كادت الأزمة الأوكرانية أن تفرض تداعيات سلبية على العلاقات بين إيران وروسيا، بعد أن اتجهت الأخيرة إلى محاولة استغلال دورها في الاتفاق النووي لممارسة ضغوط على الدول الغربية في الأزمة الأولى. إلا أن حرص طهران على الاحتفاظ بعلاقات قوية مع موسكو ساهم في النهاية في احتواء التوتر المؤقت واستئناف التفاهمات القائمة بين الدولتين حول العديد من الملفات الإقليمية والدولية.
ومن هنا، جاءت زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى موسكو في 14 مارس الجاري لتعكس حرص الدولتين على توجيه رسائل مباشرة إلى الدول الغربية بأن تعزيز العلاقات الثنائية هو خيار استراتيجي لا يمكن التراجع عنه. وربما توحي تلك الزيارة أيضاً بأن العقوبات التي تتعرض لها الدولتان في الوقت الحالي ستكون هى المتغير الأهم في تطوير العلاقات فيما بينهما حتى لو انتهت مفاوضات فيينا بالوصول إلى صفقة تتيح رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران.
دوافع التقارب
حرصت إيران وروسيا على تأسيس علاقات قوية بينهما في ظل التقارب الملحوظ في التعامل مع العديد من الملفات. ويتمثل أبرز محاور التلاقي بين البلدين في الحفاظ على استقرار منطقة القوقاز، وعدم السماح بهيمنة قوى من خارج المنطقة على دول آسيا الوسطى وبحر قزوين إلى جانب دعم النظام السوري. وقد شجعت العزلة الدولية إيران خلال السنوات الأخيرة على تبني سياسة “التوجه نحو الشرق”، التي يصر على تفعيلها المرشد علي خامنئي، بهدف قطع الطريق على الضغوط الأمريكية، من خلال تعزيز العلاقات مع روسيا والصين. وقد تم تعزيز هذا الاتجاه بالفعل بعد انتخاب الرئيس إبراهيم رئيسي بخلاف الرئيس السابق حسن روحاني، الذي دعم سياسة الانفتاح على الدول الغربية. وقد أبلغ رئيسي نظيريه الروسي والصيني، في أول اتصالين منفصلين بينهما عقب توليه منصبه، منتصف أغسطس 2021، بأن أولوية سياسته الخارجية ستكون تعزيز العلاقات الاستراتيجية مع موسكو وبكين.[1]
وقد شهد التعاون بين روسيا وإيران نمواً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة، ويرجع ذلك إلى مواجهتهما عقوبات أمريكية قاسية فُرضت عليهما منذ سنوات، ما دفعهما إلى تعزيز علاقاتهما الاقتصادية والعسكرية والأمنية بشكل متواصل. فعلى الجانب الاقتصادي، تتعاون الدولتان في مجالات مثل الطاقة والبنية التحتية (السكك الحديدية) والطيران. وتمثل المواد الغذائية 70٪ من الصادرات الإيرانية إلى السوق الروسية، كما تشمل الصادرات الإيرانية المعادن والأسمنت والمنتجات الكيماوية. وتشير الإحصاءات إلى أن حجم التبادل التجاري بين روسيا وإيران لعام 2021 حقق قفزة واقترب من 4.035 مليار دولار، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 81.7٪ مقارنة بالعام 2020. وبالرغم من ذلك، أبدت طهران عدم رضاها عن حجم العلاقات التجارية والاقتصادية مع موسكو، وبدأت في طرح تساؤلات عن سبب التفاوت الكبير بين مستوى التعاون السياسي والتجاري والاقتصادي، حيث تطمح إيران إلى زيادة الميزان التجاري إلى 20 مليار دولار سنوياً، بحسب رئيس اللجنة الاقتصادية في مجلس الشورى الإيراني محمد رضا بور إبراهيمي.
كما تحتل إيران أهمية خاصة في السياسة الخارجية الروسية في منطقة الشرق الأوسط، حيث تعد هي الدولة الرئيسية في منطقة الجوار الروسي غير المستقرة، ولها تأثيرها الكبير في الأحداث، وقد حرصت الدولتان على توسيع نطاق التنسيق فيما بينهما للتعامل مع بعض القضايا على غرار دعم النظام السوري، حيث كان للأدوار التي قامت بها الدولتان تأثير كبير في تغيير توازنات القوى داخل سوريا لصالح الأخير.
أيضاً، تشترك إيران وروسيا في القلق المتصاعد تجاه تدخل تركيا في منطقة القوقاز بعد الانتصار العسكري لأذربيجان على أرمينيا في الصراع على إقليم ناجورني قره باغ. إذ يطرح الوجود التركي الجديد في جنوب القوقاز احتمال نقل “المرتزقة” من سوريا إلى هناك على نحو لا يتوافق مع مصالح وحسابات طهران وموسكو.
وقد دعمت إيران لسنوات السياسة التي تتبناها روسيا في مواجهة حلف الناتو، وبحسب علي أكبر ولايتي مستشار المرشد الأعلى للشئون الدولية، فإن الدولتين “تصديتا معاً مدة 40 عاماً للولايات المتحدة الأمريكية”. وبعد إطلاق موسكو العملية العسكرية في أوكرانيا، بدا جلياً أن إيران تدعم الموقف الروسي رغم حرصها على توجيه رسائل مزدوجة في هذا السياق، حيث أكدت طهران رفضها مبدأ “الحروب والدمار في كل مكان من العالم” ودعت إلى إنهاء الحرب، واعتبرت أوكرانيا وشعبها ضحية سياسات الولايات المتحدة الأمريكية وأزمتها المفتعلة، ولم ترفض قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن أوكرانيا، بل امتنعت عن التصويت، وفي الوقت نفسه لم تدن موسكو، بل أكدت أن لها الحق في حماية أمنها القومي من الخطر. فخلال كلمته في 1 مارس الجاري، اعتبر المرشد الأعلى علي خامنئي أن “أوكرانيا التي تواجه غزواً روسياً هي ضحية سياسات الولايات المتحدة الأمريكية”، وصرح بأن “جذور الأزمة الأوكرانية هي سياسات الولايات المتحدة الأمريكية والغرب”، معتبراً أن “النظام السياسي الأمريكي يتغذى على أزمات مختلفة في أنحاء العالم وأن الولايات المتحدة دفعت أوكرانيا إلى هذه النقطة”، من خلال “التدخل بشئون ذلك البلد، وتحريك التجمعات ضد الحكومة، وصنع ثورات مخملية وانقلابات ملونة، وإزاحة هذه الحكومة ووضع تلك”.[2]
كما دعمت وسائل الإعلام الايرانية المحافظة وقطاع من الرأى العام الموقف الإيراني الرسمي المساند لروسيا فى حربها في أوكرانيا، فعلى سبيل المثال، قدمت صحيفة “كيهان” اليومية المتشددة أوكرانيا كـ”ضحية للنفوذ الغربي”، وأشار تعليق نشرته الصحيفة في 27 فبراير الماضي، إلى أن “الحرب في أوكرانيا لم تبدأ في أواخر فبراير ولكن قبل بضع سنوات، عندما قادت الولايات المتحدة الأمريكية الثورات الملونة في البلاد ووضعت فناناً كوميدياً في مقعد الرئيس”. كما وصل الأمر إلى خطباء الجمعة في المساجد، حيث أشار إمام صلاة الجمعة في طهران أحمد خاتمي، إلى الناتو باعتباره المسئول عن الهجوم العسكري دون تسمية روسيا، وزعم خاتمي أن تصرفات الناتو الاستفزازية وتصرفات الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعتبر نفسها بشكل غير مبرر قوة عظمى، أدت إلى تعقيد الوضع في المنطقة.[3]
احتواء الخلاف
على ضوء ذلك، طرحت تساؤلات عديدة حول تأثير الأزمة الأوكرانية على الموقف الروسي من الاتفاق النووي الإيراني، وذلك بعد مطالبة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف الولايات المتحدة الأمريكية بمنح بلاده ضمانات مكتوبة تستثنى علاقاتها التجارية والاقتصادية مع إيران من العقوبات المفروضة عليها على خلفية الأزمة الأوكرانية، الأمر الذي فرض تأثيراً سلبياً، مؤقتاً، على مفاوضات فيينا التي كانت قد أوشكت على الانتهاء، بعدما أعلن الأوروبيون انتهاء 11 شهراً من المفاوضات الشاقّة، في انتظار حفل التوقيع، حيث اتُهمت روسيا بعرقلة الاتفاق.
ورغم أن بعض الاتجاهات بدأت في طرح بدائل للتعامل مع محاولات روسيا عرقلة الاتفاق، منها إبرام صفقة بدون روسيا نفسها، إلا أن إيران لم تبد تجاوباً مع ذلك، ومن هنا سعت إلى رفع مستوى التنسيق مع روسيا والوصول إلى تفاهمات تتيح لروسيا الاستمرار كطرف رئيسي في الاتفاق النووي، وهو ما انتهت إليه زيارة عبد اللهيان إلى موسكو، حيث أكد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف أن الضمانات التي طلبتها روسيا موجودة في نص الاتفاق.
وفي كل الأحوال، فإن مسارعة إيران إلى الوصول لحل وسط مع ورسيا كان بهدف إزالة عقبة جديدة يمكن أن تحول دون الوصول إلى الاتفاق النووي، الذي ترى أنه سوف يفرض تداعيات إيجابية عليها، يتمثل أبرزها في تعزيز دورها في سوق الطاقة، خاصة أن بعض الاتجاهات تتوقع أن الأزمة الأوكرانية ستوفر فرصة اقتصادية لإيران، فأسعار النفط والغاز ارتفعت إلى ذروة لم تصل إليها منذ سنوات، والدخول الفوري إلى سوق الطاقة العالمية قد يوفر عوائد مالية كبيرة للأخيرة. وحسب التقديرات، تملك إيران 80 مليون برميل نفط مخزنة في سفن ومخازن بدول في آسيا، ويمكنها تسويقها بشكل فوري. وترجح تقارير إيرانية أنه خلال فترة قصيرة، أياماً أو أسابيع، تستطيع إيران تسويق 1.2 مليون برميل يومياً، وبهذا تسهم في خفض أسعار النفط في العالم، وهو ما سيمكنها من استقطاب زبائن جدد في أوروبا.
كما أن تعزيز فرص الوصول إلى اتفاق سيؤدي إلى رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران وبالتالي يساهم في تطوير الإمكانات الاقتصادية الإيرانية، وهو ما بدأت تحذر منه قوى عديدة، خاصة إسرائيل التي تشن حملة قوية ضد الوصول إلى الاتفاق الجديد في فيينا بدت جلية في تحذيراتها المتكررة، والتي جاء آخرها على لسان رئيس الوزراء نفتالي بينيت خلال لقاءه وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكين في 27 مارس الجاري، عندما أشار إلى أن إسرائيل يساورها القلق بشأن شطب الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية، مضيفاً أن “التهديد الإيراني ليس نظرياً، فالإيرانيون يريدون تدمير إسرائيل، لن ينجحوا ولن نسمح لهم بذلك”.
ختاماً، يمكن القول إن إيران تتحين الفرصة لرفع العقوبات الأمريكية المفروضة عليها في حالة الوصول إلى اتفاق نووي جديد في مفاوضات فيينا، لكن من دون أن يؤثر ذلك على علاقاتها القوية مع روسيا، خاصة أن تلك العلاقات تساهم في توسيع هامش الحركة وحرية المناورة المتاحة أمام إيران على المستويين الإقليمي والدولي.
مركز الاهرام للدراسات