دول عربية لا تزال تائهة بين حوارات سياسية وحكومات متعثّرة

دول عربية لا تزال تائهة بين حوارات سياسية وحكومات متعثّرة

لندن – لا يزال عدد من الدول العربية رهينة أزمات سياسية واقتصادية تمنعها من تجاوز مرحلة الربيع العربي بكل اضطراباتها، والتأسيس لحالة من الاستقرار بإعادة إحياء وتفعيل الحياة السياسية، الأمر الذي سيمكنها حتما من مواجهة الأزمات العالمية.

ولتجاوز هذا الواقع الذي صار طويل الأمد، تتحرك السلطات في تلك الدول لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، حيث قرر بعضها إطلاق حوارات وطنية مع القوى السياسية المختلفة في البلاد بغية ترتيب البيت الداخلي بما يحقق المصلحة العليا للدولة، في حين يشهد عدد آخر من الدول خلافات حادة وتعثرا في تشكيل حكوماتٍ جديدة.

تأتي تونس في مقدمة الدول التي تشكو من أزمة سياسية وتحاول السلطة التنفيذية حلها بالحوار، فقبل أكثر من شهر أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد الذي بدأ في 2019 فترة رئاسية تستمر 5 سنوات عن انطلاق “حوار وطني” من أجل الإعداد لتنظيم استفتاء على دستور جديد للبلاد في الخامس والعشرين يوليو المقبل.

لكن دعوة سعيد واجهت جدلاً كبيراً في تونس بين رافضٍ ومتحفّظ ومشترط للمشاركة في هذا الحوار الذي سيكون بناءً على الاستشارة الوطنية (الاستطلاع الإلكتروني).

هذه الاستشارة الشعبية كان سعيّد أعلن منتصف يناير الماضي أنه سيجري إطلاقها عبر منصةٍ إلكترونية بهدف تعزيز مشاركة المواطنين في عملية التحول الديمقراطي، على أن يليها استفتاء شعبي لتحديد النظام السياسي ومنظومة الانتخابات.

ونُشِر في الجريدة الرسمية التونسية مرسوم رئاسي يقضي بتشكيل “الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة”، ولجنتين استشاريتين وأخرى خاصة بالحوار الوطني. إلا أن الاستشارة الإلكترونية بحد ذاتها لاقت انتقادات من العديد من الأحزاب التونسية وعلى رأسها حركة النهضة التي دعت صراحة إلى مقاطعتها.

وفي الجارة الجزائر تحاول السلطة التقارب مع المعارضة، فمنذ الثالث والعشرين مايو الماضي أطلق الرئيس عبدالمجيد تبون مبادرة للتوافق وفتح صفحة جديدة مع المعارضة في مقال نشرته وكالة الأنباء الرسمية تحت عنوان “عبدالمجيد تبون، رئيس جامع للشّمل”.

وجاء في المقال أن تبون “رئيس لطالما اهتم بالنقاش السائد في المجتمع ويده ممدودة للجميع بشكل دائم، ما عدا الذين تجاوزوا الخطوط الحمراء وأولئك الذين أداروا ظهرهم لوطنهم”، دون تحديد الجهة المقصودة.

وكرّر تبون مرارا أنه ينفذ وعودا انتخابية قدمها للجزائريين قبل انتخابه، وأن بابه مفتوح للحوار مع الجميع، ونفى وجود معتقلي رأي، مشدداً على أن الأمر يتعلق بقضايا “سبّ وشتم وليس حرية تعبير”.

بعض الدول العربية لا تزال تعيش تحت وطأة العنف والحرب اللذين تمخّض عنهما مسار الربيع العربي ومنها اليمن

وعقب مبادرة الرئيس الجزائري أطلقت السلطات سراح عدد من معتقلي الحراك السياسي، فيما قال السكرتير الأول لـ”جبهة القوى الاشتراكية” في مؤتمر صحافي مؤخرا إن تبون تعهد بإطلاق سراح معتقلي الحراك السياسي، لافتا إلى أن عددهم يصل إلى 300 شخص.

وتعيش دولة أخرى من دول المغرب العربي وهي موريتانيا وضعا مشابها، حيث طرحت الأحزاب الموريتانية الممثلة في البرلمان (12 حزباً من المعارضة والموالاة)، منذ فبراير 2021 وثيقة تضمّنت خارطة طريق لتنظيم حوار سياسيّ مع الحكومة.

وفي سبتمبر الماضي تعهّد الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني بتنظيم حوار سياسي شامل قال حينها إنه “لن يستثني أحداً ولن يحظر فيه أي موضوع”.

إلا أن الوزير الأمين العام للرئاسة الموريتانية يحيى ولد أحمد الوقف أعلن في الثاني من يونيو الجاري عن تعليق مسار الحوار السياسي، قائلاً إن “السياق الحالي لا يخدم الأهداف التي يسعى الحوار لتحقيقها”.

وأوضح أن تعليق الحوار لا يعني إلغاءه “وإنما إعادة الكرة إلى الطيف السياسي للاتفاق على مسار شامل يشمل جميع الأطراف دون استثناء لتظل التهدئة السياسية قائمة بين جميع الأطراف، ولا يتم إقصاء أي طرف”. وهو ما وصفته ستة أحزاب معارضة بأنه “طعنة في الظهر ولا أساس للحجج المبررة له”.

وغير بعيد عن المغرب العربي تسير مصر على الطريق نفسه، ففي السادس والعشرين أبريل الماضي أعلن الرئيس عبدالفتاح السيسي عن مبادرة لإطلاق حوار مع المعارضة، وذلك للمرة الأولى منذ تولّيه الحكم عام 2014.

وكلّف السيسي بإجراء هذا الحوار مع كل القوى السياسية “دون استثناء ولا تمييز”.

ولقيت المبادرة تأييداً واسعاً من أنصار النظام، فيما سُجل ترحيب بها من معارضين بارزين أبدوا استعدادهم للمشاركة، مقابل ترقّب حذر من نظراء لهم بالخارج.

وبالتزامن مع مبادرة السيسي، أفرجت السلطات المصرية عن 21 ناشطا سياسيا، وفق بيانات أعضاء لجنة العفو وحقوقيين منذ السادس والعشرين أبريل الماضي.

ورحبت منظمة العفو الدولية في بيان الأربعاء بإطلاق سراح معارضين مصريين، داعية إلى المزيد من الإفراجات، في إعلان مختلف عن السنوات الماضية التي كانت تشهد انتقادات حادة من المنظمة للقاهرة، وردودا مصرية رسمية تتهمها بـ”نشر الأكاذيب”.

من جانب آخر، تعيش دول عربية أوضاعا سياسية أكثر حرجا، حيث يعجز بعضها عن تحقيق توافق سياسي وتشكيل حكومات إنقاذ. ويعدّ لبنان الأبرز بينها، حيث وجد نفسه أمام استحقاق تشكيل حكومة جديدة تلقائيا بعد الانتخابات البرلمانية التي تمّت على مراحل كانت آخرها في الداخل بتاريخ الخامس عشر مايو الماضي.

ولن يكون يسيرا التوافق على تسمية شخصية لتكليفها بتشكيل الحكومة نظرا إلى عدم تمكن الأحزاب الكبرى التقليدية من المحافظة على أكثرية المقاعد البرلمانية بعد تسجيل اختراقات من مرشحين مستقلين.

هذا الواقع يضع لبنان أمام شبح الفراغ السياسي الذي عانى منه مرات خلال العامين الماضيين، خاصة أن ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون شارفت على الانتهاء، ما يعني أن الحكومة المزمع تشكيلها ستكون من أبرز واجباتها إدارة البلاد في حال عدم انتخاب رئيس جديد في الوقت المحدد.

كذلك هو الوضع بالنسبة إلى العراق، فمنذ إجراء الانتخابات البرلمانية في أكتوبر الماضي، يعيش البلد أزمة سياسية جراء خلافات بين القوى الفائزة بمقاعد برلمانية بشأن اختيار رئيس الوزراء المقبل وكيفية تشكيل الحكومة العتيدة.

وتمتدّ الخلافات إلى مرشح رئاسة الجمهورية، حيث يتعذر التوافق بين الأكراد على شخصية لتولي هذا المنصب.

ويسعى زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد في الانتخابات البرلمانية لتشكيل حكومة أغلبية وطنية من خلال استبعاد بعض القوى منها، وعلى رأسها ائتلاف “دولة القانون” بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، بينما تعارض القوى الشيعية ضمن “الإطار التنسيقيّ” وهي مقربة من إيران، توجّهات الصدر، وتطالب بحكومة توافقية تشارك فيها جميع القوى السياسية داخل البرلمان على غرار الدورات السابقة.

وجرت العادة أن يتولى السُنة رئاسة البرلمان، والأكراد رئاسة الجمهورية، والشيعة رئاسة الحكومة، بموجب عرف متبع في البلاد منذ الإطاحة بنظام الرئيس الراحل صدام حسين في 2003.

لا تزال بعض الدول العربية تعيش تحت وطأة العنف والحرب اللذين تمخّض عنهما مسار الربيع العربي لأكثر من عشر سنوات ومنها اليمن، حيث عجزت كل جهود المشاورات المدعومة عربيا على إيجاد حلول لأزمته وانهاء الاقتتال.

وكانت آخر هذه المحاولات استضافة مجلس التعاون الخليجي في التاسع والعشرين مارس الماضي لمشاورات للأطراف اليمنية في مقرّه بالرياض.

وفي السابع أبريل الماضي سلم الرئيس اليمني السابق عبدربه منصور هادي صلاحياته لمجلسٍ رئاسي برئاسة رشاد العليمي الذي قاد منذ تولّيه منصبه حراكاً سياسياً لترتيب فريق عمله لإدارة المرحلة الانتقالية الجديدة.

وعلى الفور بدأ العليمي حواراً مع نائبه عيدروس الزبيدي رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي الذي أكد أكثر من مرة موقفه الداعي إلى فصل جنوب اليمن عن شماله.

ومطلع أبريل الماضي أعلن مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن هانس غروندبرغ عن موافقة أطراف الصراع على هدنة لمدة شهرين قابلة للتمديد بدأت في اليوم التالي، ولقيت ترحيباً من التحالف العربي الذي تقوده السعودية، والقوات الحكومية والحوثيين، وفي الثاني من يونيو الجاري أعلن عن التوافق على تمديد الهدنة شهرين.

وتعيش ليبيا أيضا وضعا سياسيا غير مستقرّ، فبعد مقتل الرئيس الليبي الأسبق معمّر القذافي في 2011، دخلت البلاد في أزمة سياسية وأمنية ما تزال متواصلة، رغم أنها شهدت انفراجة بتشكيل حكومة الوحدة الوطنية الانتقالية في 2021.

وجاء تشكيل الحكومة برئاسة عبدالحميد الدبيبة عقب اختياره أثناء ملتقى الحوار السياسي الليبي في جنيف في فبراير 2021.

وفي العاشر من فبراير الماضي اختار مجلس النواب وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا رئيساً للحكومة الجديدة، لكن الدبيبة رفض القرار وبرّر ذلك بأن ملتقى الحوار السياسي حدّد مدة عمل السلطة التنفيذية الانتقالية بـ18 شهراً تنتهي في الرابع والعشرين يونيو الجاري.

ويأمل الليبيون في إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، في محاولة لإنهاء سنوات من النزاع المسلح في بلدهم الغني بالنفط، الأمر الذي تعسّر إنجازه حتى الآن، خاصة مع اعتراض بعض الفرقاء على الدستور والمطالبة بآخر جديد تتم وفقه الانتخابات.

ومنذ الخامس والعشرين أكتوبر الماضي، يشهد السودان احتجاجات رفضا لإجراءات استثنائية اتخذها قائد الجيش عبدالفتاح البرهان، أبرزها فرض حالة الطوارئ وحل مجلسي السيادة والوزراء الانتقاليين. والتي قال إنه اتخذها لـ”تصحيح مسار المرحلة الانتقالية”، وتعهّد بتسليم السلطة إمّا بالانتخابات أو في إطار توافق وطني.

وفي السابع والعشرين أبريل الماضي، أعلنت الآلية الثلاثية (الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية “إيغاد”) عن انطلاق حوار وطني في الأسبوع الثاني من مايو الفائت لحل الأزمة السياسية في السودان.

هذه الخطوة لقيت دعما أفريقيا ودوليا، في حين أعلنت قوى الثورة رفضها وتبنيها لشعار اللاءات الثلاث “لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية”.

من جهتها طالبت بعض القوى وعلى رأسها “إعلان الحرية والتغيير المجلس المركزي” (الائتلاف الحاكم سابقاً) بتهيئة الأجواء قبل الدخول في أي حوار من خلال إلغاء حالة الطوارئ وإطلاق سراح المعتقلين ووقف العنف ضد المتظاهرين.

الليبيون يأملون في إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، في محاولة لإنهاء سنوات من النزاع المسلح في بلدهم الغني بالنفط، الأمر الذي تعسّر إنجازه حتى الآن

وتلبيةً لذلك، أصدر البرهان في التاسع والعشرين مايو الماضي مرسوماً برفع حالة الطوارئ لتهيئة المناخ لحوار وطني لإنهاء الأزمة السياسية. وبعدها بيوم أفرجت السلطات عن 63 معتقلا سياسيا وفق هيئة محامي الطوارئ (مستقلة).

وكانت بدأت في السودان مرحلة انتقالية تنتهي بإجراء انتخابات مطلع 2024 يتقاسم خلالها السلطة الجيش وقوى مدنية وحركات مسلحة وقّعت مع الحكومة اتفاق سلام عام 2020.

لكن ذلك لم يحدث حتى الآن، إذ ما تزال الحياة السياسية متوقفة ولم ينجح الفرقاء في تشكيل حكومة جديدة منذ إعلان حل الأخيرة قبل أشهر.

ويعيش الصومال حالة اضطراب سياسي، حيث يجري الرئيس المنتخب حديثا حسن شيخ محمود مشاورات مكثفة مع السياسيين وشيوخ القبائل من أجل اختيار رئيس جديد للحكومة يكون توافقيا قادرا على حل الملفات الأمنية والاقتصادية والإنسانية في البلاد.

ويعدّ تعيين رئيس الحكومة الجديدة تحدياً بالنسبة إلى الرئيس الصومالي حيث يأتي رئيس الحكومة هذه المرة من قبيلة دارود وفق قاعدة 4.5 التي يتقاسم الصوماليون على أساسها المناصب السياسية.

وفي سجل الحكومات السابقة موجة من التجاذبات والخلافات السياسية أغلبها بين الرئيس ورئيس وزرائه، وينتقل الخلاف من حكومة إلى أخرى، حيث مر على البلاد نحو 6 رؤساء وزراء في حكومتين سابقتين نتيجة اعتبارات في المعادلة القبلية دون مراعاة الكفاءة والخبرة السياسية.

وفي ولاية سابقة للرئيس حسن شيخ محمود بين 2012 و2017، تناوب على هذا المنصب 4 رؤساء حكومة، وهو ما اعتبره كثيرون فشلاً في اختيار شخصية توافقية، ولهذا يكثف الرئيس مشاوراته هربا من تكرار هذا السيناريو.

ووفق مصادر صحافية، فإن الرئيس شيخ محمود يسعى لمخالفة العرف السياسيّ في البلاد حول نوعية الحكومة المقبلة، حيث أن 80 في المئة من وزراء الحكومات السابقة يأتون من البرلمان، خوفاً من فقدان الحصول على ثقته، لكن تشكيل حكومة تكنوقراط يأتي جميع أعضائها من خارج البرلمان يشكل تحديا للحصول على ثقة المجلس.‎

العرب