قد ترتفع سخونة الحرب الباردة الجديدة قريبا

قد ترتفع سخونة الحرب الباردة الجديدة قريبا

كانت التوترات بين روسيا والدول الغربية في الأسابيع العشرة الماضية منذ بدأت روسيا هجومها على أوكرانيا أعلى منها من أي وقت مضى منذ أزمة الصواريخ الكوبية. وقد اتهم الرئيس الأميركي جو بايدن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهو زعيم دولة عظمى تملك أسلحة نووية، بارتكاب “إبادة جماعية”، ووصفه بأنه “مجرم حرب”، كما صرح بأن [بوتين] “لا يمكنه أن يبقى في السلطة”. وطبقاً للويد أوستن، وزير الدفاع الأميركي، فإن الولايات المتحدة تسعى حالياً إلى “إضعاف روسيا” إلى الدرجة التي لن تكون معها قادرة على تهديد جيرانها. ووصفت ليز تروس، وزيرة الخارجية البريطانية، الحرب في أوكرانيا بأنها “حربنا”.

وإذ كان الزعماء الأوروبيون الآخرون أشد حذراً في اختيارهم الكلمات [التي استعملوها لوصف الحرب]، فهم كانوا واضحين بالقدر نفسه لجهة معارضتهم العدوان الروسي. واعتبرت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية في أعقاب زيارة قامت بها لبلدة بوتشا في أوائل أبريل [أن ما رأته كان] “فظيعاً، ولا يعقل، وصادماً”. وأدى الصراع إلى وضع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في حالة تأهب عسكرية قصوى كما تمخض عن التشديد بشكل كبير على مخاطر اعتماد أوروبا على روسيا في مجال الطاقة. وتلاشى الاطمئنان إلى تخلي بوتين عن استعمال القوة وتحويل التجارة إلى سلاح، من غير تقدير المخاطر الكامنة في هذا الاسعمال، وكذلك [تلاشى] التردد بالترحيب بأوكرانيا في الاتحاد الأوروبي. وقد نشر حلف شمال الأطلسي (الناتو) الآلاف من القوات الجديدة بالقرب من الحدود مع روسيا، ومن المرجح أن يضم الحلف قريباً كلاً من فنلندا والسويد إلى صفوفه.

وقد تحول القادة الروس في الأثناء، تحولاً حاداً من وضعهم الحرب في إطار “عملية خاصة” محدودة، من أجل “تحرير” أجزاء من شرق أوكرانيا، إلى جعلها صراعاً وجودياً شاملاً ضد حلف الناتو. واتهم بوتين الولايات المتحدة، ودول أخرى، بمحاولة “تدمير روسيا من الداخل”. كما هدد القادة الروس في مناسبات متعددة بنشر أسلحة نووية ضد أي دولة تتجرأ على التدخل في الصراع.

وتنتج هذه التطورات مجتمعة واقعاً جديداً خطيراً. فالأيام التي كانت أهداف الحرب في نظر روسيا، تقتصر على “اجتثاث النازية ونزع السلاح” من أوكرانيا، ولّت. والأيام التي قيدت فيها الولايات المتحدة والحكومات الحليفة مشاركتها [في الصراع] بمساعدة أوكرانيا على الدفاع عن سيادتها ووحدة أراضيها، طويت. ولقد تجاوز قادة طرفي النزاع الآن سلسلة من الخطوط التي لا يمكن التراجع عنها بسهولة [والعودة إلى الوضع السابق]. والنتيجة هي حرب باردة جديدة بين روسيا وخصومها. وهي تعد بأن تكون أضيق عالمية من التي شهدها القرن العشرون وأقل استقراراً وقابلية للتنبؤ بتطوراتها.

حرب باردة جديدة

والأرجح أن تكون المنافسة بين روسيا والولايات المتحدة أقل وأكثر خطورة، في الوقت نفسه [هذه المرة] من سابقتها التاريخية [ويرجع ذلك إلى أسباب] أحدها أن روسيا تمثل تهديداً عسكرياً أضعف بكثير، بالنسبة إلى واشنطن، من تهديد الاتحاد السوفياتي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وذلك على الرغم من ترسانة موسكو النووية، وثروتها الهائلة بالموارد الطبيعية. وعلى كل حال، فإن غزو بوتين أتاح للولايات المتحدة والمسؤولين الحلفاء معاينة أوجه قصور موسكو العسكري الفادح. ونظراً للفشل الكامل للهجوم الروسي الأولي على كييف، والخسائر الفادحة التي تكبدتها موسكو في ميدان القتال ضد قوات أوكرانية أقل عدداً وأقل بما لا يقاس، فعلى الأغلب أن المليارات التي صرفتها روسيا على التحديث العسكري طوال العقد الماضي تبددت، أو سرقت، أو تبددت وسرقت معاً.

ولا يقل أهمية عن ذلك حجم اقتصاد روسيا، الذي كان على الرغم من عائدات النفط والغاز، أصغر من اقتصاد نيويورك، إبان الغزو. وكان هذا قبل أن تؤدي عقوبات الولايات المتحدة وحلفائها إلى انكماش اقتصادي بين 10 و15 في المئة في عام 2022، وهو كساد من شأنه حتماً أن يقيد قدرة روسيا على إرغام دول أخرى [على فعل ما تريده] بقوتها الاقتصادية. وخلافاً للاتحاد السوفياتي، حيث عزل الاقتصاد الموجه البلاد عن الحرب الاقتصادية، تعتمد روسيا بقيادة بوتين على التجارة والاستثمار الخارجيين. وهي تسعى الآن جاهدة لتسديد أقساط ديونها الدولية. وبالطبع، يمكن لروسيا أيضاً أن تحول الاعتماد المتبادل إلى سلاح لمصلحتها، كما يدل قطع الكرملين أخيراً صادرات الغاز إلى بلغاريا وبولندا، لكن في حين أن أوروبا تستطيع أن تنجو، وهي ستفعل، من فك الارتباط مع روسيا، فإن خيارات روسيا الاستراتيجية محدودة جداً.

وخلال القرن العشرين، كسبت موسكو، بفضل جاذبية الاتحاد السوفياتي الأيديولوجية أصدقاء ومعجبين حقيقيين في أنحاء العالم، بينهم كوبا ونيكاراغوا في الأميركيتين، ومصر وسوريا في الشرق الأوسط، وكمبوديا وفيتنام في جنوب شرقي آسيا، وإثيوبيا وموزمبيق في أفريقيا. إلا أن لروسيا حالياً فقط زبائن ودولاً تتكل عليها. وعلى الرغم من أن العديد من الدول، بما في ذلك معظم الديمقراطيات، بين المنخفضة الدخل إلى متوسطة الدخل، بما فيها البرازيل والهند وإندونيسيا والمكسيك التي تواصل الوقوف على الحياد والتعامل مع موسكو، لم يدافع عن غزو روسيا في الأمم المتحدة سوى بيلاروس، وإرتيريا، وكوريا الشمالية، وسوريا (وكانت فنزويلا أيدت روسيا أيضاً لو أن كاراكاس قد سددت متأخرات تترتب عليها للأمم المتحدة، وأتيحت لها فرصة التصويت).

ستكون المنافسة بين روسيا والولايات المتحدة أقل وأكثر خطورة في الوقت نفسه من سابقتها.

وقيمة بكين بصفتها حليفاً لروسيا، محدودة. ومع أن شي جينبينغ، الزعيم الصيني، قد أنهى اجتماعاً عقده وجهاً لوجه مع بوتين قبل الحرب بتعهد أن صداقة مع روسيا “بلا حدود”، فإن شي يظل أكثر اهتماماً بكثير بمستقبل الصين، ومستقبله هو منه بمستقبل بوتين. وإذ تشاطر بكين موسكو، بصورة مؤكدة، الرغبة في التصدي لما تعتبره العاصمتان جهوداً أميركية وأوروبية لاحتوائهما، فمن غير المرجح أن يدين شي سلوك روسيا طالما لم تبادر إلى استعمال أسلحة كيماوية أو نووية، ولكن من الواضح أن هناك حدوداً للدعم الصيني لبوتين.

وقد تكون الصين قوة مراجعة [تعيد النظر في أسس توافق سابق] عازمة على تقويض هيمنة الولايات المتحدة، بيد أن لدى بكين مصلحة كبيرة في الحفاظ على الاستقرار العالمي. وتعتمد شرعية شي والحكم المحلي للحزب الشيوعي الصيني على النمو الاقتصادي الثابت، الذي يعتمد بدوره على العلاقات البراغماتية مع كبار شركاء بكين التجاريين في أوروبا، واليابان، والولايات المتحدة. ولذلك فمن غير المرجح أن تجازف الصين بالمواجهة [مع الغرب] من خلال انتهاك صريح للعقوبات أو تقديم دعم عسكري مباشر لموسكو.

وثمة حدود مماثلة تنطبق على التجارة. وعلى الرغم من أن بكين وموسكو شريكان طبيعيان، باعتبار أن الصين بحاجة إلى النفط والغاز والمعادن والفلزات الروسية، وروسيا بحاجة ماسة إلى الأموال الصينية، فإن البنية التحتية اللازمة من أجل تحويل الصادرات [الروسية] الموجهة إلى أوروبا و[إرسالها] شرقاً تقتضي استثمارات هائلة وطويلة الأجل. وعلى أي حال، فنمو الصين الاقتصادي يتباطأ منذ اليوم. واستعداد بكين لتحمل إنفاق من هذا النوع هو رهن انتزاع شروط مواتية للغاية من موسكو. باختصار، على الرغم من قول شي إن صداقة بكين وروسيا من دون حدود، فإن لها حدوداً سياسية واقتصادية واضحة.

ولسوء الحظ، تنتهي هنا الأخبار الحسنة للولايات المتحدة وحلفائها. وعلى النقيض من حالها أثناء الحرب الباردة في القرن العشرين، فالولايات المتحدة هي اليوم أكثر الدول الأعضاء في “مجموعة السبع” انقساماً على نفسها سياسياً وأشدها اختلالاً وظيفياً. ومع أن الديمقراطيين والجمهوريين يتفقون حالياً على أن الأوكرانيين يستحقون الأسلحة، والروس يستحقون العقوبات، ويتفق الحزبان على وجوب تفادي الولايات المتحدة مواجهة مباشرة مع موسكو، فإن وحدة سياسية داخلية على هذا النحو لن تدوم طويلاً. وإذ تلوح الانتخابات النصفية في الأفق، فإن الجمهوريين سيسلطون الضوء على أسعار الغاز التي تحلق عالياً، وعلى التضخم الذي بلغ أرقاماً قياسية، فيما يصورون بايدن في صورة زعيم ضعيف “خسر أوكرانيا”. وفي المقابل، سيحاول الديمقراطيون أن يربطوا بين الحزب الجمهوري وبين إعجاب الرئيس السابق دونالد ترمب القديم ببوتين، وتشكيكه في حلف الناتو. وفيما يشهد الأوروبيون عودة إلى القنص الحزبي المرير في الولايات المتحدة، قد يفاجئهم عن حق تغيير الانتخابات المقبلة من نهج واشنطن حيال روسيا والتحالف عبر الأطلسي، خصوصاً إذا عاد ترمب كمرشح جمهوري في انتخابات عام 2024 الرئاسية.

وفيما تأخذ سخونة الحرب الباردة الجديدة بالارتفاع، ينبغي للزعماء أن يبدأوا التفكير في صمامات الأمان

ثمة عنصر آخر من عناصر الخطر يكمن في خطاب الزعماء الغربيين المتصلب عن التنافس الأيديولوجي بين الأنظمة الديمقراطية والاستبدادية. وجادل بايدن وبعض الزعماء الأوروبيين، على سبيل المثال، بأن من الضروري طرد روسيا من “مجموعة العشرين” التي تجمع قادة أكبر عشرين اقتصاداً في العالم. وعلى الرغم من الادعاءات الساخرة بأن “مجموعة العشرين” ليست أكثر من [منبر يوفر] فرصة لالتقاط صور جيوسياسية، أثبت هذا الملتقى قيمته خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008، عندما كان بمثابة فضاء حيوي لالتقاء الدول ذات الأنظمة السياسية والقيم الأيديولوجية المختلفة بعضها ببعض. وإذ انهارت الأسواق، أدرك زعماء “مجموعة العشرين” أنهم لا يستطيعون الاستجابة للكارثة الاقتصادية العالمية إلا إذا جلست دول غير ديمقراطية، أو تتبع نظام رأسمالية الدولة حول الطاولة إلى جنب الديمقراطيات الصناعية المتقدمة.

وخلافاً لذلك، لا يرى بايدن أن ثمة حاجة كبيرة للتعاون مع دول على الطرف الآخر من الحدود الأيديولوجية. وبدلاً من تصوير النزاع في أوكرانيا محاولةً على حدة لخوض حرب عدوانية، فوضعه الرئيس الأميركي في إطار “المعركة بين الديمقراطية والاستبداد”. لا يمكن أن يحبذ شي جينبينغ سماع تلك النغمة، ومن الطبيعي أن ترفض الصين الجهود الرامية إلى طرد روسيا من “مجموعة العشرين”. وعندما يحين موعد اجتماع قمة المجموعة في نوفمبر (تشرين الثاني)، يتعين على بايدن، والقادة الحلفاء، أن يختاروا بين تشارك الطاولة مع مستبدين مثل بوتين وشي جينبينغ، وبين الإخلال الوظيفي بعمل المجموعة في وقت يزداد فيه خطر التهديدات العالمية التي تتطلب مواجهتها إجراءات جماعية، مثل تغير المناخ، والجائحات، وانتشار التقنيات التخريبية، على سبيل المثال لا الحصر. واحتمال انهيار التعاون المتعدد الأطراف هو أكبر خطر ماثل يواجهه النظام الدولي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.

TRAITOR AP.jpg
سلطات الأمن الأوكرانية تعتقل متهماً بالتعامل مع روسيا في خاركيف (أ ب)
والسبب الأخير في تفوق خطر هذه الحرب الباردة الجديدة على سابقتها هو الاحتمال المتزايد بأن تلجأ روسيا إلى حرب سيبرانية مدمرة حقاً. وعلى الرغم من الفرقة بين موسكو وواشنطن في احتساب موازين القوة التقليدية، فالأسلحة الرقمية الأكثر تطوراً في روسيا هي أشد زعزعة للاستقرار من الصواريخ النووية التي كانت تهدد الولايات المتحدة وأوروبا في ثمانينيات القرن الماضي. ولا تقتل الأسلحة السيبرانية الناس على الفور، بيد أنها تبقى مدمرة بشكل كبير، وقادرة على إلحاق ضرر جسيم بالنظم المالية، وشبكات الطاقة، وبنى تحتية أساسية أخرى. والأهم من ذلك، هو أن استعمال الدول للأسلحة السيبرانية أكثر ترجيحاً من أسلحة دمار شامل أخرى، وذلك لأن بناءها أسهل، وإخفاءها يسير، وإقامة الدفاعات في وجهها في غاية الصعوبة، ويكاد يكون من المستحيل ردعها.

ويجب ألا تستسلم واشنطن أم تطمئن إلى أن بوتين لم يستعمل حتى الآن أكثر هذه الأسلحة تدميراً. فالتخطيط للهجمات السيبرانية الفعالة يستغرق أشهراً، بل سنوات، والحرب في أوكرانيا بدأت للتو. وكما استجابت الولايات المتحدة وأوروبا للغزو بمعاقبة روسيا اقتصادياً، يمكن للأخيرة أن تستخدم أسلحة سيبرانية لشل الولايات المتحدة وأوروبا سياسياً، وذلك من خلال استهداف الانتخابات المقبلة بموجات أكبر وأكثر تواتراً من المعلومات المضللة.

أين هي صمامات الأمان؟

وفيما تأخذ سخونة الحرب الباردة الجديدة بالارتفاع، على الزعماء أن يبدأوا التفكير في سبل الوقاية من الأخطار أو تدابير الأمان المصممة لضمان عدم تصعيد هذا الصراع وتحويله إلى مواجهة مباشرة بين روسيا وحلف الناتو. وفي أعقاب الصدام النووي الذي كاد يقع جراء أزمة الصواريخ الكوبية، على سبيل المثال، أوجد قادة الولايات المتحدة وأوروبا والاتحاد السوفياتي أنظمة مأمونة من العطل، أي اتفاقيات الحد من التسلح مثل “معاهدة القوى النووية متوسطة المدى”، وخطوات بناء الثقة كاتفاقيات الأجواء المفتوحة، لضمان ألا تؤدي الحروب بالوكالة في أرجاء العالم إلى اندلاع حرب عالمية ثالثة.

وليس هناك، اليوم، معادل سيبراني لـ”معاهدة القوى النووية متوسطة المدى”، كما أنه ليس من سبيل للتفاوض على معاهدة من هذا النوع وإنفاذها في الحال. وثمة قدر ضئيل من الثقة حالياً بين الرئيس الروسي والحكومات الغربية، كما أن من الصعب تخيل كيفية بناء ما يكفي من الثقة من أجل إيجاد قواعد ومؤسسات جديدة (وكم سيستغرق ذلك). فمجلس الأمن الدولي يعاني تصدعاً على نحو لا ينفع معه الإصلاح، ومع عدم وجود بدائل واقعية في الأفق، فأفضل ما يمكن للزعماء أن يفعلوه هو الاستمرار في التواصل بصراحة واحترام في شأن الفرص المحتملة للحد من الضرر المتعاظم الذي يمكن للمواجهة بين روسيا والغرب أن تلحقه بالعالم. وفي الوقت الحالي، ترك المجتمع الدولي أمام حرب ليس هناك أولويات متفق عليها للحد من توسعها.

ومع ذلك، فإن زعماء الولايات المتحدة والدول الأوروبية يعتقدون أنهم يستطيعون منع الصراع من التفاقم والخروج عن السيطرة. إنهم يواصلون فرض عقوبات أشد صرامة من أي وقت مضى، وإرسال الأسلحة الفتاكة إلى كييف، ومشاركة المعلومات الاستخباراتية في الوقت الحقيقي مع القوات المسلحة الأوكرانية، والتشجيع على مزيد من التوسيع لحلف الناتو، والحديث عن المستقبل الأوروبي لأوكرانيا. إنهم يتحدثون كما لو أن رفضهم إرسال قوات تابعة للناتو إلى الأراضي الأوكرانية أو فرض منطقة حظر على الطيران في مجالها الجوي، من شأنه أن يضع حداً للمجازفة بانتقام روسي. والحق أن بوتين يعتبر سلفاً أن كل هذه الخطوات أعمال حرب [الغاية منها إثارة صراع عسكري مباشر]. وتقدر الولايات المتحدة وحلفاؤها أن تنفيذ هذه السياسات، بينما لا تتمتع روسيا اليوم بالقدرة على توجيه ضربة انتقامية كبيرة، أمر مشروع، لكن على قدر مايطول أمد الحرب، تزداد صعوبة منع التصعيد [والانزلاق] إلى صراع أوسع نطاقاً على كلا الجانبين.

إذا وجد بوتين أن من المستحيل إعلان النصر في الداخل، ازدادت مخاطر التصعيد

وحتى إذا أقنع بوتين بإنهاء هذه الحرب من خلال اقتراح الاستيلاء على رقعة صغيرة من الأرض في شرق أوكرانيا، على أنه انتصار تاريخي بالنسبة لروسيا، فلن يعود الاستقرار النسبي الذي كان قائماً قبل 24 فبراير (شباط). ستكون الحرب الباردة الجديدة مفتوحة بلا نهاية، وستبقى روسيا إلى أجل غير مسمى مثقلة بعقوبات الحلفاء، وسيكون لها القليل من الروابط التجارية مع أوروبا، وهذه كانت تشجع على ضبط النفس. ومن المرجح أن يختبر بوتين في حال تعرضه إلى الإذلال، تصميم حلف الناتو. فيمكن لروسيا، على سبيل المثال، أن تضرب أهدافاً تابعة للحلفاء مثل قوافل أسلحة، ومراكز تدريب، ومستودعات تخزين في أوكرانيا. ويمكنها أن تقوم بهجمات سيبرانية محدودة ضد بنى تحتية مدنية في الولايات المتحدة ودول أوروبية. وقد تقطع إمدادات الغاز عن مزيد من الدول الأوروبية وتقيد صادرات بضائع بالغة الأهمية. فيتعرض قادة حلف الناتو وسط أزمة اقتصادية متفاقمة، إلى ضغوط هائلة من أجل الرد على هذه الاستفزازات بالمثل، ما يؤدي إلى المجازفة بتصعيد إضافي خطير.

وإذا خسر بوتين دونباس، ووجد أن من المستحيل إعلان النصر في الداخل، تعاظمت مخاطر التصعيد. وفي هذا السيناريو ربما تفكر موسكو باستخدام أسلحة كيماوية من أجل تحويل الموازين، أو بمهاجمة منشآت تابعة لحلف الناتو في بولندا. ويمكن لقادة الولايات المتحدة والدول الأوروبية أن يردوا بشن هجمات مباشرة على ممتلكات أو أهداف روسية في أوكرانيا أو بفرض منطقة حظر على الطيران. وإذا ردت واشنطن بتشديد العقوبات، فقد يتوقف الغاز على الفور عن التدفق إلى أوروبا. ويشعر كلا الجانبين بالرغبة في شن هجمات سيبرانية مدمرة على البنى التحتية البالغة الأهمية لكليهما. وعلى الرغم من أن كلا الإجراءين لا يزال مستبعداً، فلن يبقى مستحيلاً تصور استخدام أسلحة نووية ونشر قوات تابعة لحلف شمال الأطلسي. ومن دون وقايات أمان، ليس هناك وسيلة لتوقع المدى الذي يمكن أن يقود هذا المنطق الجديد.

اندبندت عربي