مدينة كركوك العراقية خلطة ساحرة بين التاريخ والنفط والسياسة

مدينة كركوك العراقية خلطة ساحرة بين التاريخ والنفط والسياسة

ليست مدينة كركوك العراقية، نموذجا لعراق مصغر، يتميز بتنوع فريد من مختلف القوميات والأديان منذ آلاف السنين في أجواء من التسامح والتعايش السلمي فحسب، بل هي كنز من التاريخ والثروات النفطية والزراعة المتنوعة، إضافة إلى انها نموذج لتأثير الصراعات المحلية والإقليمية على استقرار المدن في العراق.

وتقع محافظة كركوك في منطقة سهلية خصبة وجميلة شمال العراق، وتبعد عن مدينة بغداد بحوالي 255 كلم، وهي صورة حية للمدن العراقية التي يتجسد فيها الوئام بين قوميات وأديان ذات حضارات وثقافات متعددة تعايشت جنباً إلى جنب منذ آلاف السنين. ويطلق العراقيون على كركوك اسم «مدينة القوميات المتآخية» أو مدينة التأميم، وهي تضم مختلف الأعراق والقوميات العراقية، الكردية والتركمانية والعربية والآشورية والكلدانية والصابئة المندائيين، كما أنها تحتضن التراث والفولكلور العراقي بمختلف قومياته وأعراقه.
وتبرز أهمية كركوك الاقتصادية من كونها تعوم فوق حقول نفطية غنية، تعد من الحقول الرئيسية في العراق، مثل حقول بابا كركر، وباي حسن، وجمبور، وخباز، وهو ما جعلها محط أنظار الطامعين المحليين والأجانب. وعند الاقتراب من مدينة كركوك تشاهد شعلة النار التي تخرج من أرضها والتي تسمى بـ«النار الأزلية» وهي ناجمة عن اشتعال الغاز المنبعث من جوف الأرض بالقرب من الحقل النفطي بسبب وجود تصدعات في القشرة الأرضية، فيما تقدر كمية المخزون الاحتياطي لحقول النفط في كركوك، بأكثر من 35 مليار برميل بقدرة إنتاجية تصل ما بين 750 ألف برميل إلى مليون برميل يوميا.
وحقل نفط كركوك هو أقدم حقول العراق وهو ثاني أكبر حقل نفطي في العالم بعد حقل الغوار في السعودية من حيث القدرة على الإنتاج كما انه خامس أكبر حقل على الصعيد العالمي من حيث الحجم.
وإضافة إلى النفط، فإن المحافظة تتميز أيضا بسهولها الواسعة الخصبة العامرة بزراعة مختلف أنواع الخضروات والفواكه والمحاصيل الزراعية.

تاريخ حافل

وتاريخيا فإن منطقة كركوك، تكتسب أهمية جغرافية واقتصادية وعسكرية كبيرة، بسبب وقوعها بين جبال زاغروس ونهري دجلة والزاب الصغير وسلسلة جبال حمرين ونهر ديالى، وتقع أيضاً على الطريق الاستراتيجي والتجاري الذي يربط تركيا وإيران والعراق. وبسبب ذلك، كانت كركوك وما زالت منطقة صراع محلي وخارجي، حيث تناوبت عليها العديد من الدول منذ آلاف السنين، عندما أصبحت في القرن التاسع الهجري، تحت سيطرة الدول التركمانية قرة قويونلي «الخروف الأسود» وآق قويونلي «الخروف الأبيض». ثم استولى عليها الصفويون الفرس، وعند مجيء العثمانيين بعد الصفويين أصبحت هذه المنطقة مسرحاً للقتال والحروب بين الدولتين. وبعد تأسيس الدولة العراقية عام 1921م أصبحت كركوك محافظة.

قلعة كركوك

ولعل أبرز المعالم التاريخية في المدينة، هي قلعة كركوك، وتعتبر من أقدم أجزاء المدينة العمرانية الباقية حتى الآن، والتي يرجح بعض المؤرخين عمرها، بانه يمتد إلى أواسط الألف الثاني قبل الميلاد، فيما يعتقد آخرون بأن هذه القلعة شيّدت في عهد الملك الآشوري آشور ناصربال الثاني بين عامي 850 و884 قبل الميلاد. وتضم القلعة معالم أبرزها سوق القيصرية، الذي يعود تاريخه إلى أكثر من 1150 عاماً، وهو من الأسواق الفريدة في طراز البناء مثل الأقواس التي تزين غرفه، ويضم حوالي 300 غرفة ودكان.
كما تضم القلعة الجامع الكبير الذي يُعد من المباني المهمة نظرا لما يتميز به من طراز معماري إسلامي فريد من حيث القباب والأقواس والأعمدة، ويعود تاريخ تشييده إلى بداية القرن الثالث عشر الميلادي. ويظهر من آثاره أنه أقيم على أنقاض كنيسة، لذلك لا يزال يُعرف بين سكان المدينة بجامع السيدة مريم العذراء (ع).
أما جامع النبي دانيال، فهو كنيسة قديمة أيضا تم تحويلها إلى جامع، ويضم أضرحة قديسين مسيحيين ويهودا، وهو موضع احترام سكان مدينة كركوك. ويقع جامع النبي دانيال في أعلى القلعة، وتعود مئذنته إلى أواخر العهد المغولي أو بداية العهد التيموري، ويحتوي على قبتين وثلاث منارات، وتبلغ مساحته 400 متر مربع. كما توجد في القلعة الكنيسة القديمة «كاتدرائية أم الأحزان» التي تُعد من المباني البارزة فيها.
ومن المعالم البارزة في المدينة أيضا، قشلة كركوك وهي بناية قديمة كانت المقر العسكري للقوات العثمانية في المدينة، شيّدت سنة 1863م في عهد والي بغداد محمد نامق باشا، وعُرفت قديماً باسم العزيزية. وتقع في مركز المدينة وقد قامت مؤسسة الآثار في كركوك بإجراء الترميمات والصيانة على البناية وجعلتها مركزا ثقافيا ومتحفا. وخلال جولة «القدس العربي» في مدينة كركوك، قبل أيام، كانت مشاهد التطوير العمراني واضحة من خلال إنشاء العديد من الجسور والمباني الضخمة الحديثة والمولات والمستشفيات والجامعات، فيما تجري عملية تحويل المطار العسكري فيها إلى مطار مدني.
ولعل ملامح التعايش بين المكونات في كركوك تبرز في شوارعها التي تنتشر فيها الإعلانات واللافتات المكتوبة باللغات العربية والكردية والتركمانية، فيما تتوزع هنا وهناك العديد من تماثيل الشخصيات الأدبية والعامة الكردية والتركمانية والعربية.
وعند مراجعة الدوائر الرسمية الحكومية في كركوك، تجد الموظفين والمراجعين يتحدثون مختلف اللغات العربية والكردية والتركمانية من دون مشاكل أو عقد، كما يستخدم أغلب الموظفين أكثر من لغة لكي يتمكنوا من التفاهم مع جميع المراجعين. إلا ان أبهى مظاهر التعايش تجدها في الأسواق وأماكن العبادة والدراسة، فيما تجد الخليط المنسجم في المقاهي والمراكز الثقافية، طاغيا وخاصة في الأمسيات الرمضانية هذه الأيام.

دور الثقافة
في توحيد أهل كركوك

ويفخر رواد الحركة الثقافية من الكتاب والمثقفين والأدباء في مدينة كركوك، مثل «جماعة كركوك الثقافية» بأن نتاجاتهم تركز على التعايش الموجود بين مختلف القوميات وتحرص على زرع المحبة والتآخي بين أبناء المحافظة بكل مكوناتها، ورفض التعصب والعنصرية في المدينة، بعيدا عن الأزمات والتوترات التي تخلقها السياسة. ولا شك انه لا يمكن إنكار دور مثقفي كركوك، أمثال جليل القيسي وجان دمو وسركون بولص وزهدي الداودي ويوسف الحيدري وفاضل العزاوي وانور الغساني وغيرهم، في قضية التعايش من خلال مختلف أشكال الآداب والفنون في الشكل واللون والكلمة والأغنية.
عماد أرسلان من أبناء كركوك القدماء، قال لـ«القدس العربي» إنه ووالده وجده عاشوا في كركوك بتعايش وانسجام مع باقي المكونات، وان هناك الكثير من الأدباء والمفكرين الذين رفضوا التعصب للقومية سواء كانت عربية أو تركمانية أو كردية، مشيرا إلى انه في السبعينات من القرن الماضي لم يكن هناك أي تمييز بين السنة والشيعة، إلا ان قضية التعصب وخاصة المذهبي، تفشت بعد الغزو الأمريكي للعراق، بسبب صراع الأحزاب السياسية على السلطة.
وذكر أرسلان ان التعايش موجود منذ القدم في المدينة، ومثال على ذلك الأعمال التجارية المشتركة، والزواج المتبادل بين المكونات، حيث لاحظ تزايد إقبال العرب والتركمان للزواج من الكرد في السنوات الأخيرة. كما شدد على ان المحافظة شهدت حملات لتعريب أو تكريد المدينة منذ الثمانينات من القرن الماضي، وبعد الاحتلال الأمريكي.

التغيير الديموغرافي

وبرغم الانسجام الشعبي إلا ان خيرات المحافظة أشعلت الصراعات بين القوى السياسية والحكومات للسيطرة عليها ومحاولات تغييرها ديموغرافيا. فالنظام السابق أعلن عن قيام القيادات الكردية بجلب الآلاف من الأكراد، وبعضهم من إيران وتركيا وسوريا، وإسكانهم في المحافظة، بهدف تغيير توازن سكانها. وردا على ذلك قام النظام بتشجيع العائلات العربية من الوسط والجنوب للقدوم إلى المحافظة للسكن والعمل، تحت شعار «الوطن للجميع».
إلا ان التغيير الأكبر في تركيبة سكان المحافظة، حصل بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 حيث اتهمت قوى سياسية عربية وتركمانية، بعض الأحزاب الكردية باستغلال وجود حليفها الأمريكي المحتل، فأقدمت على جلب أعداد كبيرة من أكراد البلدان المجاورة، وإسكانهم في كركوك ومنحهم الجنسية العراقية. وكان محافظ كركوك السابق نجم الدين كريم وهو قيادي كردي مقرب من حزب جلال الطالباني، يمنع دخول العرب إلى المحافظة بعد 2003 كما لم يسمح بسكن العرب فيها إلا بموافقات أمنية ولفترة مؤقتة، ضمن إجراءات تشبه منح الإقامة للأجانب. وحتى بعد ظهور تنظيم «داعش» وفرار العرب من مناطق سيطرته، كان محافظ كركوك الكردي، من الرافضين لاستقبالهم ولم يقبل إلا بعدد محدود منهم وبعد ضغوط من بغداد.
وجاء عام 2017 حاسما بالنسبة لوضع كركوك، بعد الاستفتاء على استقلال الإقليم عن العراق الذي نظمه حزب بارزاني في نفس العام، ومساعي الأحزاب الكردية لضم كركوك إلى إقليم كردستان، وهو الأمر الذي دفع حكومة بغداد لإصدار الأوامر إلى القوات الاتحادية، لدخول المناطق المتنازع عليها وأبرزها كركوك، وانسحاب البيشمركه منها تجنبا للقتال، مع تغيير المحافظ الكردي، وتكليف محافظ عربي بإدارتها، فيما أغلقت مقرات بعض الأحزاب الكردية.
ورغم ان التعايش والانسجام بين مكونات كركوك كان نموذجا يحتذى به في العراق، فإن الأطماع بخيرات المحافظة والأجندات السياسية المحلية والخارجية، فرضت نفسها وخاصة بعد الاحتلال الأمريكي وضعف الدولة، وساهمت في إنقسام المكونات بين الأحزاب والقوى السياسية التي تتاجر بقضايا الشعب من أجل مصالحها الخاصة وحسب.

القدس العربي