لم يتوقف الإرهاب الصهيوني على الشعب الفلسطيني منذ تأسيس إسرائيل في العام 1948م وحتى يومنا هذا، إذ يتميز بأنه عمليات “رسمية” يجري تنفيذها ضمن خطة إرهابية شاملة من عمليات القتل المنظم من قبل عصابات أرجون والهاغانا وشتيرن في دير ياسين عام 1948م وكفر قاسم عام 1956، ونسف فندق سمير ميس عام 1948م، والاعتداء على مقهى اللفتاوي عام 1947م، إلى اغتيال أبرز قيادات المقاومة الفلسطينية في العواصم العربية والأوروبية، كاغتيال وائل زعتر في روما عام1972م اغتيال أبو يوسف النجار وكمال ناصر وكمال عدوان في بيروت عام 1973م، واغتيال محمود الهمشري في باريس عام 1973م، واغتيال أبو جهاد في تونس عام 1988م، بالإضافة للجوئهم إلى أبشع وسائل العنف لإخماد الانتفاضات الفلسطينية المتعاقبة، وخاصة انتفاضة عام 1987م، وعدم ترددهم باستخدام القوة العسكرية المفرطة في حربهم الإرهابية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، حرب2006م، 2008م، 2012م.
وإلى جانب كل هذه الأساليب الإرهابية اتبعت اسرائيل بعد اتفاق اوسلو شكلاً آخر من الإرهاب لا يقل ضراوة عن شكله التقليدي، ولكن الظرف الاقليمي والدولي والداخلي هو من يحدد طبيعة الإرهاب المتبع من قبل الاسرائيليين بحق الشعب الفلسطيني المحتل.
1-الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية: يعد شكل جديد من الإرهاب الذي يمارس على منظمة التحرير الفلسطينية: الدعوة إلى يهودية الدولة الاسرائيلية ليست ابنة اليوم بل لعلها تضرب بعيدا في تاريخ الفكر الصهيوني ولقد مثلت العلاقة بين الدين والدولة إشكالية كبيرة منذ قيام دولة اسرائيل، ولم تحل الإشكالية دون طرح الفكرة إلى على العالم من حين لآخر. لقد طالب شارون في لقاء العقبة عام 2003م بالاعتراف بإسرائيل دولة يهودية ومنذ تشديد جورج بوش في خطابه خلال اللقاء نفسه. وترتبط عملية احياء مفهوم الدولة اليهودية وتتزامن دوريا مع كل تحرك دولي جدي لدفع عملية التسوية إلى الأمام ويب
دو هذا الأمر واضحا في العديد من السوابق” موقف باراك في مفاوضات كامب ديفيد موقف شارون من خارطة الطريق، موقف أولمرت في أنابوليس، موقف نتنياهو/ أوباما”.
وبذلك لم تعد الفكرة قاصرة على تعريف الصهاينة لليهود بل تحولت إلى مفهوم تسعى إسرائيل من خلاله للحصول الاعتراف الدولي بيهوديتها. ولعل الهدف العملي الأساسي للحصول على ذلك الاعتراف هو شطب حق العودة وضمان توطين اللاجئين الفلسطينيين وعدم عودتهم إلى داخل إسرائيل، ومن ثم إلغاء قرار التقسيم الذي يكرس مبدأ “دولتين”. البحث عن صيغة لنقل جزء من الأرض بما عليها من بشر للسلطة الفلسطينية أو الدولة الفلسطينية في صفقة تبادلية مع بشر وأرض “مستوطنات يهودية” من الضفة الغربية والقدس الشرقية. تقييد الوجود غير اليهودي “العربي” في إسرائيل عبر تكريس الطابع اليهودي للدولة ومن ثم تقليص تدريجي للوجود العربي في إسرائيل.
وإذا كانت الدول العربية وفقا لمبادرة السلام العربية لا تمانع مبدئيا في الاعتراف بدولة إسرائيل مقابل التزام تلك الدولة بالسلام فإن مطالبة إسرائيل بالاعتراف بيهودية الدولة إنما يعني أن يتحول الاعتراف بها إلى اعتراف بالصهيونية. وبالتالي يتحول الاعتراف العربي من اعتراف واقعي إلى اعتراف مبدئي بالشرعية التاريخية القديمة لقيام دولة إسرائيل.
وإرهاب المفاهيم الذي تتبعه إسرائيل لا يقتصر فقط على الجانب الفلسطيني وإنما يشمل الأمن القومي العربي، ففي مقالة بعنوان “حدود الدم” للكاتب الامريكي رالف بيتر والتي نشرت في مجلة القوات المسلحة الأمريكية في عددها الصادر عام 2006م، يرى الكاتب أن الصراعات الشرق أوسطية والتوتر الدائم في المنطقة نتيجة “منطقية” لخلل كبير في الحدود الحالية التي وضعها حسب تعبيره “الأوروبيون الانتهازيون”. ويرفق بيتر بمقالة خارطة أمريكية جديدة تلغي الحدود القائمة وتقسم الدول الحالية بحيث تتحول الدولة الواحدة إلى دويلات وتنشأ دول جديدة صغيرة وتصغر دول كبيرة وهكذا. وهذا الطرح ينسجم مع يهودية الدولة الإسرائيلية التي يمكن اعتبارها الركيزة لتصاعد دعوات قائمة لإعلاء الانتماء الديني على الانتماء الوطني، لا نبالغ إذا ما أشرنا بأن الأرض العربية يجري حرثها بالفعل بحيث تصبح معدة لتقبل الفكرة. يكفي أن ننظر إلى ما يجري في العراق وسوريا وليبيا واليمن، وتصاعد انتشار المظاهر الشكلية في مصر وما جرى في السودان من تقسيم وتزايد تأثيرات الدولة الايرانية في المنطقة العربية.
أن قبول الفلسطينيون والعرب بيهودية الدولة له معنيان إرهابيان الأول يتمثل انتقال اسرائيل من الجغرافيا إلى الديموغرافيا أي انتقال من مبدأ التوسع العسكري إلى مبدأ الحفاظ على أغلبية يهودية في دولة إسرائيل والمعنى الثاني منح التيارات الأصولية الفرصة لتشديد ضغوطها على أنظمة الحكم في العديد من هذه الدول وربما إعطاء أساليبها “الإرهاب” شرعية أكبر خاصة مع فشل هذه الأنظمة على مدى عقود في اختبار التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
2-الاستيطان شكل آخر للإرهاب: تعد دولة إسرائيل من حيث التعريف تجمعا استيطانيا كان يشكل تراكميا من الجماعات اليهودية التي جرى تهجيرها من بلدانها الأصلية وتوطينها في فلسطين محل السكان الأصليين والدولة الاسرائيلية بهذا المعنى دولة المستوطنين. ولم يكن الاستيطان وقفا على مرحلة تاريخية واحدة وإنما هو نشاط أصيل ومتصل ويشكل أحد أهم أركان الفكر والحركة الصهيونية وترعى الدولة النشاط الاستيطاني سواء داخل الأراضي التي اقيمت عليها أو خلف الخط الأخضر في الأراضي الفلسطينية التي احتلتها في العام 1967م.
فالاستيطان الاسرائيلي بمعناه العام هو هدم المجتمع الفلسطيني وهذا بحد ذاته إرهاب. فقد كان عدد المستوطنين في الضفة والقدس المحتلتين قبل التوقيع على اتفاق أوسلو على لا يتجاوز ۱۲۰ ألف مستوطن، ولكن عددهم تضاعف بعد ذلك التوقيع إلى أن وصل عددهم إلى أكثر من ۷٥۰ ألف مستوطن؛ ومع ذلك فإن هذا الرقم الأخير قد يبدو غير دقيق بسبب وجود بؤر استيطانية تسمى بالبؤر العشوائية وتستخدم بشكل دائم أو مؤقت من قبل المستوطنين لم تدخل ضمن ذلك الرقم.
فالاستيطان يعتمد على مصادرة الأراضي وهدم المنازل والممتلكات الفلسطينية، وطرد الفلسطينيين وشق الطرق الالتفافية لتغيير الطابع العمراني والتكوين الديموغرافي للأراضي المحتلة بما فيها القدس الشرقية، فضلاً عن كون الاستيطان يشكل انتهاكاً لاتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحماية المدنيين وقت الحرب. ويعتبر الجدار العازل هو من أكبر النشاطات الاستيطانية التي شهدتها وتشهدها الأراضي الفلسطينية منذ توقيع اتفاقات أوسلو.
فالإرهاب الاستيطاني لا يقل أهمية عن إرهاب المفاهيم والمتمثل بالاعتراف بيهودية الدولة لأن سياسات النشاط الاستيطاني كانت ولا تزال ترتبط بمسار التسوية مع الجانب الفلسطيني ولذا تبقى الوظيفة الأساسية للاستيطان هي استباق عملية التفاوض وخلق وقائع ديموغرافية جديدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة يصعب تجاوزها وتحدد وتملي شكل وشروط التسوية. ومع الحاح على مفهوم الدولة اليهودية أضحى هناك تحولا في وظائف الاستيطان الذي يجري الاعتماد عليه لمنع التسوية وليس فقط اعاقتها أو تحديد شكلها وشروطها لأن يهودية الدولة تعني بالمفهوم الديني الحق لليهود في الاستيطان في كل أرض إسرائيل.
ومن المفيد الإشارة هنا أن هذا الاستيطان الآن يمارس بمكان آخر في الوطن العربي وهو العراق، إذ تقوم مليشيات الحشد الشعبي بتهجير أبناء المحافظات الغربية ذات طابع السني وتهجيرهم إلى المحافظات العراقية الأخرى كركوك وإقليم كردستان العراق، ليخلق وضعاً ديموغرافيا جديدا يتناسب مع طموحات المشروع الإيراني بحيث تصبح بشكل كبير المحافظات المجاورة للحدود السورية شيعية المذهب. فالاستيطان الصهيوني يفعل فعله في فلسطين والإيراني في العراق، وحدة في الهدف.
وخلاصة القول، وقبل ما أن يحاول نتنياهو أن يصبغ على الشعب الفلسطيني المقاوم لاحتلاله وإرهابه صبغة الإرهاب في تصريحاته الأخيرة، فيما يتعلق بالهولوكوست اليهودي، عليه أن يراجع الممارسات التاريخية للحركة الصهيونية وكيانها الإسرائيلي، ليدرك بأن الإرهاب ما هو إلا علامة مسجلة صهيونية في التاريخ الحديث والمعاصر.
معمر فيصل خولي
مركز الروابط والبحوث والدراسات الاستراتيجية