لم تقم الدول الأوروبية الرئيسية بتذويب النعرات القومية العنصرية المتأصلة في شعوبها فتُوحد الفرنسيَّ مع الإنجليزي، والألماني مع الإنجليزي، بجهود حكوماتها، وحدها، بل إن التطور في مزاج الأوساط الشعبية هو الذي أوصلها إلى تغليب السلوك العقلاني في علاقتها مع جيرانها، وتقوية حركة تبادل المنافع الاقتصادية بين مواطنيها، وتنويعها، وتبادل خبراتها وأدواتها وتكنولوجيتها، ليأتي بعد ذلك دور الحكومات التي عملت على إزالة ما تبقى من حواجز قومية كانت قائمة بين شعوبها.
يعني أن المسألة لم تأت من فوق. أي أن ساعة صفا مباغتة جمعت رؤساء حكومات متنازعة في غرفة مغلقة فقرروا تناسي خلافاتهم وإقامة وحدة بينهم، دون وجود رأي عام شعبي أنضجها فطلبها.
والخلاصة هي أن التقارب الشعبي والحوار وتبادل المصالح الاقتصادية في أوساط الجماهير الأوربية هي التي أنتجت الحكومات العاقلة التي سعت لتفعيل هذا التقارب بين شعوبها.
وفي حالة الخلل الحالي الذي تتميز به العلاقات الحكومية بين العرب وإيران وتركيا تتضاعف الحاجة إلى الأطر والوسائل الكفيلة بتقوية الجسور بين شعوب المنطقة، واستعادة التفاهم والتخادم في ما بينها، من أجل إنتاج حكومات تحترم المزاج الشعبي العام، وتلتزم باعتماد سياسات عقلانية متوازنة تمنع الصِدام والانقسام والاعتداء والحروب والاستغلال والاحتلال، وترسي قواعدَ جيرةٍ حسنة تحقق الأمن والسلام والرخاء لمواطنيها.
بوجود النظام الإيراني بطبيعته العدوانية القمعية المتطرفة لا يمكن العثور، الآن، على فرص تقارب وتفاهم بين العرب والشعب الإيراني إلا بسقوط هذا النظام أو بإجباره، من الداخل أو من الخارج، على تغيير طبيعته العدوانية
وبوجود النظام الإيراني بطبيعته العدوانية القمعية المتطرفة لا يمكن العثور، الآن، على فرص تقارب وتفاهم بين العرب والشعب الإيراني إلا بسقوط هذا النظام أو بإجباره، من الداخل أو من الخارج، على تغيير طبيعته العدوانية، ليمكن بعد ذلك فتح الأبواب القديمة، وعودة الألفة والمودة والمنفعة والاحترام المتبادل بين العرب والشعب الإيراني من جديد.
لكن الأمر مختلف كثيرا في ما يتعلق بالعلاقة بين الحكومات العربية وتركيا. فرغم ما أصاب هذه العلاقة من التواءات وانحرافات، خصوصا في العراق وسوريا ومصر وليبيا والسعودية وغيرها، فإن العروة الوثقى بين المواطن العربي والتركي لم تتأثر إلا بأقل الحدود.
وإذا ما توفرت النخب العربية والتركية الثقافية والإعلامية والأكاديمية المتنورة، ثم قامت بدورها في نشر الوعي السلمي في الأوساط الشعبية وتعميقه فإن الجماهير العربية والتركية ستصبح أكثر رغبة في التفاهم والتخادم وتبادل المصالح والمنافع، وباحترام الجيرة ومراعاة أصولها، وهو اللازم والمطلوب لمنع الحكومات من اللجوء إلى الاصطدام في علاقاتها مع جيرانها.
والدليل الواضح على ذلك يتمثل في عودة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى اعتماد سياسته الجديدة القائمة على ضرورة إصلاح ما يحتاج إلى إصلاح من علاقات حكومته بحكومات مصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة.
وبالتدقيق في دوافعه الحقيقية نجد أن الضغط الشعبي التركي أولا، والغضب الشعبي العربي، ثانيا، من أهم تلك الدوافع.
فبعد قطيعة طويلة محملة بالدموع والدم وخسائر الاقتصاد، وضياع الجهد والمال، وجد الرئيس أردوغان، ولو متأخرا، أن الفصل بين الشعبين التركي والعربي، ليس صعبا فقط، بل هو أقرب إلى المستحيل، لأنه مخالف لطبيعة الأشياء.
كما أن الحكومات العربية، حتى وهي في ذروة سياساتها الانتقامية من حكومة أردوغان، لم تستطع أن تمنع المواطن العربي من تفضيل الشقيق التركي على غيره في السياحة والاستثمار والتجارة والثقافة والفنون.
وأول من تنبه لهذه النظرية الإنسانية التقدمية هو المفكر والأديب والسياسي التركي – العراقي أرشد الهرمزي (إرشاد هرموزلو) كبير مستشاري رئيس الجمهورية التركية السابق عبدالله غول.
التقارب الشعبي والحوار وتبادل المصالح الاقتصادية في أوساط الجماهير الأوربية هي التي أنتجت الحكومات العاقلة التي سعت لتفعيل هذا التقارب بين شعوبها
فقد منحته إقامته في العراق، ودراسته الحقوق في جامعة بغداد، ثم انتقاله إلى بلده الثاني، تركيا، باعتبار أن أصول عائلته تعود إلى مدينة قونية التركية، ليتم اختياره كبير المستشارين لدى رئيس الجمهورية، وعيا ونضوجاً نفسيا وثقافيا وإنسانيا نقيا معافىً من العصبية القومية، ومتوازناً وعادلا في علاقته بأشقائه العراقيين والعرب، على حد سواء. الأمر الذي جعله مؤمنا إلى حد اليقين بأن إيقاظ الوعي السلمي الإنساني لدى الشعب التركي ولدى شعوب المنطقة وحده الكفيل بمنع الحكومات من تغليب النوازع والاجتهادات والأطماع السياسية العابرة على الثوابت الأخوية والإنسانية بين هذه الشعوب.
فقد بادر مع بعض رفاقه إلى تأسيس ما أسموه بـ”ملتقى الحوار العربي – التركي”، وتمكن من عقد لقائه التأسيسيّ الأول في إسطنبول في ديسمبر 2012 من أجل ترسيخ مبدأ الحوار البناء بين الثقافة التركيّة وثقافات المجتمعات العربيّة “لترسيخ السلام والتفاهم بين العرب والأتراك”، واعتبار “الحوار أساسًا للتفاهم بين الشعوب”. ثم توالى عقد الملتقى في عواصم مختلفة، ولم يتوقف.
وقد شدد أعضاء الهيئة التأسيسية على أنهم “لا يعبّرون عن وجهة نظر رسميّة أو حكوميّة” بل يؤمنون بأن التفاهم الحضاري بين الشعوب والشرائح الاجتماعية لن يترك للحكومات والمؤسّسات الرسمية، وحدها، صياغة علاقات شعوبها ببعضها.
ومن أهم ما ورد في بيانهم التأسيسي دعوتُهم إلى “تعميق الفهم الإيجابي المشترك بين العرب والأتراك، في إطار تحرك حضاريّ مستنير يدعو إلى الألفة والمودة والتعاون، ونبذ الدعوات التحريضيّة التاريخيّة والمعاصرة التي تبحث عن المختلف المعطل وتضخيمه”، و”عقد المؤتمرات والمنتديات الثقافيّة المشتركة سواء في تركيا أو البلدان العربية أو في الدول الأجنبية للتعريف بهذه المفاهيم”، و”التوسّع في تعليم اللغة العربيّة في تركيا في المراحل الدراسية المختلفة، وتعليم اللغة التركية في البلدان العربية المختلفة حيث إنّ اللغة جسر تواصل حضاريّ بالغ الأهمية”، و”الدعوة إلى تنقية المفردات الدراسيّة في مناهج التعليم في كل من الطرفين من أية مواد تسيء إلى العلاقة التاريخيّة والحضاريّة بين الشعوب”.
وهذا ما يؤكد صواب نظرية زميلنا إرشاد هرموزلو القائمة على أن تنمية الوعي السلمي وتجديد وتعميق التلاحق الثقافي والاجتماعي بين العرب والشعب التركي هي السبيل الوحيد لتحقيق سلام دائم بين إخوة المبدأ والجيرة والحضارة والدين.
العرب