الفراغ الأميركي في الشرق الأوسط ليس أمنيا فقط

الفراغ الأميركي في الشرق الأوسط ليس أمنيا فقط

بات من الجلي أن الولايات المتحدة التي حافظت على حضور واسع النطاق في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منذ صعودها العالمي منتصف القرن الماضي لم تعد تملك الاهتمام ذاته والشهية في ممارسة النفوذ فيها، يأتي هذا مدفوعاً بعوامل عدة، منها كلفة النشاط في هذه المنطقة سياسياً واقتصادياً، وصعوبة تشكيلها وفقاً لـ”القيم السياسية الأميركية” كما حصل في أفريقيا وبعض مناطق آسيا وأوروبا الشرقية، حتى الآن في الأقل، بالإضافة إلى عامل آخر أكثر جلاءً وهو المعركة الآسيوية المتنامية مع الصين، وضرورة نقل العتاد إلى إقليم آخر بعد أن استنفدت هذه المنطقة فرصتها.

وعليه بدأت الإدارات الأميركية بالتصرف مع المنطقة العربية والشرق الأوسط منذ فترة ليست بالطويلة، ونتيجة لذلك خفضت التزاماتها تجاه “الحلفاء التقليديين” لصالح سياسات ضرورية تهدف إلى ترتيب المنطقة بالحد الأدنى قبل المغادرة، كما يحصل في المفاوضات النووية التي يرى الحلفاء أنها لا تراعي مخاوفهم، إلا أنها بالنسبة إلى واشنطن تحقق قدراً معقولاً من الضبط يمكن لأميركا أن تخفف حضورها في المنطقة بعده، إلا أن هذا له كلفة لم تكن ضمن أولويات الإدارة الأميركية عندما بدأت بإقرارها، وهي قدرة الحلفاء الغاضبين على التأثير في معارك أميركا الأخرى التي صارت ذات أولوية قصوى، وعلى مستوى الرأي العام الذي يولي النفوذ الخارجي أهمية في ظل الهشاشة التي تعيشها المنطقة.

هل الشرق الأوسط أقل أهمية فعلاً؟

التقليل من أهمية المنطقة لصالح مناطق أخرى هو تقدير أميركي فقط، وليس معياراً عاماً يمكن من خلاله أن نتوقع أن تسير عليه كل القوى، ففي الوقت الذي تهب واشنطن لمواجهة الصين في آسيا، تستثمر الصين في علاقة طويلة في أفريقيا والمنطقة العربية، وكذلك روسيا ولو بدرجة أقل.

هذا التغيير يؤثر في موازين القوى على الرغم من استمرار الهيمنة الأميركية في التأثير، إلا أن هذه الهيمنة تبدو متراجعة على مستوى التأثير في الرأي العام بشكل أكثر من أي مجال آخر، فمعركة تشكيل السردية للقضايا الدولية التي كان للغرب بوسائله الناعمة اليد الطولى فيها على مر التاريخ المعاصر باتت في أدنى مستوياتها.

يظهر هذا بجلاء في الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا بين الغرب وروسيا، فبحسب دراسة أجراها معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، فإن مواطني دول عربية عُدت حليفة تاريخية للغرب ومستهلكة لدعايته ومنتجاته الناعمة كانوا أقرب إلى التعاطف مع موسكو.

وشملت الدراسة 1000 عينة اختيرت بشكل عشوائي وأجريت معها مقابلات سرية في السعودية والكويت والإمارات، رأت أكثرها تصالحاً مع الغرب أن علاقة حكوماتهم مع روسيا تساوي في أهميتها علاقاتها مع الولايات المتحدة أو تفوقها، إذ يرى 50 في المئة منهم أو أكثر أن الولايات المتحدة هي شريك غير موثوق به في الشؤون العالمية، وأشار السعوديون والإماراتيون إلى أن روسيا والصين تملآن الفراغ الأميركي في المنطقة شيئاً فشيئاً.

في حين تنظر أكثرية المصريين إلى روسيا والولايات المتحدة كشريكين يتمتعان بالقدر نفسه من الأهمية.

الشرقيون يهتمون بالرأي العام العربي

لا يتوقف صعود الأهمية الروسية أو الصينية بالنسبة إلى الرأي العام العربي على كونها حليفاً أو شريكاً سياسياً وأمنياً، بل يصل هذا إلى حد تأييد المواقف الجزئية أو في الأقل عدم الانحياز ضدها في معاركها. يمكن رصد هذا في الموقف من الحرب الأوكرانية، إذ لا تجد الدعاية الغربية رواجاً لدى المتلقي العربي مقابل الدعاية الروسية التي تضمن في الأقل حياد المنطقة، وهو أمر غير منطقي إذا ما اعتبرت روسيا دولة غازية تجاه دولة أخرى أصغر منها.

يمكن فهم هذا في سياقات كثيرة، أحدها هو أن الانسحاب الغربي من المنطقة صاحبه تراجع في الاهتمام بالتخاطب معها، قابل ذلك حضور للوافدين الجدد (الصين وروسيا) اللتين نشطتا في تسويق وجهة نظر بلديهما في الأزمات مع الغرب، وكان هذا واضحاً في الحرب الأوكرانية.

ساو يا، أو “أبو وسيم” كما يسمي نفسه على “تويتر”، هو سفير الصين لدى لبنان، رأس حربة في الدعاية الصينية ضد الغرب في المنطقة العربية، برز منذ حاولت إدارة ترمب تحميل بلاده مسؤولية تفشي كورونا في العالم، واستمر منذ بدأت إدارة بايدن مساعي عزل موسكو دولياً ضمن حزمة العقوبات، وادعت خلال ذلك أن بكين تسعى لتقديم دعم عسكري واقتصادي لبوتين في حربه، وهو ما واجهته الصين بأنها “حملة تسعى لشيطنة علاقتها بروسيا”

منذ أبريل (نيسان) الماضي، وأبو وسيم يشارك ضمن سلسلة تغريدات رسوم كاريكاتير ضد دعاية أميركا في أوكرانيا، يبرز فيها تناقض الموقف الأميركي بين المقاومة الأوكرانية من جهة والفلسطينيين من جهة أخرى، وأسلوب تعامل الغرب مع اللاجئين العرب مقابل الأوكران، وازدواج معايير وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي التي تجلت في الحرب، وهذه التغريدات تلقى رواجاً واسعاً لدى العرب.

السفير الروسي في القاهرة جيورجي بوريسينكو، يبرز كأحد وجوه الدعاية الروسية باللغة العربية، بالإضافة إلى عشرات المحللين الذين يتحدثون العربية وبدأوا يظهرون في قنواتها، لا يقابل هذه الدعاية محتوى غربي موجه للمتلقي العربي.

تراجع المصداقية الغربية

ازدواج المعايير يأتي في مقدمة التحفظات التي جعلت المتلقي العربي أقل قابلية لاستهلاك الدعاية الغربية، إذ رصد معهد واشنطن أبرز التحفظات العربية على الخطاب الغربي، الذي عدته شريحة الدراسة “نفاقاً” واختلالاً للتوازن في الاستجابة للقضايا التي يعدها الغرب “قيمية”.

كان على رأسها طريقة التعامل مع اللاجئين، من خلال سهولة استقبال الأوكرانيين بشكل أكبر من السوريين والشرق أوسطيين، والخطاب الإعلامي الذي أبدى تعاطفاً معهم أكثر لأسباب عرقية، واختلاف المقاربات بين القضية الأوكرانية والقضية الفلسطينية.

شكل آخر من ازدواج المعايير يراه سلمان الدوسري، الكاتب في جريدة “الشرق الأوسط” الدولية، ورئيس تحريرها الأسبق، إذ كتب في مقال نشر في 14 مارس (آذار) الماضي، “يدعو الغرب إلى حماية الاستثمارات الأجنبية تحت أي ظرف، ويتعامل بمثل ذلك مع الرياضة والاقتصاد ونواحي الحياة كافة، وفي كل فترة يبتكر قيماً ومبادئ يعمل على فرضها بالقوة، إلا أن كل تلك المبادئ تتزلزل وتنهار وتمحى بجرة قلم، متى ما اختلفت الظروف والمصالح السياسية، فخلال أيام قليلة، تلاشت كل القيم الفضفاضة والهشة، بعدما صار الحديث عن الحرب في أوكرانيا – بغض النظر عن موقفي منها – رأياً أحادياً، وفكرة مرسومة على خط مستقيم، وأي خروج عن الرأي الغربي الرسمي هو عمل يجب أن يجابه بالتخوين والتهديد، وقطع سبل العيش الحر”، واصفاً الإجراءات التي اتخذت تجاه المصارف ورجال الأعمال الروسي “الأوليغارشية” بانتكاس للمبادئ التي لطالما حاولت فرضها على العالم.

صراع المصالح والقيم السياسية

ليس على المستوى الشعبي فقط تخسر أميركا والغرب القدرة على كسب أصدقاء في حربهما ضد روسيا، حتى على المستوى الرسمي، إذ نجحت دول المنطقة العربية في الاحتفاظ بحياد نادر بلغ حد اتهامها بالانحياز تجاه الروس نتيجة رفضها خفض أسعار النفط الذي يغذي قدرة موسكو على تمويل الحرب.

ويعود ذلك إلى أن تخفيض واشنطن التزامها تجاه حلفائها في الشرق الأوسط بني على تقدير خاطئ لحجم تأثيرهم على مسارات السياسة الدولية في مناطق الأولوية الجديدة بالنسبة إلى الغرب، شرق أوروبا وآسيا، لتبرز الأزمة أهمية سلاح النفط الذي تملك دول الخليج القدر الأكبر بالتأثير فيه، إلا أنها اختارت التمسك باتفاقات الحصص القائمة.

حتى مع بدء الحرب والإدراك المتعاظم لأهمية مشاركة هذه الدول في الحملة الغربية، لم تراعِ التصريحات الرسمية مواقفها السياسية، ففي توصيف الرئيس بايدن للحظة التاريخية التي تمثلها الحرب في أوكرانيا، قال “نقف عند نقطة انعطاف في الصراع بين الديمقراطية والاستبداد”، ويقصد بالاستبداد الدول غير الديمقراطية التي يمكن أن تنطبق على دول الخليج، ما يجعل واشنطن غير قادرة على الموازنة بين قيمها السياسية التي تدعي تمسكها بترويجها في العالم ومصالحها الكبرى، وهو ما ينعكس على مستوى الرأي العام أيضاً ويخلق فجوة بينهم.

وهنا يكمن الدرس الذي يمكن أن يتعلمه الغرب، فموسكو وبكين قطعتا شوطاً طويلاً في بناء السردية الخاصة بهما للأزمة القائمة لدى الشرق أوسطيين في رؤيتهما العالمية. في حين لا يجد الغرب نفسه مضطراً لبذل جهد أكبر أو تقديم تنازل من نوع ما يمكنه من “إبراز نفاق” خصومه للجمهور العربي، أما استمرار شطب تلك الدول من الاهتمام الغربي لاختلاف الأولويات أو بحجة انقسام المشهد بين ديمقراطيين ودول استبدادية فهو يقوض قابلية استقبال وجهة النظر الغربية في هذه الأزمة، التي تقوم على فكرة أخلاقية تتمثل في حماية سيادة الدول.

اندبندت عربي