مع استمرار الحرب في أوكرانيا وتشديد العقوبات الغربية على روسيا، يقلّ احتمال عودة أسعار الطاقة إلى وضعها الطبيعي، الأمر الذي يؤثّر على النمو الاقتصادي العالمي، ويجعل أوروبا معرضة للخطر بشكل خاص بصفتها مستوردًا كبيرًا للطاقة.
وفي هذا التقرير الذي نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” (The Wall Street Journal) الأميركية، قال الكاتبان بول هانون وأليستير ماكدونالد إنه بعد الارتفاع الأول في عام 2021 الذي بدأ فيه الاقتصاد العالمي بالتعافي من جائحة كوفيد-19، صعدت أسعار الطاقة مرة أخرى بعد انطلاق حرب روسيا على أوكرانيا يوم 24 فبراير/شباط الماضي، وسط مخاوف من حجب إمدادات النفط والغاز من أحد أكبر المصدّرين في العالم بسبب النشاط العسكري أو العقوبات الغربية أو الانتقام من موسكو.
ويوضح الكاتبان أنه مع فشل روسيا في تحقيق نصر سريع؛ يعتقد الاقتصاديون الآن أن أسعار الطاقة قد لا تتراجع بشكل كبير هذا العام وقد ترتفع أكثر، حتى في ظل غياب عقوبات جديدة وتجنّب الغرب النفط والغاز الروسيين، الأمر الذي سيؤدي إلى تقليص الإمدادات العالمية من الهيدروكربونات، وهذا يعني أن معدلات التضخم من المرجح أن تظل مرتفعة لفترة أطول مما كان متوقعًا عندما بدأت الحرب الروسية، مما يؤثر على القدرة الشرائية للأسر ويحافظ على ارتفاع تكاليف الإنتاج.
صعوبات كبيرة وتكاليف مرتفعة
ونقل الكاتبان عن الرئيس التنفيذي لشركة “شل” (Shell) النفطية بن فان بيردن قوله الأسبوع الماضي “نحن ندرك تمامًا كل الصعوبات التي تسببها أسعار الطاقة المرتفعة، بما في ذلك الزيادة الكبيرة جدًّا في تكلفة المعيشة، وهو أمر مؤلم للغاية لكثير من الناس”.
ونظرًا لأنه من الصعب على العديد من الأشخاص تقليل استهلاكهم للطاقة؛ يتوقع الاقتصاديون ارتفاع أسعار الكهرباء ووقود التدفئة والبنزين لتقييد المبلغ الذي يمكن أن تنفقه الأسر على السلع والخدمات الأخرى.
ومن المرجح -حسب تقرير وول ستريت جورنال- أن يؤثر ذلك على النمو في جميع الدول باستثناء أكبر الدول المصدّرة للطاقة.
ويقدر الاقتصاديون في “جي بي مورغان” (JPMorgan) بأن الارتفاع بنسبة 20% في أسعار البنزين في الولايات المتحدة بعد حرب روسيا على أوكرانيا قد يؤدي إلى خفض الإنفاق على السلع والخدمات الأخرى بمقدار 9.6 مليارات دولار شهريًا.
ويشير الكاتبان إلى أنه على عكس أميركا، تستورد أوروبا معظم طاقتها، لذلك عندما ترتفع الأسعار يذهب الكثير من الإنفاق الإضافي من الأسر والشركات إلى الموردّين في روسيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كما بيَّنَا أنه مع سعي أوروبا لتقليل اعتمادها على الطاقة الروسية، يلجأ بعضها إلى الولايات المتحدة التي أصبحت مصدرًا مهما للغاز الطبيعي المُسال في منطقة اليورو، الذي بدوره يقلّص الأموال المُنفقة على السلع والخدمات المنتجة داخل منطقة اليورو، خاصة الآن بعد أن أدت العقوبات على روسيا إلى منعها من شراء البضائع الأوروبية، في حين تميل أسعار الطاقة المرتفعة في الولايات المتحدة إلى توجيه القدرة الشرائية تجاه الدول المنتجة للطاقة والمساهمين أو العاملين في الشركات المنتجة للطاقة.
حماية القدرة الشرائية
ويبين الكاتبان أن أسعار الطاقة المنزلية في منطقة اليورو كانت أعلى بنسبة 40% تقريبًا في أبريل/نيسان الماضي مقارنة بالعام السابق، وهي زيادة أكبر من أي زيادة سنوية خلال السبعينيات، على الرغم من أن ذلك العقد شهد سلسلة من الزيادات السنوية الكبيرة، وفي حين أن الاقتصاد الأميركي ربما يكون قد انكمش في الربع الأول، إلا أن الإنفاق الاستهلاكي نما بسرعة.
وبحسب الكاتبين، فقد خفّض بنك “إس إي بي” (SEB) السويدي المتخصص في إقراض الشركات، توقعاته للنمو الاقتصادي في الولايات المتحدة يوم الثلاثاء الماضي إلى 2.6% من أصل 3.5% لهذا العام، لكنه خفّض توقعاته لمنطقة اليورو إلى النصف تقريبًا لتصل إلى 2.1% من أصل 4%.
كما قالت شركة “كارفور” (Carrefour) الفرنسية -وهي إحدى أكبر سلاسل المتاجر الكبرى في البلاد ولديها فروع في جميع أنحاء العالم- إنها تعتمد على المورّدين للحد من زيادات أسعارهم أو تأجيلها لأطول مدة ممكنة؛ وأوضحت “نبذل قصارى جهدنا لحماية القدرة الشرائية لعملائنا”.
ويكشف الكاتبان أن المستهلكين الأوروبيين، مثل نظرائهم الأميركيين، كانوا قد جمعوا بعض المدخرات أثناء وباء كورونا، لكن بالنظر إلى سرعة ارتفاع الأسعار وركود الأجور في أوروبا، فإن هذه القدرة الشرائية تآكلت بسرعة.
وقال كبير الاقتصاديين في البنك المركزي الأوروبي فيليب لين، في خطاب ألقاه الأسبوع الماضي، “نظرًا لأن منطقة اليورو تستورد النفط والغاز بشكل أساسي، فإن هذا سيشكّل صدمة كبيرة معاكسة لشروط التجارة، مما يقلل الدخل الحقيقي الإجمالي للمنطقة”.
ويكافح بنك إنجلترا المعضلة نفسها، إذ لجأ إلى رفع المعدلات لمكافحة التضخم، وهو ما سيؤدي إلى زيادة انكماش الاقتصاد المتباطئ بالفعل بسبب ارتفاع أسعار الطاقة.
فقد أعلن صانعو السياسة قبل أيام عن الارتفاع الرابع على التوالي في سعر الفائدة الرئيسي، محذرين من أن الاقتصاد البريطاني سيكون على أعتاب الركود خلال العام المقبل.
وتعود هذه التوقعات القاتمة -حسب الكاتبين- إلى حد كبير إلى أسعار الطاقة التي ارتفعت بنسبة 54% في أبريل/نيسان الماضي، في وقت قال فيه محافظ بنك إنجلترا أندرو بيلي “إنني أدرك الصعوبات التي قد يسببها هذا لكثير من الناس في المملكة المتحدة، لاسيما ذوي الدخل المنخفض”.
ويلفت الكاتبان إلى أن أولى بوادر هذا التباطؤ كانت قد بدأت بالفعل في الظهور؛ فعلى عكس الولايات المتحدة والاقتصادات الكبيرة الأخرى، تنشر المملكة المتحدة أرقام الناتج المحلي الإجمالي لكل شهر.
ويؤكد الكاتبان أن المعاناة من ارتفاع أسعار الطاقة لا تقتصر على المستهلكين الأوروبيين وحدهم، بل ينطبق الحال أيضًا على أرباب عملهم، وخاصة الشركات المصنعة كثيفة الاستهلاك للطاقة؛ في وقت يطالب فيه العمال بأجور أعلى لتعويض التضخم، ويقاوم كبار العملاء الأسعار المرتفعة.
ويضيف الكاتبان: بينما يبدو التباطؤ الاقتصادي الحاد أمرًا لا مفر منه في أوروبا، يعتقد بعض الاقتصاديين أن القارة يمكن أن تتجنب الركود، إذ لا يزال لدى الأوروبيين بعض مدخرات الوباء لإنفاقها. كما أن هناك جانبا إيجابيا آخر يتمثل في أن الوباء سيكون أقل تهديدًا لأوروبا هذا الصيف مما كان عليه في العامين الماضيين، مما يبشّر بدفعة محتملة لبلدان جنوب أوروبا”.
المصدر : وول ستريت جورنال