بعد مرور 222 يوما على إجراء الانتخابات البرلمانية المبكرة في العراق، لا تزال الأمور تراوح مكانها الأمر الذي أفقد الانتخابات المبكرة جدواها، وتحول الصراع، بين القوى الفائزة، إلى تغالب وفرض إرادات جعل الممارسة السياسية أقرب الى العبث!
منذ البداية قلنا إن الصراع السياسي في العراق لا يتعلق بالإيديولوجيات، أو بالبرامج السياسية للأحزاب، بل كان دائما صراع ولاءات عصبوية عمودية تقليدية قائمة على الإقليمية الجغرافية، او على الأساس الطائفي (القومي أو المذهبي) أو التقليد الديني، أو قائمة على الزبائنية!
أما الأحزاب الجديدة، وهي كثيرة، فهي لم تتجاوز حتى اللحظة مستوى الدكاكين المملوكة لمموليها!
في المقابل، فإن الغالبية المطلقة في العراق، لا تصوت في الانتخابات على أساس البرامج السياسية، ولا تكلف نفسها مشقة الاطلاع على ما يسمى بالبرامج الانتخابية للقوى السياسية، وهذه البرامج التي يفترض أن تكون ضمان الناخب لتحقيق مصالحه وحجة على المرشح في حال فشله في تحقيقها، هي في العراق مجرد إنشاء سياسي، يظهر قبيل الانتخابات ويختفي بعدها!
وبعيدا عن البروباغاندا التي يستخدمها البعض قنابر دخان للتضليل، لا يمكن الوقوف على أي تمايز حقيقي بين الفريقين المتصارعين، وإذا كان البعض يتوهم، بحسن نية أو بتحليل رغبوي، أن ثمة تمايزا بين الطرفين يتعلق بالموقف من إيران وحلفائها وأدواتها مثلا، فلا يمكن لهذا التمييز أن يصمد، حقيقةً، أمام الوقائع على الأرض، كما أن هذا التمييز إن صح، لا يمكن التعويل عليه بمفرده عند الحديث عن إدارة الدولة!
إن مراجعة التحالفات التي تشكلت في العراق عامي 2005 و 2018 على أقل تقدير، تكشف عن تحكم عوامل براغماتية بحت في تشكيلها بعيدا عن أي عامل آخر! فالصدريون بعد انتخابات عام 2005 كانوا داعمين لحزب الدعوة، وهم من أوصل مرشحه إلى منصب رئاسة مجلس الوزراء من خلال التصويت لإبراهيم الجعفري على حساب عادل عبد المهدي مرشح المجلس الأعلى، داخل الائتلاف العراقي الموحد الذي ضم الجميع! ثم آل الامر إلى نوري المالكي بعد الفيتو الأمريكي/ السني/ الكردي على الجعفري! ومع الصراع الذي وصل إلى المواجهة المسلحة بين رئيس مجلس الوزراء الأسبق نوري المالكي والتيار الصدري عامي 2007 و 2008، الذي انتهي بوقف أنشطة جيش المهدي في آب/ أغسطس 2007 بعد معارك كربلاء، ثم تجميده إلى أجل غير مسمى في أغسطس 2008 بعد معارك البصرة وبغداد. وهو ما أفضى إلى دخول التيار الصدري في تحالف مع المجلس الأعلى الإسلامي في انتخابات العام 2010 في مواجهة تحالف دولة القانون الذي ترأسه المالكي، لكن الصدريين سرعان ما تخلوا عن اعتراضاتهم على المالكي، وقبلوا بترشيحه لولاية ثانية، في مقابل مكاسب سياسية (حصل الصدريون يومها على 8 وزارات وهي ضعف حصتهم التي كانت لا تزيد عن 4 وزارات)!
نحن أمام صراع على النفوذ والهيمنة والاستحواذ على أدوات السلطة وريعها، وبالتالي لا يمكن التعامل مع المواقف المعلنة على أنها مواقف نهائية غير قابلة للمراجعة
وتركوه بعد سنتين فقط عندما اشتركوا مع الحزب الديمقراطي الكردستاني وجزء من القائمة العراقية في محاولة سحب الثقة عن المالكي في العام 2012. كما كان التيار الصدري طرفا في دعم الانشقاق الذي حصل في حزب الدعوة عام 2014، من خلال دعمهم لترشيح الدكتور حيدر العبادي على حساب المالكي الذي كان قد حصل يومها على العدد الأكبر من المقاعد في الانتخابات. ليعود التيار الصدري ويتخلى عن حزب الدعوة/العبادي عام 2018 لدعم السيد عادل عبد المهدي الذي كانوا قد صوتوا ضده في العام 2006!
أما بالنسبة للحزبين الكرديين، ورغم الخلافات التاريخية بينهما، والتي وصلت حد الاقتتال في مرات عديدة، فقد دخل الحزبان في تحالفات عديدة داخل إقليم كردستان، لعل أشهرها تحالف 50 + 50 الذي حكم الانتخابات التشريعية في العام 1992! كما دخل الحزبان في تحالفات متتالية في الانتخابات التشريعية العراقية تحت عنوان «التحالف الكردستاني» في انتخابات 2005 و 2010، مع أنهما دخلا منفردين، أو ضمن تحالفات أخرى عام 2014، إلا أن الحزبين كانا حريصين على العمل معا في سياق انتخاب رئيس الجمهورية، ثم تشكيل الحكومة للحفاظ على مصالح الإقليم، وقد شكل الحزبان لجنة مشتركة في أعقاب انتخابات العام 2018، إلا أن الخلاف على منصب رئيس الجمهورية، وللمرة الأولى، شكل تحديا حقيقيا لهذا التعاون، وهو ما انعكس على الخلاف حول مصالح الإقليم نفسه للمرة الأولى بين الطرفين في سياق العلاقة مع السلطة المركزية.
أما بالنسبة للقوائم السنية، فقد كانت تحالفاتها براغماتية دائما، ارتبطت بالمصالح التكتيكية المباشرة للمتحالفين، وبسبب ذلك كانت هذه التحالفات هشة غير قابلة للمطاولة من جهة، وغير قادرة على اتخاذ قرارات تتعلق بمصالح جمهورها من جهة أخرى! ففي العام 2005 انتهى الامر بجبهة التوافق إلى استحواذ الحزب الإسلامي على الجبهة، تحديدا بعد العودة من استقالة الجبهة من الحكومة عام 2008! أما القائمة العراقية التي تشكلت عام 2010، فقد ضمت خليطا غير متجانس من الجميع، وهو ما أسهم في تفككها سريعا! ليتكرر الأمر مع تحالف متحدون للإصلاح في العام 2014 الذي تفكك بعد إعلان نتائج الانتخابات مباشرة، ومع تحالف المحور الوطني التي تشكل بعد إعلان نتائج انتخابات عام 2018 ثم تفكك سريعا!
إن الحديث في العراق عن رؤى سياسية، أو مواقف مبنية على مبادئ حزبية راسخة، أو برامج سياسية متمايزة بين فرقاء سياسيين، يبدو لي حديثا عبثيا بتاتا؛ فنحن في الحقيقة أمام صراع على النفوذ والهيمنة والاستحواذ على أدوات السلطة وريعها، وبالتالي لا يمكن التعامل مع المواقف المعلنة على أنها مواقف نهائية غير قابلة للمراجعة، ففي النهاية ثمة شروط لعبة سيخضع لها الجميع سريعا، خاصة إذا ما فشلت الأطراف التي تحاول إدامة الوضع القائم في تمرير مشروعها بإدارة الدولة عن طريق التدليس، من دون الحاجة إلى رئيس جمهورية جديد او حكومة جديدة.
القدس العربي