسه أخيرا لـ”الشيطان الأكبر” وللأوروبيين والصينيين والروس من أجل رفع العقوبات وإعادة بعض أمواله المجمدة.
وهو إلى الآن، ورغم كل المصاعب والمتاعب التي تتكاثر على الحكومة الإيرانية والشعب الإيراني، لم يدرك أن تعدياته المستمرة، مباشرةً بحرسهِ الثوري أو بميليشياتهِ اليمنية أو العراقية، على دول الجوار عجلت بوضع القضية الفلسطينية على الرف، ودفعت بدول عربية عديدة إلى اعتباره عدوها الأول وإسرائيل حليفتها المؤتمنة، وقد يولد من رحم اجتماع النقب حلفٌ سياسي عسكري جديد مهمته فقط مواجهة إيران وإرهاقها. والنظام الإيراني اليوم مُلزم بخوض حروبه الأمنية والاقتصادية والاجتماعية في الداخل، وبتحمّل أعباء الحروب الناعمة والخشنة التي يديرها أعداؤه عليه في الخارج. أليس هذا أسوأ نوع من أنواع الخبل والغفلة والغباء؟
العرب