ربما توصل القادة الأكراد مبكرا إلى حقيقة مرة وهي أن القوى العالمية “الغربية” المؤثرة التي تهيمن على منطقة الشرق الأوسط وتتلاعب بمقدراتها وتوجه سياسات دولها وفق مصالحها الاستراتيجية، لا تسمح للشعب الكردي أن يتحرر من ربقة الدول الإقليمية ويشكل دولته المستقلة، مهما حاولوا أو ناضلوا من أجل ذلك، وأقصى ما يمكن أن يحصلوا عليه هو “كيان” كردي ضعيف شبه مستقل فاقد للسيادة تابع لدولة عنصرية وطائفية ميليشياوية قمعية، لا تتوانى عن استعمال القوة المفرطة لإخضاعه لإرادتها في أيّ لحظة.
ومن مصلحة القوى العظمى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، أن يبقى هذا الكيان الهلامي معلقا بين السماء والأرض، لا يطول بلح الشام ولا عنب اليمن. يتأرجح دائما بين الدولة واللادولة! ثلاثون عاما من عمر هذا الكيان الذي اكتسب طابعا دستوريا بعد 2003 وسمّي بإقليم كردستان رسميا ويتمتع بكل الشروط الأساسية التي تؤهله ليصبح دولة مستقلة ذات سيادة، لديه برلمان وحكومة ومؤسسات قانونية وسياسية واقتصادية مرموقة وقنصليات ومكاتب دبلوماسية وعلاقات خارجية نشطة، ولكن رغم ذلك ليس بين أجندة الولايات المتحدة والدول الغربية أيّ نوايا للسماح له بالتحول إلى دولة مستقلة. وقد رأينا كيف أدارت تلك الدول ظهرها لعملية الاستفتاء على الاستقلال التي جرت عام 2017.
أجندة الولايات المتحدة تقتضي أن يبقى الإقليم مرتبطا بنظام سياسي فاسد وفاشل، وتحت رحمة فصائل شيعية ولائية إرهابية لا تختلف كثيرا عن التنظيمات السنية الإرهابية. ولولا الهزة الجيوسياسية الكبرى التي ضربت المنطقة إبان غزو العراق للكويت عام 1990، والضغط الشعبي الهائل الذي شكله نزوح الملايين من الأكراد نحو الدول المجاورة، والمارد الإعلامي العالمي الذي غطى الحدث ونقل المعاناة “الأسطورية” التي تكبدها الأكراد، وأجبر الأمم المتحدة والقوى الكبرى على إصدار القرار رقم 688 من مجلس الأمن القاضي بسحب القوات العراقية من كردستان وتوفير الحماية الدولية للشعب الكردي مع توسيع هامش الحرية المشروطة داخل كيان هلامي مستهدف ومهدد بالسقوط في أيّ لحظة.
على المسؤولين الأكراد، الديمقراطيين البارزانيين منهم بشكل خاص، الذين يديرون السلطة في الإقليم، أن يحتاطوا للأمر قبل وقوعه ويعالجوا الأزمات الداخلية بحكمة وعزيمة
رغم أن هذا القرار التاريخي المهم قد “هيأ للإقليم فرصة للإعمار وتقديم قصة نجاح وتجربة جديدة في المنطقة”، على حدّ قول رئيس إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني، واكتسابها صفة الدستورية ككيان قائم بذاته، ولكنه تابع لدولة تحكمها الميليشيات وخاضع للمساومات السياسية والصفقات الاستراتيجية الدولية، والمحاولات جارية على قدم وساق وبشكل يومي متتابع لنزع الصفة الدستورية عنه وتفكيكه وإعادته إلى الحظيرة العراقية كمحافظات محدودة الصلاحيات.
ضراوة الهجوم الإعلامي والعسكري والاقتصادي والقانوني المبرمج على إقليم كردستان لم تدفع الولايات المتحدة وحلفاءها لإبداء أيّ موقف مساند له، واكتفوا بأخذ وضع المتفرج السلبي، وكأن الأمر لا يعنيهم لا من قريب ولا من بعيد. وهذا يدل على أن الولايات المتحدة على استعداد أن تغادر الإقليم وتترك الشعب الكردي ليواجه مصيره، إذا رأت أن مصالحها تقتضي ذلك، كما فعلت مع أفغانستان عام 2021.
على المسؤولين الأكراد، الديمقراطيين البارزانيين منهم بشكل خاص، الذين يديرون السلطة في الإقليم، أن يحتاطوا للأمر قبل وقوعه ويعالجوا الأزمات الداخلية بحكمة وعزيمة، لأنهم هم المستهدفون بالعدوان أساسا، رغم أن مصلحة هذه القوى الدولية في الوقت الراهن على الأقل مرتبطة بالسلطة الكردية، وهي لن تتوانى في الدفاع عنها لعدة أسباب، منها أنها السلطة الوحيدة التي تمتلك كيانا دستوريا في منطقة استراتيجية تتمتع بأهمية جيوبوليتيكية، وسط تركيا وإيران والعراق، ولها قوة عسكرية دستورية منظمة (البيشمركة)، وذلك على خلاف ميليشيات الحشد الشعبي التي لا تمتلك أيّ صفة دستورية.
والإقليم إلى جانب هذا يعتبر الحليف أو الصديق الوحيد لها في العراق والمنطقة الذي يدين بالولاء السياسي للدول الغربية. ورغم كل ذلك يجب ألاّ يغيب عن ذهن المسؤولين الأكراد أن الولايات المتحدة، ومعها الدول الغربية، لا يمكن أن تؤيد قيام الدولة الكردية، على الأقل في المنظور القريب. وقد رأينا كيف أنها أدارت ظهرها لعملية الاستفتاء على الاستقلال التي جرت عام 2017 ولم تحرك ساكنا تجاه غزو القوات العراقية والفصائل الميليشياوية مدينة كركوك!
العرب